أمراض على طريق الدعوة (20) الحقد

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إنَّ الحقد حمل ثقيل يتعب حامله، يحمله الجاهل في صدره فيشقي به نفسه، ويفسد به فكره، ويشغل به باله، ويقض به مضجعه، ويكثر به همه وغمه، إنه كحمل من أحمال الشوك الملتهب الحار، المحشو بصخور ثقيلة محمية تنفث السموم التي تلتهب منها الصدور، ويظل الجاهل الأحمق يحمل هذا الحمل الخبيث مهما حل أو ارتحل، حتى يشفي حقده بالانتقام ممن يحقد عليه.

 

 

 

 

النفس البشرية بأصل خلقتها وفطرتها التي فطرها الله -عز وجل- بها الكثير من التباينات والمنعرجات، فالله -عز وجل- وصف الإنسان في محكم التنزيل بقوله (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [ المعارج: 19 ـ 21]، والسعيد من رزقه الله -عز وجل- نفساً مطمئنةً مؤمنةً ترضى بما قسم الله لها، وانشغلت بعيوبها عن عيوب الغير، فراحت تصلحها وتقومها، والشقي من تسخط على أقدار الله وكانت نفسه قلقة جزعة منكودة، فراحت تنظر حولها، وتحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله . وإن من أسوأ الأمراض التي من الممكن أن يصاب بها مسلم فضلاً عن الدعاة والخطباء والوعاظ؛ مرض "الحقد" الذي يمثل حالة متردية من الانهيار الأخلاقي والإيماني، بحيث يغلب سواد النفس والقلب على نورها وبياضها.

 

أولاً: تعريف الحقد لغةً واصطلاحاً:  

 

الاحتباس والمنع، يقال: حقد المطر حقداً، وأحقد: احتبس ومنع. وقال ابن الأعرابي: حقد المعدن وأحقد: إذا لم يخرج منه شيء، وذهبت منالته، ومعدن حاقد: إذا لم ينل شيئاً، وأحقد القوم: إذا طلبوا من المعدن شيئاً، فلم يجدوا، والحقود: كثير الحقد، والأحقاد: التصيير إلى الحقد، نقول: أحقده الأمر، وأحقده غيره، صيره حاقداً.

هناك ألفاظ عديدة وردت بمعنى الحقد بمعناه الاصطلاحي، فيقال –مثلاً-: في صدره: حقد، وضغن، وضغينة، وإحنة، ودمنة، وغل، وغمر، ووغر، ووغم، وحزازة، وطائلة، وغائلة، وحسيفة، وحسيكة، وسخيمة.

 

فالضغن لغة:

أ-الميل أو الجور نقول: ضغنوا عليه: مالوا عليه، واعتمدوا بالجور، وقال ابن الأعرابي: ضغنت إلى فلان: ملت إليه، كما يضعن البعير إلى وطنه، وإذا قيل في الناقة: هي ذات ضغن، فإنما يراد نزعها -أي الشوق إلى وطنها-وربما استعير ذلك في الإنسان.

 

ب-الانطواء على الحقد، نقول: تضاغن القوم واضطغنوا: انطووا على الأحقاد.

 

ج-الامتناع عن إعطاء كل ما في النفس لسبب ما، نقول: فرس ضاغن، وضغن: لا يعطي كل ما عنده من الجري حتى يضرب، وقال أبو عبيدة: فرس ضغون وهو الذي يجري كأنما يرجع القهقرى، وفي حديث عمر: "والرجل يكون في دابته الضغن فيقومها جهده، ويكون في نفسه الضغن فلا يقومها"، والضغن في الدابة أن تكون عسرة الانقياد. ولا تعارض بين هذه المعاني الثلاثة؛ إذ هو الانطواء على الحقد، المعبر عنه -أحياناً- بالميل أو الجور بصورة تمنع من إعطاء كل ما في النفس.

 

أما الوغر لغة:

 

أ-شدة توقد الحر أو الاحتراق من الغيظ، نقول: في صدره على وغر –بالتسكين-: ضغن، وعداوة، وتوقد من الغيظ، والمصدر الوغر بالتحريك.

 

ب-الامتلاء غيظاً، نقول: وغر صدره عليه، يوغر وغراً، ووغر يغر: إذا تجرع أو امتلأ غيظاً وحقداً، والتوغير: الإغراء بالحقد، وأوغرت صدره على فلان: أوقدته، وأحميته من الغيظ.

 

ج-الصوت، وهو مشتق من إيغار الخراج، وهو أن يؤدي الرجل خراجه إلى السلطان الأكبر فراراً من العمال. ولا تعارض؛ إذ هو امتلاء القلب غيظاً وحقداً، بصورة توقده وتحرقه.

 

 والغل لغة: الغش أو الضغن والحقد، نقول: غل صدره غلاً وغليلاً: كان ذا غش، أو ضغن، وحقد، ومنه قوله سبحانه في التنزيل: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ...) [الأعراف: 43، الحجر: 47].

 

أما الحقد اصطلاحاً: فإن الحقد وما في معناه من: الضغن، والوغر،والغل يعني: حبس أو إمساك العداوة والبغضاء في الصدر للعجز عن التشفي حالاً مع التربص أو التحين للتعبير عنها بصورة من الصور، أو شكل من الأشكال مآلاً، وعرفه الشريف الجرجاني بقوله: "الحقد: هو طلب الانتقام، وتحقيقه أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه، فصار حقداً "، أو هو:"سوء الظن في القلب على الخلائق لأجل العداوة"، والتعريف الأول الذي نقلناه عن الجرجاني لا يختلف كثيراً عن التعريف الذي ذكرناه، أما التعريف الثاني فإنه تعريف للحقد ببيان آثاره.

 

وقال الغزالي: "ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله، والبغضة له، وأن يدوم ذلك ويبقى".

  

وقيل: إن الحقد "هو العداوة الدفينة في القلب، والعداوة هي كراهية يصاحبها رغبة بالانتقام من الشخص المكروه إلى حدِّ إفنائه وإلغائه من الوجود، ومن مرادفات الحقد -تقريباً-: كلمة الغل، فالغل هو العداوة المتغلغلة في القلب، ومن مرادفاته أيضاً: الضغن، والشحناء، فهي جميعاً كلمات تدور حول معنى واحد أو معان متقاربة، ترجع بوجه عام إلى معنى العداوة، مع بعض فروق في الدلالات".  

 

الفرق بين الموجدة والحقد:

 

ذكر ابن القيم فروقًا بين الموجدة والحقد فقال: "أن الوجد: الإحساس بالمؤلم، والعلم به، وتحرك النفس في رفعه؛ فهو كمال. وأما الحقد فهو إضمار الشرِّ، وتوقعه كلَّ وقت فيمن وجدت عليه، فلا يزايل القلب أثره.

 

وفرق آخر: وهو أن الموجدة لما ينالك منه، والحقد لما يناله منك، فالموجدة وجد ما نالك من أذاه، والحقد توقع وجود ما يناله من المقابلة، فالموجدة سريعة الزوال، والحقد بطيء الزوال، والحقد يجيء مع ضيق القلب، واستيلاء ظلمة النفس، ودخانها عليه، بخلاف الموجدة فإنها تكون مع قوته، وصلابته، وقوة نوره، وإحساسه".

 

ثانياً: صور الحقد:

 

وللحقد صور تدل عليه، وأمارات يعرف بها، منها:

 

1-تشويه صورة وسمعة الدعاة المخلصين، والبررة المجاهدين الذين وقفوا حياتهم على دين الله، فعاشوا وماتوا لهذا الدين، وعلى هذا الدين، وما كان لهم من جريرة أو ذنب إلا أنهم يقولون: ربنا الله، وأن سمعتهم، ودعوتهم طارت في الخافقين.

 

2-الوقوف عند بعض الأخطاء التي تاب منها أصحابها، وانتشرت هذه التوبة في كل الأوساط حتى عرفها العام والخاص، والقاصي والداني، ثم إشاعة هذه الأخطاء بين الناس في كتب ومؤلفات ومحاضرات؛ لتشويه صورة أصحابها، والتشويش على المنهج الذي يعتنقون، والدعوة التي لها يعملون، مثل التعليق المستمر على موقف الأستاذ سيد قطب من بعض الصحابة مع أنه تاب ورجع عن ذلك.

 

3-تفسير بعض المواقف التي أملتها الظروف والوقائع، وكانت بنت بيئتها وأجوائها، وربما كانت تمليها حكمة الدعوة إلى الله من بعض الدعاة على أنها عمالة، وجاسوسية، وعلى أن أهلها ماسونيون أو رافضة، أو كفار مبتدعون.

 

4-الحط على كل من لا يذعن لهم بالولاء، أو يخالفهم المذهب والمشرب، أو كان سبباً في تعريتهم، وكشف سوءاتهم على الملأ من الناس، وهذه الصورة من الحقد كانت منتشرة قديماً بسبب التعصب المذهبي والجمود الفقهي وقفل باب الاجتهاد.

 

5-الامتناع عن الجهاد بالنفس أو المال، أو بهما معاً، في المواقف التي تتطلب جهد وبذل كل مسلم، وكانت هذه الصورة لا تصدر عادة إلا من المنافقين أيام الإسلام الأولى. قال تعالى: (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) [محمد: 37]، يقول الماوردي: فيه ثلاثة أوجه:

 

أحدها: أن الإحفاء أخذ الجميع، قاله ابن زيد، وقطرب.

 

والثاني: أنه الإلحاح وإكثار السؤال، مأخوذ من الحفاء، وهو المشي بغير حذاء، قاله ابن عيسى.

 

الثالث: أن معنى معه (فَيُحْفِكُم)، أي فيجدكم تبخلوا، قاله ابن عيينة.

 

وقوله تعال: (يُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم، والثاني: يظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم".

 

ثالثاً: الحقد في القرآن والسنّة:

1-والحقد وما في معناه من الضغن، أو الوغر أو الغل، إن كان مصوباً نحو أهل الصلاح والتقوى فهو قبيح مذموم. دلنا على قبحه وذمه: أن الله مدح صنفاً من الناس أنه كان إذا دعا ضمن دعاءه سؤال ربه أن يطهر قلبه من هذا المرض فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10]. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية: هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان، كما قال في آية براءة : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة: 100]، فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ) أي قائلين: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً) أي بغضاً وحسداً (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). وما أحسن ما استنبط الإمام مالك -رحمه الله- من هذه الآية الكريمة: أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب؛ لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء".

 

2-بين الله أن من تمام منته، وفضله على أهل الجنة أنه طهر قلوبهم من الغل، فلا يبغض بعضهم بعضاً، ولا يكره بعضهم بعضا، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف: 43].

 

قال الماوردي: "قوله عز وجل: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) فيه أربعة أوجه: أحدها: الأهواء والبدع، قاله سهل بن عبد الله، والثاني: التباغض والتحاسد، والثالث: الحقد، والرابع: نزع من نفوسهم أن يتمنوا ما لغيرهم. وفي نزعه وجهان: أحدهما: أن الله نزع ذلك من صدورهم بلطفه، والثاني: أن ما هداهم إليه من الإيمان هو الذي نزعه من صدورهم، وفي هذا الغل قولان: أحدهما: أنه غل الجاهلية، قاله الحسن، والثاني: أنهم لا يتعادون ولا يتحاقدون بعد الإيمان، وقد روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله- عنه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) وقيل: إنها نزلت في أهل بدر، ويحتمل قوله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا...) وجهين: أحدهما: هدانا لنزع الغل من صدورنا، والثاني: هدانا بثبوت الإيمان في قلوبنا حتى نزع الغل من صدورنا، وفيه وجه ثالث: هدانا لمجاوزة الصراط ودخول الجنة"

3 ـ وقال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ...) [الحجر:47].

 

قال الطبري: "وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعداوة، كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلوها على سُرُر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضًا على شيء خصَّ الله به بعضهم، وفضله من كرامته عليه، تجري من تحتهم أنهار الجنة ".

 

وقال القرطبي: "ذكر الله -عز وجل- فيما ينعم به على أهل الجنة؛ نزع الغل من صدورهم. والنزع: الاستخراج والغل: الحقد الكامن في الصدر. والجمع غلال ". وقال السعدي:"وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي كان موجودًا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، أن الله يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانًا متحابين، وأخلاء متصافين ويخلق الله لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم. فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه قد فقدت أسبابه ". يقول الماوردي:"قوله عز وجل: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) فيه وجهان: أحدهما: نزعنا بالإسلام ما في صدورهم من غل الجاهلية، قاله علي بن الحسين، الثاني: نزعنا في الآخرة ما في صدورهم من غل الدنيا قاله الحسن.

 

4-وبين سبحانه أنه قادر على فضح المنافقين بإبراز ما في قلوبهم من ضغن وحقد فقال سبحانه: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) [محمد: 29]. قوله عز وجل: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض) فيه وجهان: أحدهما: شك، قاله مقاتل، الثاني: نفاق، قاله الكلبي. وقوله تعالى: (لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ...) فيه أربعة أوجه: أحدها: غشهم، قاله السدي، الثاني: حصدهم، قاله ابن عباس، الثالث: حقدهم، قاله ابن عيسى، الرابع: عدوانهم.

 

هذا في كتاب الله -عز وجل-، أما من السنّة النبوية فالأحاديث كثيرة منها: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من لم يكن فيه غفر له ما سواه لمن شاء: من مات لا يشرك بالله شيئاً، ولم يكن ساحراً يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه".

 

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كنا جلوساً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة"، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، وقد تعلق بعلقة بيده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول، فلما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- تبعه عبد الله بن عمرو، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله  -عز وجل- وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر.

 

قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لنا ثلاث مرات: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة "، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك فأنظر: ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق". وهكذا تكشف لنا هذه النصوص عن قبح وذم الحقد، وما في معناه، لاسيما إذا كان منصباً على واحد من المسلمين أهل التقوى والصلاح.

 

أما من أقوال السلف والعلماء في الحقد: فقد قال: عثمان -رضي الله عنه-: "ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله -عز وجل-على صفحات وجهه وفلتات لسانه". وقال زيد بن أسلم -رضي الله عنه-:"دخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا". وقال ابن حجر الهيتمي: "الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب". وقال أبو حاتم: "الحقد أصل الشرِّ، ومن أضمر الشر في قلبه أنبت له نباتًا مرًّا مذاقه، نماؤه الغيظ، وثمرته الندم". وكان يقال: "الحقد داء دوي. ويقال: من كثر حقده، دوي قلبه. ويقال: الحقد مفتاح كلِّ شرٍّ. ويقال: حلَّ عقد الحقد، ينتظم لك عقد الود.ويقال: الحقود والحسود لا يسودان".

 

رابعاً: آثار الحقد:

 

إنَّ الحقد حمل ثقيل يتعب حامله، يحمله الجاهل في صدره فيشقي به نفسه، ويفسد به فكره، ويشغل به باله، ويقض به مضجعه، ويكثر به همه وغمه، إنه كحمل من أحمال الشوك الملتهب الحار، المحشو بصخور ثقيلة محمية تنفث السموم التي تلتهب منها الصدور، ويظل الجاهل الأحمق يحمل هذا الحمل الخبيث مهما حل أو ارتحل، حتى يشفي حقده بالانتقام ممن يحقد عليه ومن آثاره:

 

1-أنه يثمر الحسد، وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه؛ فتغتم بنعمة إن أصابها، وتسر بمصيبة إن نزلت به.

 

2-الشماتة بما أصابه من البلاء.

 

3-الهجران والمقاطعة.

 

4-الإعراض عنه استصغارًا له.

 

5-التكلم فيه بما لا يحل من كذب، وغيبة، وإفشاء سر، وهتك ستر، وغيره.

 

6-محاكاته استهزاء به، وسخرية منه.

 

7-إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه.

 

8-منعه من حقه من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة.

 

9-الحقد من مظاهر دنو الهمة، فهو لا يصدر من النبلاء، ولا يليق بالعقلاء.

 

10-الحقد ينبت سوء الظن، وتتبع العورات، والهمز واللمز، والغيبة والنَّمِيمَة.

 

11-ومن مضار الحقد أيضًا أنه يقتضي التشفي والانتقام.

 

12-جحد الحق وعدم اتباعه.

 

خامساً: أسباب الحقد:

 

وللحقد أسباب توقع فيه، وبواعث تؤدي إليه، وأهم هذه الأسباب وتلك البواعث:

 

1- الحرمان: وذلك أن الحق تبارك وتعالى قد يحرم المرء نعمة من النعم من مال، أو حرفة، أو سلطان، أو وجاهة، أو لسان، أو صحة، أو عقل وذكاء، أو زوجة وضيئة، أو ولد، أو عشيرة، أو هيبة ووقار، أو قبول ونحو ذلك، ويعطيها غيره، ويقف المرء عند هذا الحرمان ناسياً أو متناسياً أن الله -عز وجل- يقسم النعم على عباده تبعاً لما سبق في علمه، وفي كتابه، وحسب عمل كل منهم ونواياه، حيث يقول سبحانه في نعمة كالمال مثلاً: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27]، وفي الحديث القدسي: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته؛ لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته؛ لأفسدت عليه دينه". وحين يقف المرء عند حدّ هذا الحرمان ناسياً حكم الله في خلقه، يمتلئ حقداً وغلاً من داخله، ويظل ينتهز الفرصة؛ للتعبير عن هذا الحقد، وذلك الغل في صورة من الصور، أو شكل من الأشكال.

 

2-سوء التوزيع والتفريق في المعاملة: وقد يكون سوء التوزيع للثروة وكذلك التفريق في المعاملة بين أفراد البيت الواحد، والعشيرة الواحدة، وبين أبناء الوطن، أو المجتمع الواحد، وكذلك الأمة الواحدة، من الأسباب التي توقع في الحقد لاسيما والتوزيع والمعاملة ما باتا يقومان الآن على أساس المواهب والطاقات والإمكانات كما كان في العصور الإسلامية الزاهرة، وإنما أصبحا يقومان على اتباع الهوى والمحاباة والمجاملة.

 

ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على العدالة في التوزيع، والتسوية في المعاملة من مستوى الأسرة البسيطة إلى مستوى الإمارة والدولة، إذ يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 135]، (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152]، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لبشير بن سعد -رضي الله عنه-، وقد أراد تفضيل ولده من عمرة بنت رواحة بطلب منها، على إخوانه من غيرها: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم".

 

3-الكبت والقهر: وقد يكون الكبت والقهر وراء الوقوع في آفة الحقد؛ ذلك أن المرء إذا حيل بينه وبين التعبير عما يجيش بصدره، وما يجول بخاطره وأضيف إلى ذلك القهر على أي صورة كان: من سب، وتجريح، إلى سخرية واستهزاء، إلى اعتقال أو تحديد للإقامة، إلى سجن وتجويع، وضرب وتخويف، ودام هذا الكبت وذلك القهر زماناً طويلاً، فإن المرء يظل يختزن كل ذلك، في صورة عداوة تملأ الصدر، ويتحين الفرص والمناسبات؛ ليعلن عما بداخله وهذا هو الحقد. ولعل هذا هو السر في دعوة الإسلام، وأمره بالشورى، وتحريم جلد الظهور، وسلب الناس أموالهم، والسخرية أو الاستهزاء بهم، إذ يقول الحق تبارك وتعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران: 159]، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى: 38]، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات: 11].

 

4-عدم رعاية حقوق الأخوة الإسلامية: وقد يكون عدم رعاية حقوق الأخوة الإسلامية من: المواساة بالنفس وبالمال، ومن إظهار الفضائل والمحاسن، وإخفاء المعايب والرذائل، ومن الوفاء بحق الصحبة، ومن الدعاء بظهر الغيب، ومن ترك التكلف، ونحوها، من وراء الوقوع في آفة الحقد؛ ذلك أن المسلم إذا رأى أخاه في النعمة، ولا يواسيه بنفس، أو مال، ولا يبرز فضائله ومحاسنه حين تقتضي الظروف ذلك، ولا يخفي عيبه ورذيلته، ويحاول التشهير به، ولا يفي له بحق الصحبة ويعرض عنه، ويتكلف له في اللقاء، والتوديع، والضيافة ونحوها، يتغير من داخله عليه، وبمرور الزمن يتولد لديه الكراهية والبغضاء والعداوة، ويكون الحقد.

 

ولعل هذا هو السر في تأكيد المنهج الإلهي على رعاية حقوق الأخوة الإسلامية، إذ يقول الحق تبارك وتعالى:

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [المائدة:54]. ويقول في وصف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهاجرين وأنصار: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29]، ويقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].

 

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا". وفي رواية: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات -بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه".

 

5–الغرور والكبر: وقد يكون غرور بل تكبر على الآخرين مما يوقع في آفة الحقد؛ ذلك أن المغرور هو المعجب بنفسه إلى حد احتقار واستصغار كل ما يصدر عن الآخرين في جنب ما يصدر عنه، والمتكبر هو ما يصنع ذلك من النيل من ذوات الآخرين، والترفع على أشخاصهم، ولا شك أن هذا مما يترك آثاره في النفوس، فإذا هي مليئة من داخلها بالعداوة والبغضاء، وما هذه العداوة، وتلك البغضاء إلا الحقد.

 

6-استغلال الآخرين: وقد يكون استغلال الآخرين للمرء، ولاسيما في أوقات الشدائد والمحن، من الأسباب الحاملة على الحقد، فقد تنزل بالمرء شدة أو ضائقة، ويتلفت فلا يجد عوناً من الآخرين إلا إذا كانت هناك منفعة مادية بحتة، وتحت وطأة الحاجة يقبل، ولكنه -والحالة هذه- لا يسلم صدره من العداوة والبغضاء بل يتحين الفرصة للانتقام، وهذا هو الحقد. ولعل هذا هو السر في مجيء النصوص الكثيرة التي تحظر على المسلم استغلال الآخرين في أي صورة من صور الاستغلال كالربا، والاحتكار، والغبن، وأكل أموا ل اليتامى –ظلماً- ونحوها، إذ يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 278 ـ 280].

 

 7-التفكك الأسري: وقد يكون تفكك الأسرة بسبب موت العائل أو الطلاق، والزواج بأخرى في ضوء غياب القيم، والضوابط الشرعية ومع عدم سعي الأمة، حكاماً، ومحكومين في القيام بواجبها نحو علاج هذا التفكك، من بين الأسباب المؤدية إلى الحقد؛ ذلك أن الأسرة هي المحضن الأساسي في تخريج وحماية الأجيال. ويوم يطرأ على الأسرة ما يؤدي إلى تفككها على النحو الذي ذكرنا، وينساها المجتمع، فإن الأولاد يتعرضون لحرمان وتشريد ينتهي بهم إلى الحقد على كل أجناس وطبقات المجتمع.

 

ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها أوجب الإسلام الولاية بين المؤمنين بعضهم بعضاً، إذ يقول سبحانه:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة: 71]. كما أوجب العدل عند تعدد الزوجات، وكذلك كفالة اليتامى وحذر من إهمالهم، إذ يقول سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) [النساء: 3].

 

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].

 

8–الاستماع للوشايات: وقد يكون السماع للوشاة من غير تثبت هو المسبب في الحقد ذلك أن المرء كثيراً ما يتأثر بما يسمع، وإذا لم يكن عاقلاً، وتبين أو تثبت من كل ما يسمع، فإنه يبني على ذلك أحكاماً قد يكون من بينها العداوة والبغضاء والحقد. ومن أجل هذا وغيره دعانا الله -عز وجل- إلى التثبت أو التبين فقال سبحانه:

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:94].

 

9-القطيعة أو الهجر الطويل: وقد تكون القطيعة أو الهجر الطويل من بين الأسباب التي تؤدي إلى الحقد؛ ذلك أنه قد يختلف المرء مع غيره لسبب أو لآخر، وربما تكون النتيجة القطيعة أو الهجر، ولا ضير في قطيعة خفيفة، أو هجر يسير ريثما تهدأ النفوس، وتكون المراجعة، وعودة المياه إلى مجاريها، لكن أن تدوم القطيعة، وأن يطول الهجران، فذلك هو الخطر بعينه؛ لأنه مع كل يوم يتعمق البغض، وترسخ البغضاء، وتكون العاقبة الوقوع في الحقد، والعياذ بالله. ولعل هذا هو سر تحريم طول القطيعة أو الهجران بين المتخاصمين، إذ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".  

 

11-المراء أو الجدل: وقد يؤدي المراء أو الجدل إلى الوقوع في الحقد؛ ذلك أن كلاً من المتجادلين أو المتمارين يكون حريصاً على إفحام الآخر وغلبته، وحين ينهزم أحدهما أمام الآخر، ويكون غير قادر على الانتقام، يضمر في نفسه الحقد، والعداوة، والبغضاء. وفي هذا يقول المناوي: "الحقد من البلايا التي ابتلى بها المناظرون، قال الغزالي: لا يكاد المناظر ينفك عنه، إذ لا تكاد ترى مناظراً يقدر على ألا يضمر حقداً على من يحرك رأسه عند كلام خصمه، ويتوقف في كلامه، فلا يقابله بحسن الإصغاء، بل يضمر الحقد، ويرتبه في النفس. قال النووي: "والخصومة توغر الصدور، وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، حتى يفرح كل واحد بمساءة الآخر، ويحزن بمسرته، ويطلق اللسان في عرضه". 

 

سادسا: علاج الحقد:

 

وما دمنا قد عرفنا حقيقة الحقد، ومظاهره، وموقف الإسلام منه وأسبابه، وآثاره، فقد سهل علينا تحديد سبيل العلاج بل الوقاية، وتتلخص هذه السبيل في هذه الخطوات:

 

1-الدعاء:المسلم يدعو الله أن يجعل قلبه طاهرًا نقيًّا من الحقد والغل قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [الحشر: 10].وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويقول: "رب أعني ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدني ويسر الهدي لي، وانصرني على من بغى عليَّ، رب اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مطواعًا، إليك مخبتًا أو منيبًا، تقبل توبتي، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي". والسخيمة هي الحقْدُ في النفسِ.

 

2-سلامة الصدر: وسلامة الصدر تكون بعدم الحقد والغل والبغضاء، فعن الزبير بن العوام -رضي الله عنه-، قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "دبَّ إليكم داء الأُمم قبلكم البغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم ".

 

3-تقوية رابط الأخوة الإيمانية: إن الأخوة الإيمانية والغل لا يجتمعان في قلب واحد، إن عاطفة المؤمن نحو إخوانه المؤمنين تتدفق بالمحبة، فكيف يجد الغل إلى هذه العاطفة الكريمة سبيلًا؟ إنهما أمران لا يجتمعان.

 

قال تعالى: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 8-9].

 

4-التواضع: لا شك أنَّ تواضع المسلم لأخيه المسلم يدفع بالأغلال والأحقاد، قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد". قال أبو حاتم: "التواضع يكسب السلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويذهب الصد ".

 

5-ملء القلب بالمحبة وإرادة الخير للآخرين.

 

6-اعتذار المرء لأخيه: قال أبو حاتم:"الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويدفع الحقد، ويذهب الصدَّ... فلو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي التعجب عن النفس في الحال؛ لكان الواجب على العاقل ألا يفارقه الاعتذار عند كل زلة ".

 

7-تقديم الهدية: قال -صلى الله عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا ". وذلك لأن الهدية خلق من أخلاق الإسلام دلت عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحث عليه خلفاؤهم الأولياء، تؤلف القلوب، وتنفي سخائم الصدور.

 

8-ترك الغضب الذي هو سبب للأحقاد: الغضب يعتبر من الأسباب التي تؤدي إلى الحقد، فإذا اختلف شخص مع آخر في أمر ما غضب عليه، ثم الغضب يتحول إلى الحقد وإرادة الانتقام. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: للرجل الذي أمره أن يوصيه: "لا تغضب فردد مرارًا، قال: لا تغضب".

 

9-الإخلاص والمناصحة ولزوم الجماعة: فعن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم". قال ابن تيمية:"ويغل: بالفتح هو المشهور ويقال: غلى صدره فغل إذا كان ذا غش وضغن وحقد".

 

وقال ابن القيم: "أي: لا يحمل الغل، ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة، فإنها تنفى الغل والغش، وهو فساد القلب وسخايمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل والغش ".

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات