أمام المتغيرات الحديثة التي تعصف بالأمة يتطلّب من خلالها استعداد فكري وخطاب دعوي جديد يتلاءم مع ظروف العصر، ودون المساس بالأصول والثوابت التي جاءت وفق ما في الكتاب الكريم والسنة النبوية.
والمرحلة الحالية تتطلّب تطوير الخطاب الدّيني في المجتمع السعودي وذلك في ظل التحديات المعاصرة، وصناعة خطاب دعوي يستوعب المتغيّرات الجديدة ويردم الفجوة بين الدّيني والوطني والفكري والأصولي والمحافظ والمجدّد!!
قضيّة مطروحة للنقاش.. يتحدّث حولها عدد من الأكاديميين الشرعيين والدعاة.. فكيف لنا الخروج من عنق الزجاجة؟!
التحديات المعاصرة:
بدايةً يؤكّد الدكتور عبدالرحيم بن محمد المغذوي أستاذ الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أن هنالك أهمية كبيرة في مجال تطوير الخطاب الديني في المجتمع السعودي في ظل التحديات المعاصرة وصناعة خطاب دعوي يستوعب المتغيرات الجديدة ويردم الفجوة بين الديني والوطني والفكري والأصولي والمحافظ والمجدد والمفكر والمثقف والفنان والتشكيلي والخطاط والترويحي والاقتصادي والمجتمعي والسياسي والتطبيقي وكل ما ينتظم في المجتمع السعودي من شرائح وطبقات واتجاهات ومعارف وعلوم وذلك لأن دعوة الإسلام ليست خاصة بطبقة دون أخرى ولا بإقليم دون آخر ولا بجنس ولون وأصل ونوع دون آخر قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، وفي الآونة الأخيرة برزت على الساحة السعودية في الداخل تقلبات فكرية واتجاهات متغايرة في ظل الأحداث العاصفة في الخارج سواء أكانت إقليمية أو عالمية ونتج عن ذلك تعدد في الآراء والاتجاهات الفكرية المنحرفة والسلوكيات الخاطئة والمناهج الضائعة والمبادئ الهدامة، ومن هنا يجب الاعتناء بمراجعة الخطاب الديني في ظل وجود التحديات المعاصرة وتهيئة المؤسسات الدعوية للقيام بأدوارها خير قيام. كما ينبغي دعم المحاضن التعليمية للدعوة والارشاد وتوعية المجتمع المدني من خلال أقسام الدعوة في الجامعات المعنية بذلك ودعمها وتطويرها لتتناغم مع متطلبات العصر الحديث. كما يحسن دعم مراكز الدعوة والمكاتب التعاونية للدعوة وتوعية الجاليات، والقيام بعقد ورش العمل وحلقات نقاش متخصصة والتدريب المستمر للدعاة وتزويدهم بالمهارات المناسبة في الاقناع ومخاطبة الناس بالاساليب الراقية والوسائل التعليمية الناجعة. كما يجمل تكشيف الفكر الديني لدى الدعاة عن واقع الحال لدى المنحرفين فكرياً والتبصير بالشبه التي يثيرونها وتدريبهم في الرد مع وجوب عقد اجتماع دوري للدعاة ومؤتمرات ومعارض وملتقيات للدعوة والدعاة وربط الدعاة بكتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرة السلف الصالح وبعلماء هذه البلاد المباركة.
وسائل التطوير:
وأضاف د. المغذوي أنّ من وسائل التطوير للخطاب الديني في المجتمع السعودي إيجاد (مجمع الدعوة الإسلامية والدراسات المعاصرة) ليكون منارة علم وهدى ومنبرا للدعاة ومرجعية دينية معتبرة ومرصدا لكل ما يتعلق بشؤون الدعوة والدعاة، وتطوير الخطاب الديني في المجتمع السعودي إيجاد (المرصد الدعوي) ليكون بمثابة بنك معلومات عن الدعوة الإسلامية، ومن الوسائل المعينة للتطوير إيجاد برنامج خاص بالتلاقح العلمي والفكري بين الدعاة والعلماء في الداخل ونظرائهم من المناسبين في الخارج عن طريق إيجاد (برنامج الداعية الدولي الزائر)، وإيجاد تمويل مناسب مثل الوقف الخيري الدعوي وإيجاد (البنك الدعوي) ليقوم بتمويل مشاريع الدعوة وطرق استثمار الفكر والبحوث والدراسات ومشاريع الأعمال الدعوية المتنوعة ومن الوسائل إيجاد (جامعة أو أكاديمة الدعوة الإسلامية) لتكون حاضنة قوية لدراسات الدعوة في مختلف المجالات. كما أدعو إلى العناية بدراسات الدعوة في المملكة العربية السعودية حرسها الله الداخلية والخارجية ورصد جهودها القيمة المضافة التي انتفع بها كل الناس في العالم ولتكون رداً قويا يلجم من يحط منها، وفي هذا السياق أدعو إلى إنشاء (جامعة الشيخ محمد بن عبدالوهاب العالمية) ويكون مقرها في «الدرعية «العاصمة التاريخية للدولة السعودية، وأدعو إلى تأسيس (رابطة الدعاة والعلماء) لتكون بمثابة مظلة قوية لتدعيم الخطاب الديني، وإيجاد (منظمة أصدقاء الدعوة ودعاة بلا حدود) لتبادل الخبرات والمعارف وتطوير المهارات في الخطاب الديني، كما أرى العناية ببرامج كليات الدعوة في المجتمع السعودي وتطويرها وتزويدها بالنواحي التطبيقية والبرامج التدريبية والدورات المناسبة، وتوجيه جزء من برامج الدراسات العليا والبحوث العلمية للعناية بتطوير الخطاب الديني مع مناسبة تفريغ باحثين «أكفياء» للقيام بإجراء دراسات تطوير الخطاب الديني في المجتمع السعودي.كما أقترح القيام بإجراء بحث وطني يعنى بتطوير الخطاب الديني باسم (نحو استراتيجية وطنية لتطوير الخطاب الديني في المجتمع السعودي على ضوء الكتاب والسنة والمتغيرات المعاصرة).
تأخر الأمة:
ويقول الدكتور رياض بن حمد العُمري الأستاذ المساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إنّ الناظر إلى حال الأمة الإسلامية اليوم يجد أنها تعيش في حالة من التأخر في مجالات مختلفة، ومنها مايتعلق بالخطاب الديني.
وتظهر ملامح هذا التأخر في عدم مواكبة هذا الخطاب في كثير من أشكاله وصوره لأسلوب العصر من جهة ولأحوال المتلقين من جهة أخرى، ولاشك أن هذا الأمر يقلل كثيراً من فائدة هذا الخطاب والاستفادة منه وهو ما يتناقض مع الغاية المقصودة والثمرة المرجوة من تبليغ الناس ودعوتهم لدين الله تعالى.
إن قضية تجديد الخطاب الديني أو تطويره تطرح أحياناً بمفاهيم سيئة وأغراض غير صحيحة تهدف إلى الانتقاص من الأصول أو الثوابت أو القطعيات الشرعية أو الذوبان ضمن ثقافات ومعتقدات لا تتفق مع أصول الإسلام وفروعه، وهذا ما جعل بعض الناس يتحفظ على هذه العبارة أحياناً ويسيء الظن بمراد المتكلم تارة أخرى، وهذا الأمر فيه تعميم خاطئ، وتطوير الخطاب الديني بضوابطه الصحيحة يجعل هذا الخطاب مثمراً محققاً لفوائده المرجوة، وهذه هي الغاية أن يفهم المتلقي دين الله وشرعه وبالتالي يسهل عليه العمل به كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.
المسائل الدينية:
وذكر د. رياض العُمري أننا في هذا العصر بحاجة ماسة إلى طرح (يُحسن) عرض المسائل الدينية بأدلتها الصحيحة، يهتم بتطهير العقيدة من شوائب الشرك والبدعة والخرافة، ينقي العقل من شبهات المضلين والمنحرفين، يدعو الى تقويم الأخلاق والسلوك، كل ذلك على أساس من الحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن. وبحاجة لطرح يُجيد عرض الإسلام أمام العالم كله بصورته السمحة، وينشر رسالة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائمة على الرحمة والعدل والإحسان، ويرد على شبهات المغرضين والحاقدين على هذا الدين الذين هالهم سرعة انتشاره وتمدده وتوسعه رغم سوء أحوال كثير من بلاد المسلمين اليوم، ونحن اليوم في عصر القرية الواحدة تعرض فيها الأفكار الفاسدة والمذاهب المنحرفة والديانات الباطلة بأزهى صورة وألين عبارة وأفضل حجة، أفلا يكون دين الله الحق أحق بذلك، أفلا يكون أصحاب الدين الصحيح والمنهج القويم بحاجة إلى ذلك، وما أحوج المسلمين اليوم وعلى وجه التحديد دعاته وعلماؤه أن ينفتحوا على العالم من خلال وسائل التقنية الحديثة والمعاصرة وبلغات العالم الحية ليصلوا إلى أنحاء العالم ويبلغوا دين الله تعالى بكل إخلاص وجد.
ضوابط التطوير:
ويؤكّد د. العُمري إن هذا التطوير في الخطاب الذي نصبو إليه لابد أن يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، يدعو إلى الانفتاح على العالم دون الذوبان فيه، منهجه الثبات على الأصول، والمرونة في الفروع، يستفيد من كل الوسائل العصرية في سبيل تحقيق أهدافه، وهذا التطوير لابد أن يستند إلى ضوابط شرعية وعلمية أساسها الفهم الصحيح لدين الإسلام في أصوله ومقاصده، في ثوابته ومتغيراته، ومن أبرز هذه الضوابط ما يلي:
أولًا: مراعاة التخصص: من الأمور البدهية أن من يريد التطوير في فن أو علم معين فلابد أن يكون على علم ودراية فيه، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره وفهمه، ومن تحدث في غير فنه أتى بالعجائب كما يقال.
وبسبب إهمال هذا الأمر أصبحنا نلحظ اليوم بعضا من غير المتخصصين يطلقون الأحكام والفتاوى جزافاً باسم التطوير والتجديد في الخطاب الديني وهو ليس من أهل التخصص الشرعي، وليس له قراءة صحيحة فيه، وليس له اطلاع على كلام العلماء، بل حتى لايجيد النقل ونسبة المسائل لأهلها. ناهيك أيضاً عمن يطالب بالتجديد في الخطاب الديني الإسلامي ويضع له ضوابطاً ومنهجاً وهو ليس من أهل الإسلام ولا علاقة له به وليس على اطلاع بعلومه ولا فنونه.
إن كون الشخص يبرع في مجال دنيوي معين لايعني أنه أصبح مؤهلاً للحديث في العلوم الدينية الشرعية بالفتوى والاستدراك والتصويب والتخطئة، فالتجديد مهمة العلماء الراسخين في العلم الذين يتمتعون بالفقه والخبرة والقدرة على الاستدلال بالنصوص، وإنزالها منازلها، ويعلمون قواعد الاستدلال من حيث العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد والنسخ، والمصالح والمفاسد، وهو شأن أيضاً المجامع والمؤتمرات العلمية التي تتمتع بالاستقلال في الرأي العلمي الشرعي.
إن أحكام الإسلام ليست بأقل حرمة من قضايا العلوم الدنيوية كالهندسة، والطب والجغرافيا، فإذا كنا لا نقبل من أعلام الهندسة أن يُفْتُونا في أدق الشؤون الطبية ولا في أوضحها وكذلك العكس فكيف نقبل من رجال لم يتخصصوا في الدراسات الدينية الإسلامية أن يفتونا في شؤون ديننا ويخطئوا كبار الأئمة والعلماء ويصححوا ويضعفوا في النصوص كمايشاؤون تحت مظلة التجديد والتطوير.
ثانيًا: الموضوعية والبعد عن الأهواء في سبيل الوصول للحق: والموضوعية تتطلب البحث عن الحقيقة، والتمسك بالحق بعيدًا عن الأهواء والمزاعم الفاسدة، كالكِبْر والمذهبية والتقليد وغيرها. وهذا الضابط من أهم الضوابط اللازمة لتجديد الخطاب الإسلامي وإعادة التصور الصحيح، والفهم السليم للمبادئ والأصول الإسلامية.
ثالثًا: التمسك بالأصول والثوابت الإسلامية: أصول الدين وثوابته لا تقبل التجديد بأية حال من الأحوال، وأي تجديد يتناول شيئًا منها فهو يدخل في إطار التحريف، كالدعوة الى مخالفة أصول العقيدة، وأركان الإسلام، وكل ما ثبت بدليل قطعي من الواجبات أو المحرمات وأصول الأخلاق، وكذا ما ثبت بنصوص قطعية في أمور الشريعة والحدود والقصاص والمعاملات، وأمور الأسرة من زواج وطلاق وإرث.
أما ما سوى ذلك من مسائل الاجتهاد التي تتعدد فيها الآراء وفق الدليل الصحيح فلامانع من المراجعة والنظر فيها بحسب ما يقتضيه الزمان والمكان والتغيرات المحيطة.
رابعاً: الالتزام بأساليب وقواعد اللغة العربية في تفسير النصوص الدينية وتأويلها: فاللغة العربية هي لغة الوحي، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وكذلك السُّنَّة جاءت بهذا اللسان العربي، لهذا كان اتباع أساليب وقواعد اللغة العربية في بيان معاني النصوص الدينية من ألزم الضوابط في الإطار التجديدي للخطاب الإسلامي.
خامساً: الجمع بين النصوص: بمعنى عدم الاعتماد على نصٍّ واحد في الحكم، وإغفال بقية النصوص الدينية التي وردت فيه. فالباحث المنصف لا يستطيع الوصول إلى الفهم الصحيح والتفسيرالصائب لنص مقتطع من سياق دون مراعاة لكامل اللفظ والمعنى أو تبيين الدلالة المستفادة من نص دون بحث عمَّا يرتبط به من نصوص أخرى توضح غريبه أوتقيد مطلقه أوتخصص عمومه.. الخ مماهو من منهج الاستدلال عند أهل العلم الذي من خلاله يتضح المعنى ويتعين المقصود.
الوعي والفهم:
ولخّص الدكتور رياض العُمري حديثه إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني الإسلامي أو تطويره مهمة لمواكبة قضايا العصر، مع مراعاة الضوابط سالفة الذكر، ومفتاح التجديد هو الوعي والفهم للإسلام من ينابيعه الصافية، بحيث يُفهم فهمًا سليمًا خالصًا من الشوائب، من خلال رجال يُحسنون عرض مفاهيم الإسلام وأحكامه بصياغة جيدة، تنقِّي الفكر من الخرافة، والعقيدة من الشرك، والعبادة من البدع والأهواء، والأخلاق من التحلل والانهيار، رجال يتبنون الجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، ويدعون إلى الانفتاح على العالم دون الذوبان فيه، منهجهم في الخطاب الديني الثبات على الأهداف، والفهم للمقاصد، والتمسك بالأصول، والتيسير في الفروع.
أمواج الفتن:
ويقول الشيخ سعود بن زيد المانع رئيس جمعية تحفيظ القرآن الكريم ومدير مكتب الدعوة والإرشاد بالدلم بمحافظة الخرج أن الدعوة إلى الله تعالى تلزم القادر عليها من أهل العلم الشرعي المؤصل والمنهج الصحيح إذا تعيّنت الحاجة لذلك بسبب قلة العلم الشرعي والمنهج الصحيح لكثرة المناهج ودعاة الضلال وقلة تحصين كثير من الناس لانشغالهم عن العلم الصحيح من مصادره الأصيلة وأهله الموثوقين المبني على الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.
وينبغي في دعوة الناس في هذا الزمان الذي تلاطمت فيه أمواج الفتن ودعاة الضلال وسهل ترويجها وسائل الاتصال الحديثة أن يسلك الدعاة الطرق التالية:-
1- الدعوة إلى المعين الصافي والوحيين بفهم السلف الصالح والتجديد في الوسائل المباحة التي ليس فيها محظور شرعي.
2- الوصول لكل شريحة من شرائح المجتمع بالوسائل المباحة التي يرغبونها بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي وأن يطرح لهم فيها ما يناسبهم.
3- الحرص على التركيز في الطرح على تأصيل العقيدة الصحيحة مع الاختصار والإيجاز قدر الإمكان.
4- الحرص على تعميق المنهج الوسطي الصحيح وربطه بمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه القدوة الذي تتفق عليه جميع الشرائح.
5- اللين في الخطاب مع الربط بالدليل من أكبر الأسباب في قبوله.
6- ربط الناس بالعلماء الربانيين الكبار في الفتوى في جميع القضايا والأمور الشرعية؛ لأنه سبب في اجتماعهم وسيرهم على المنهج الشرعي وعدم اضطرابهم عند تعدد الفتوى.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم