روعة الشريعة

نور الدين قوطيط

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إذا علمتَ أن مقصودَ الوحي الربَّاني هو تعريفُ الإنسان بخالقِه، وإعداده للقائِه بعد الموت، فاعلم أن كلَّ الأحكام الشرعية ومقاصدها وكلياتها، وإن تعلَّقت بشؤون نشاطات الحياة الدنيوية - فجوهرها هو الآخرة؛ ذلك لأن الإنسان مخلوقٌ للآخرة وليس للدنيا، وأن الدنيا ظلٌّ زائل، وفناء آفل..

 

 

 

 

من الأفكار المغلوطة حول مفهوم "الشريعة" ما يشيع بين الناس ويروج بينهم بأنَّ الشريعةَ تعني: الأحكامَ الفقهية المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية والدولية بمختلف أشكالها!

 ولا شكَّ أن هذا تصوُّر قاصر، وفهم مخلٌّ بمفهوم الشريعة في أبعادها المختلفة!

 

من الناحية التاريخية مارس العلماء التقسيمَ بين مكوِّنات الشريعة، ففصلوا بين "العقيدة" و"الأخلاق" و"الأحكام"، غير أن هذا التقسيمَ الذي رضيه أئمةُ العلم كان بالنسبةِ إليهم تقسيمًا تقنيًّا صِرْفًا؛ أي: إنهم لم يكونوا على المستوى الإدراكي والشعوريِّ والسلوكي يفصلون بين الأقسام؛ بل كانت في إدراكهم وإحساسِهم وسلوكهم متلازمة لا انفصام فيها.

 

ثم مع وصولنا إلى العصر الحديث قمة الانحدار والانحراف عن مسار الوحيَيْنِ، وبفعل الهجمةِ الشَّرسة التي أعلنها الغرب على المسلمين، ما فتئ صبيان الغرب (العلمانيون) يعملون على ترسيخ فكرة التقسيمِ بين العقيدة والشريعة والسلوك، لا باعتبارها آليةً تقنيةً محضةً كما تعامل معها العلماء سابقًا، وهم يبحثون عن أحكام كلِّ قسم، بل لتحقيقِ أهدافهم الخبيثة، وهي فصلُ المنهج الربَّاني بتكاملِه وشموليَّته عن نشاطات الحياة، بعد أن يكون هذا الفصلُ قد تمَّ على المستوى الإدراكي والوجداني في المسلم المعاصر.

 

إنهم يريدونها مسيحيَّة بلباس إسلامي!

 

من أجل ذلك؛ يجب إعادة بناء مفهوم الشريعةِ لدى المسلم المعاصر؛ ليكتسب دلالتَه وعمقه كما هو في الواقع القرآني والنبوي، وفي التطبيق العملي عند الجيلِ الأول من المسلمين.

 

إذًا نقول:

مفهوم الشريعة يعني: المنظومة ذات الأبعاد المتعدِّدة، التي حدَّد القرآن والسُّنة معالمَها وضوابطها، هذه التعدُّدية في جوانب الشريعة تشمل الجوانبَ التالية:

• التشريع العقائدي: أي: ما شرَعه الله تعالى ورسولُه الكريم مما يجب على المسلم اعتقادُه؛ بما يتعلق بالله تعالى، والأنبياء، والملائكة، وعالم البرزخ، والحشر، والجنة والنار... إلخ.

 

• التشريع الأخلاقي: أي: ما شرَعه اللهُ ورسوله الكريم لتحديد ضوابطِ الأخلاق الجميلة التي يجبُ على المسلم التحلِّي بها، والتخلِّي عن أضدادِها.

 

• التشريع العبادي: أي ما شرعه اللهُ تعالى ورسولُه الكريم لبيان الشعائرِ التعبُّدية التي يجب على المسلم التعبُّدُ والتقرب بها إلى الله سبحانه.

 

• التشريع الفقهي: أي ما شرعه اللهُ تعالى ورسولُه الكريم لتنظيم حياةِ الإنسان الاجتماعيَّة بمختلف نشاطاتها، وكذا عَلاقاته مع الآخر غير المسلم.

 

على أن مَرتكَز هذه المجالات يرجع إلى ثلاثة أصول:

• الأصل الأول: اللهُ سبحانه له وحدَه حقُّ وضع المنهج الذي يجب التزامُه؛ إذ هو الخالق وهو أعلم بما خلق: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) [الأنعام: 102].

 

• الأصل الثاني: الإنسانُ مُكلَّف بمهمة معيَّنة في الحياة خلقَه اللهُ تعالى لها؛ إذ إن الخالقَ تعالى لم يخلُقْه عبثًا، ولم يتركه هملًا: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].

 

• الأصل الثالث: مصيرُ الإنسانِ في الآخرة مرتَبطٌ بمسؤوليته في الدنيا؛ إذ إن الدنيا دارُ ابتلاءٍ وفناء، والآخرة دار جزاء وبقاء: ( اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [الروم: 11].

 

من خلال هذه المعطيات الآنفةِ الذكر، نستطيع أن نحدِّد روعةَ الشريعة الإسلامية بمستوياتها الأربعة: (العقيدة، الأخلاق، العبادة، التشريع) في الميزات التالية:

• الأولى: أنها ربَّانية: بحكم أن اللهَ تعالى هو من حدَّدها وفصَّلها: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [المائدة: 3].

 

• الثانية: أنها فطريَّة: بحكم أن الله تعالى لا يشرِّعُ إلا ما يناسب فطرةَ الإنسان: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) [الروم: 30].

 

• الثالثة: أنها شموليَّة: بحكم أن اللهَ تعالى شكَّل الإسلام ليكون منهجَ حياة شاملًا ومتكاملًا: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) [النحل: 89].

 

إذًا، يمكنُنا أن نفهم بأن الغايات التي تنشدُها الشريعة الإسلامية تدور كلُّها في أربعةِ أُطُرٍ:

• التوحيد الربَّاني: تحقيق التوحيد الخالص: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) [محمد: 19].

 

• التهذيب النفسيُّ: تحقيقُ التزكية الروحيَّة: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ) [الشمس: 9].

 

• التراحم الاجتماعي: تحقيقُ الوَحدة الاجتماعيَّة: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) [المائدة: 2].

 

• السمو المصيري: تحقيقُ السعادة الأخرويَّة: ( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ) [الأحزاب: 44].

 

فكلُّ تعاليم الشريعة، ما فهمتَ منها وما لم تَفهَم، تدور في هذه الفضاءات الأربعة، ومهما أشكل عليك شيءٌ من تلك التعاليم والتقريرات والمبادئ، فرُدَّه إلى هذه الأصول، تنحل عنك جميع الإشكاليات بحول الله تعالى.

 

على أن طابعَ وسَمَة هذه الأصول والجوانب المتعددة للشريعة - كما سبق بيانها - يتحدَّد في:

• التيسير: فاللهُ تعالى أراد بالإنسان اليسرَ والخير؛ ولذلك فكلُّ أحكام الشريعةِ وتكاليفها ميسَّرة لا عسرَ فيها، وهذا ما صرَّح به القرآن فقال: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر ) [البقرة: 185].

 

• الوسطيَّة: فاللهُ سبحانه حفظ هذه الشريعة من الميلان إلى الإفراطِ أو التفريط، بل راعى الوسطيَّة في كل شيء، عبر جلبِ المصلحة وتكثيرها، ودرء المفسدة وتقليلها، فهذا ما يحقِّق السعادة والفلاح للعبد: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) [البقرة: 143].

 

وما من شكٍّ في أن هذه الخصائص والسمات التي تتمتَّع بها الشريعة الإسلامية لها آثار طيبة في حياة المسلم، نجملها في:

• الشعور بالطمأنينة والأمان؛ لأنه يدرك أن هذه التعاليمَ والأحكام من الله تعالى، وهو أعلمُ بما خلق؛ ولذلك فهي عدلٌ كلُّها، رحمةٌ كلها، حكمة كلها.

 

• معرفته أن حياتَه بأهدافها وعَلاقاتها لن تستقيمَ إلا بالتزام تعاليمِ المنهج الربَّاني في نشاطاتِه المختلفة؛ لعلمِه أن المنهجَ الإسلاميَّ مُنسجِمٌ غايةَ الانسجام مع الفطرة؛ ولذلك فهو مفتاحُ السعادة.

 

• الالتزامُ بهذه التعاليم من منطلق الاستجابةِ لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس نتاجَ تقاليد اجتماعيَّة - يفيض في أعماقه الرضا والطمأنينة، والعزيمة والإصرار.

 

إذا علمتَ أن مقصودَ الوحي الربَّاني هو تعريفُ الإنسان بخالقِه، وإعداده للقائِه بعد الموت، فاعلم أن كلَّ الأحكام الشرعية ومقاصدها وكلياتها، وإن تعلَّقت بشؤون نشاطات الحياة الدنيوية - فجوهرها هو الآخرة؛ ذلك لأن الإنسان مخلوقٌ للآخرة وليس للدنيا، وأن الدنيا ظلٌّ زائل، وفناء آفل.

 

ومن هنا كان للأحكامِ الخمسة: الوجوب، والندب، والحظر، والكراهة، والإباحة - تعلُّق وثيقٌ بمقاصد الوحي وغايات الشريعة؛ ولهذا أقول:

• إذا كان الحكمُ على الوجوب، فمعناه: أنه لا بدَّ منه لإقامة نظام الحكمة الإلهيَّة في حياة الإنسان.

 

• إذا كان الحكمُ على النَّدب، فمعناه: أنه يساعدُ على إقامة نظام الحكمة الإلهيَّة في حياة الإنسان.

 

• إذا كان الحكمُ على الحظرِ، فمعناه: أنه مُفسِد ومُعطِّل لنظام الحكمة الإلهية في حياة الإنسان.

 

• إذا كان الحكمُ على الكراهة، فمعناه: أنه مُعرْقِل لإقامة نظام الحكمة الإلهية في حياة الإنسان.

 

• إذا كان الحكمُ على الإباحة، فمعناه: أنه على الحِياد، وإنما يصنف في إحدى الخانتَيْن: (المصلحة أو المفسدة)، على وَفْقِ مَيْلِ الإنسان به إلى هذه أو تلك.

 

ولهذا ما زالَ اللهُ تعالى ورسولُه الكريم يُوصي العبدَ المؤمن بالإخلاص على مستوى الباطن، والاتباع للمنهج الربَّاني على مستوى الظاهر، فلا يُقبَلُ عمل ظاهر إلا بنية خالصة، ولا تنفع نيةٌ خالصة إلا بالتزام شرعي ظاهر، وهذا هو جوهر قول الله تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [آل عمران: 31]، وقول الرسول: "لا يؤمن أحدُكم حتى يكونَ هواهتبعًا لما جئتُ به".

 

هذا الاتباعُ الذي يأمرنا الله تعالى ورسولُه -صلى الله عليه وسلم- به، يتمثَّل في مرتبتَيِ التسليم للوحي، وهما:

• المرتبة الأولى: وهي خاصةٌ بالتسليم العملي؛ أي: إن المسلمَ يسلِّم للشرع في أحكامه وضوابطه، ويلتزمها في نشاطات حياته وعلاقاته، حتى دون فقه لها.

• المرتبة الثانية: وهي خاصةٌ بالتسليم العلمي؛ أي: إن المسلمَ يُسلِّم للشرع في أحكامه وضوابطه، ويلتزمُها في نشاطات حياتِه وعلاقاته بعلمٍ وفهمٍ وبصيرة.

 

وهذا راجعٌ إلى حقيقة جوهريَّة، وهي: نهايةُ العقول بداية الشرائع، وتفسير قاعدتنا هذه هو:

العقلُ يدركُ الحقائقَ بشكلٍ جزئيٍّ ومجمل فقط؛ لأنه مخلوق، وكلُّ مخلوق فهو محدود، بالرغم من أن الله تعالى منحَه القدرةَ الفطرية على الفهم والإدراك بشكل تراكميٍّ ومستمرٍّ في مسار الأبدية؛ أي: إن العقلَ من جهةٍ لا يستطيع أن يحيطَ علمًا بشكل مفصَّلٍ ومطلقٍ بكل شيء؛ لأنه مخلوقٌ، ومن جهة أخرى لديه القابليَّة للإدراك الدائم؛ لأن اللهَ تعالى أعطاه هذه القابليَّة، بحيث لو تصوَّرنا أن الموت لا يكون، فإن الإنسان سيظلُّ دائمَ الإدراك للعلوم والمعارف إلى الأبد.

 

وهذا يُبرهِنُ بشكلٍ قاطعٍ على أن مصدرَ العقل ومصدرَ الوجودِ، ليس مادِّيًّا من طبيعة الكون والإنسان، بل هو موجود خارج الزمان والمكان والإنسان، خلق العقل والكون على هذا النحو البديع؛ ولهذا فإن دائرة إدراك العقل محدودةٌ وضيقة؛ لأنه في أقصى حالاتِه لن يستطيع الانعتاقَ من قبضة مجموعةِ عواملَ تُساهم في تضييق مجالِه الإدراكي؛ مثل: عاملٍ نفسي ضاغط، عامل فكري مُسبق، عامل تاريخي حضاري، عاملِ محدوديةِ وسائلِه المادية... إلخ.

 

أما الشرع، فدائرته أوسعُ وأشمل؛ لأنها تنزيلٌ من الله العليم الخبير: ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [الملك: 14]، فتأمَّل كيف استعمل اسم: اللطيف والخبير للتنبيه على الإحاطة الشموليَّة والدقيقة المطلقة بالمخلوقات كافَّة؛ ولهذا كان العقل بقدرِ ما يكون قريبًا من الله تعالى بقدر ما تتوسَّع دائرة إدراكه، وتتفتق طاقاته الدفينة؛ فلهذا قلنا: نهايةُ العقل بداية الشرع؛ أي: إن أقصى ما يمكن للعقلِ أن يَصلَه في مراتب الإدراك، فهو بدايةُ الشرع، كما قال العارفون بالله تعالى: نهايةُ الصدِّيقين بداية الأنبياء.

 

والأمر أشبهُ بالمستيقظ والنائم، فالمستيقظُ دائرةُ إدراكه محدودة بفعل عوامل متعدِّدة، لكن في المنام تنتفي هذه العوامل، فيرتقي النائمُ إلى مراتبَ أعلى وأوسع من مرتبة اليقظة - أقصد: الرؤى - وأشبه أيضًا بالنظر بالعين المجرَّدة، والنظر بالمنظار؛ فالعين المجردة دائرة رؤيتِها محدودة، أما بالمنظار، فإن هذه الدائرة تتوسَّع أكثر وأكثر.

 

وأختم بالقول: إذا وجدتَ مَن (يُثرْثِرُ) حول نقائصِ الشريعة، فاعلم أنه إما ناقصُ العقل جَهول، أو ماكرٌ خبيثٌ يسعى لهدم الشرع من الداخل.

 

والله الموفق.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات