أمراض على طريق الدعوة (19) تآكل الإلتزام

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

من آثار تآكل الإلتزام أيضا: فقدان ثقة الناس وهذا أمر بدهي، فإن الناس لا يتأثرون بالكلمات قدر ما يتأثرون بالسلوكيات، حتى قيل: ( عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل )، وعليه فإن من كان ضعيفاً أو عديم الالتزام يسحب الناس ثقتهم منه، وحينئذٍ يخسر كثيراً وتكون هذه الخسارة في الدنيا قبل الآخرة، وكم قرأنا وسمعنا وشاهدنا أقواماً استهانوا بأمر الالتزام، فعاقبهم الله بضياع ثقة الناس وجر ذلك عليهم خسراناً مبيناً حتى في وظائفهم ودنياهم ومصالحهم الشخصية..

 

 

 

 

من الأمور الثابتة التي يحب أن يتحلى بها معاشر الدعاة إلى الله -عز وجل-؛ الإلتزام بالهدي النبوي في شئونهم ومعاملاتهم وأمورهم كلها، فالإلتزام هو الشعار المميز للدالين على دينه والسائرين على دربه والمهتدين بسنته. وعادة عيون الناس معلقة بالدعاة والخطباء والوعاظ يرقبون مواقفهم وأقوالهم وأفعالهم بعين فاحصة وأذن صاغية، ويعتبرون كل ما يصدر عن هؤلاء الدعاة هو من الشرع والسنّة، وهذا الأمر يجعل الدعاة على خطر عظيم إذا لم تتماشى أفعالهم مع أقوالهم. والمشكلة الحقيقية أن عارضة الإلتزام نفسها في قلب كل إنسان يعتريها ما يعتري الإيمان من ضعف وفتور وتراجع، وإذا لم يكن المسلم على بصيرة وفقه بما يصيب إيمانه وإلتزامه من ضعف وتراجع وربما تآكل من حيلا يدري، لذلك كان معرفة قصية الإلتزام والعوارض التي تصيبها من أولويات فقه القلوب والنفوس لدى الدعاة وعموم المسلمين.  

 

أولاً: تآكل الالتزام لغة واصطلاحا

 

الالتزام لغة: يطلق الالتزام في اللغة على عدة معان منها: (أ) الاستمساك أو الاعتناق والالتصاق بالشيء تقول: التزم الشيء وبالشيء تعنى: استمساك به أو اعتنقه والتصق به وفي لسان العرب: والالتزام: الاعتناق ومنه في الحديث الشريف: "أنه -صلى الله عليه وسلم- مازال يهتف بربه يوم بدر ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كذاك أو كفاك مناشدتك ربك  ". ومنه أيضا قول عبد الله بن مغفل في الحديث: " أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال: فالتزمه فقلت: " لا أعطى اليوم أحدا من هذا شيئا قال: فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبتسما ". (ب) ومن معانيه في اللغة أيضا ؛ الفرض أو الإيجاب على النفس تقول التزم الشيء أو الأمر: أوجبه على نفسه والتزم فلان للدولة: تعهد أن يؤدى قدرا من المال لقاء استغلاله أرضا من أملاكها فهو ملتزم. وعليه فإن تآكل الالتزام في اللغة إنما هو التقصير في الاستمساك بالشيء أو اعتناقه والالتصاق به أو عدم الاستمساك بالشيء والالتصاق به أو اعتناق له بالمرة وهو  أيضا التقصير  أو عدم الوفاء بالمرة بما يوجبه أو يفرضه المرء على نفسه.

 

أما اصطلاحاً: فإن تآكل الالتزام في اصطلاح العلماء و الدعاة فهو الضعف والتلاشي والتقصير وعدم الوفاء بما يتعهد به المسلم أو يفرضه ويوجبه على نفسه من الصالحات، حين يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً، بل حين يرضى أن يكون في صفوف الدعاة، وضمن قافلة العاملين من أجل التمكين لمنهج الله في الأرض.

 

ثانياً: مظاهر تآكل الالتزام

ولضعف أو تلاشى وتآكل الالتزام مظاهر كثيرة تدل عليه، وسمات يعرف بها نذكر منها على سبيل المال لا الحصر، لكونها حقيقية أكبر من أن يتم حصرها في هذا الموقف العاجل:

 

1- عدم الدقة أو عدم الانضباط في الحديث و الموعد.

2- إصدار الأحكام دون تثبت أو تبين.

3- الفجور في الخصومة أو عدم رعاية أدب الخلاف.

4- الإصغاء إلى الإشاعات والأراجيف.

5- نبذ الطاعة إلا فيما يوافق الهوى النفس.

6- عدم النهوض بالبيت من الأهل و الولد إلى المستوى المنشود.

7- عدم رعاية الآداب أو السلوكيات الاجتماعية.

8- عدم التضحية سواء بالنفس أو بالمال أو بهما معاً.

9- عدم الدقة أو عدم الانضباط في الحركة.

1.- إهمال النفس من التنقية و التزكية.

11- استعجال النصر دون تأن أو ترو أو تأهب.

12- الاجتهاد فيما لا مجال فيه للاجتهاد.

13- عدم الثبات أمام مطامع الحياة الدنيا، وعند المحن و الشدائد.

14- إهدار حقوق الأخوة.

15- التدخل فيما لا يعنى.

 

 

ثالثاً: أسباب تآكل الالتزام

 

وهناك أسباب كثيرة، وبواعث متنوعة تؤدى إلى تآكل الالتزام جماعها ضعف الإيمان والتفريط في الطاعات وعمل اليوم والليلة، ولكن نذكر بعضا من هذه الأسباب بشيء من التفصيل:

 

1- عدم الفهم أو عدم الإدراك لأبعاد ومعالم الالتزام، ذلك أن عدم الفهم أو عدم الإدراك لأبعاد ومعالم أي أمر من الأمور يؤدى إلى رفضه، بل ومعاداته كما قال الله -عز وجل- (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ). وعليه فإن عدم الفهم ،أو الفهم مع عدم الإدراك القلبي لأبعاد ومعالم الالتزام سينتهي حتماً بصاحبه إلى التقصير وعدم الوفاء بما يقتضيه الدخول في صفوف المسلمين، بل في صفوف الدعاة و العاملين. ولعل ذلك هو السر في افتتاح آى التنزيل بالدعوة إلى الفهم، و الفهم الصحيح الواعي المستنير (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم ) [ العلق: 1ـ5].

 

2- الوسط الضعيف الالتزام أو غير الملتزم، وقد تلقى الأقدار بالمسلم في وسط ضعيف الالتزام أو غير ملتزم بالمرة، فيأخذ في الإقتداء و التأسي، أو على الأقل في المحاكاة والمشابهة، لاسيما إذا كان هذا الوسط ممن يقتدي  أو يتأسى به وتكون النتيجة ضعف أو تلاشى الالتزام. ولعل هذا السبب يكشف لنا عن السر في تأكيد الإسلام على الأسوة و القدوة الطيبة، وذمِّه للأسوة و القدوة السيئة، إذ يقول سبحانه: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين، وكان ذلك على الله يسيراً ومن يقنت منكن لله ورسوله، وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً) [الأحزاب: 30 ـ 31]. فيضاعف سبحانه لهن العقاب على السيئة، و الثواب على الحسنة بسبب جو الطهر و العفاف الذي يعشن فيه و الذي يساعد على الطاعة و التقوى، وبسبب أن غيرهن يقتدي بهن فيكون عليهن عقاب معصيتهن، وعقاب معصية من اقتدى بهن، وكذلك يكون لهن ثواب طاعتهم وثواب طاعة من اقتدى بهن جزاء وفاقاً، لاسيما وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- :" من دعا إلى هدى كان له من الجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً  ".

 

 

والدعوة كما تكون بالقول تكن بالسلوك (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة ) [ النحل: 125] وإذ جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه رأي على طلحة بن عبيد الله ثوباً مصبوغاً وهو محرم، فقال عمر: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلاً جاهلاً رأي هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئاً من هذه الثياب المصبغة.

 

3- ضعف الإيمان، وقد يكون ضعف الإيمان ونزول مستواه في نفس المسلم، هو السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام ذلك أن الإيمان هو مصدر الطاقات المتجددة بل هو الحارس و الحامي لصاحبه من أن يهمل أو يقصر، أو يصر على الأخطاء، إذ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن قال له: إنك تواصل يا رسول الله: " وأيكم مثلى ؟ إني أبيت يطعمني ربى ويسقيني " فقد بين جمهور علماء المسلمين المراد من هذا الكلام قائلين: " قوله يطعمني ربى ويسقيني مجاز عن لازم الطعام و الشراب، وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل الشارب، ويفيض علىّ ما يسد مسد الطعام و الشراب، ويقوى علىّ أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس. .. ".

 

 وقال ابن حجر:" ويحتمل أن يكون المراد بقوله :" يطعمني ربى ويسقيني " أي يشغلني بالتفكير في عظمته و التملي بمشاهدته، و التغذى بمعارفه وقرة العين بمحبته، والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام و الشراب ". وقال ابن القيم :" إن المراد به ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه و الشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب، ونعيم الأرواح ، وقرة العين، وبهجة النفوس، و الروح و القلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغنى عن غذاء الأجسام مدة الزمان، كما قيل:

 

لها أحاديث في ذكراك تشغلها ***    عن الشراب وتلهيها عن الزاد

لها بوجهك نور يستضاء به      ***    ومن حديثك في أعقابها حاد

 

إذا شكت من كلال السير أوعدها     ***    روح القدوم فتحيا عند ميعاد

 

في الحديث النبوي الشهير، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " يعنى: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان. وعليه فإن المسلم إذا ترك هذا الإيمان بدون تجديد وتعهد فإن جذوته تخبو أو تضعف في النفس وتكون العاقبة تآكل هذا الالتزام. ولعل هذا السبب يضع أيدينا على الحكمة من وراء دعوة الإسلام إلى ضرورة تعهد الإيمان في القلب ،وعدم إهماله ولو لحظة من نهار، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-:" إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم "،  وفي الحديث الآخر قال " جددوا إيمانكم " قيل  يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا ؟ قال :" أكثروا من قول لا إله إلا الله ".

 

4- إقبال الدنيا و التعلق بها، وقد يكون إقبال الدنيا ببريقها وزخارفها من الأموال والأولاد و الشهادات و الوظائف و المركز و الجاه وتعلق القلب بها هي السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام ذلك أن الإنسان بطبيعته لا يملك القدرة على الجمع بين المتناقضات، كما قال تعالى (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) [ الأحزاب 4] وعليه فإذا أقبلت الدنيا، وكان الاشتغال و التعلق بها لم يبق هناك وقت ولا طاعة ولا فكر يساعد على الالتزام والالتزام الدقيق، وحينئذٍ يكون تلاشى الالتزام. ولعل هذا هو سر تحذير الإسلام الشديد من إقبال الدنيا و التعلق بها، إذ يقول الحق سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) [ : 33]، (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) [فاطر: 5 ].

 

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- :" فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم "، " وانظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم " ، وفي رواية " إذا نظر أحدكم إلى من فصل الله عليه في المال و الخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه "، " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء"،  " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطى رضى، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش. .. "

 

5- المحن و الشدائد، وقد تكون المحن و الشدائد في داخل الصف أو من خارجه هي السبب في تآكل الالتزام، ذلك أن المحنة أو الشدة عندما تنزل بالإنسان فإنها تزلزل كيانه، وتكاد تعصف به إلا من رحم الله، لاسيما إذا كان نزولها خالياً من الترقب والاستعداد ، ومعرفة طريق الخلاص، وسبيل المواجهة، وحينئذٍ يشغل بها عن دوره الحقيقي ورسالته السامية ويكون ضعف الالتزام وتآكله. ولعل هذا هو سر حديث الإسلام المتكرر عن المحن و الشدائد وكيفية التعامل معها، إذ يقول الحق تبارك وتعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع ونقص من الأموال والأنفس و الثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) [ البقرة 155 ـ 156]، وقال: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط)، [ آل عمران: 120]، وقال: ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) [ آل عمران: 186 ]، وقال (الذين آمنوا وهاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات ترى من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب ) [ آل عمران: 195].

 

وإذ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليجرب عليكم بالبلاء، وهو أعلم به، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز، فذلك الذي نجاه الله من السيئات، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي افتتن "، وقال:" إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"، وقال:" ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه ".

 

6 ـ  الأبوان، وقد يكون الأبوان هما السبب في تآكل الالتزام، ذلك أن بعض الآباء قد تحمله عاطفة الحب لولده على الحيلولة بين الولد والالتزام لاسيما في هذا العصر الذي صار فيه الالتزام بالإسلام بل والالتزام بالدعاة و العاملين لدين الله تهمة، وتهمة خطيرة تقود صاحبها إلى السجون و المعتقلات، أو النفي و التشريد في الأرض، بل الموت أو القتل، ناسين أو متناسين أن الآجال بيد الله لا بيد البشر (وما كان لنفس أن تمت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ) وأن الله وحده هو الذي يعلم نهاية هذه الآجال  (وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها)، ( إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون )، (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم )، ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )، بل ناسين أو متناسين أن موسى عليه السلام الذي ألقي في اليم وهو صغير لا حول له ولا قوة نجاه الله، وكان هلاك فرعون طاغية مصر على يديه (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً). وأن يوسف -عليه - الذي ألقى به من قبل في الجب أنجاه الله ومكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء وقال لإخوته في النهاية ( أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ).

 

 7- الاستجابة لوساوس الشيطان، فقد تكون الاستجابة للوساوس و الشبهات الشيطانية هي السبب في ضياع الالتزام، ذلك أن الشيطان قاعد للإنسان لاسيما المسلم بالمرصاد، يوسوس بإلقاء الشبهات والأباطيل كي يصرفه عن طريق الله أو على الأقل يجعل سيره في هذه الطريق محفوفاً بالتضييع و التفريط، وحين يستجيب المسلم إلى هذه الوساوس وتلك الشبهات يبتلى بضعف أو تلاشى الالتزام.

 

ولعل هذا هو السر في دوام تحذير الإسلام لنا من الشيطان الرجيم ووسوسته فلا نسمع لها ولا نستجيب، يقول الحق سبحانه وتعالى: (يا بني آدم لا يفتتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ) [ الأعراف: 27]، ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) [ البقرة 208]، (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس  الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس). ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:" إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك، ودين آبائك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجرين كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس و المال فتقاتل فتقتل  فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمن فعل ذلك كان حقاً على الله -عز وجل- أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله -عز وجل- أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ".

 

8- فقدان النصح من الآخرين، وقد يكون السبب في تلاشى الالتزام إنما هو عدم النصح من الآخرين، ذلك أن الإنسان إذا شعر أن هناك إهمالاً أو لا مبالاة من الآخرين، فلا أحد ينصحه ويرشده ويهدي له عيوبه، فإن همته تفتر، وعزيمته تضعف، أما إذا كانت المتابعة المتمثلة في النصح والمساءلة و المجازاة، فإن الهمة تعلو والإرادة تقوى ،و العزيمة تشتد، ولعل هذا هو سر متابعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشديدة لأصحابه في كل تصرفاتهم وسلوكياتهم، وحسبنا هنا هذه الصورة من المتابعة الراشدة: فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال: أبو بكر رضي الله عنه أنا، قال: فمن تبع اليوم منكم جنازة ؟ قال أبو بكر  أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً ؟ قال أبو بكر أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً ؟ قال أبو بكر أنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ". وقال لعبد الله بن عمر: " نعم الرجل عبد الله، لو كان يقوم من الليل ".

 

9 ـ الغفلة عن عواقب تآكل الالتزام، وقد يكون الغفلة عن عواقب تآكل الالتزام هي السبب في هذا التآكل، ذلك أن من غفل عن العواقب الخطيرة لأمر ما، تعاطى هذا الأمر مع تقصير فيه، أو أهمله وألغاه من حسابه بالمرة، ولا يفيق ولا ينتبه إلا حين تزول العواقب فيندم حيث لا ينفع الندم ويتمنى حين لا تفيد الأماني.

 

رابعاً: آثار تآكل الالتزام

 

ولضعف أو تآكل الالتزام عواقب وخيمة، وآثار سيئة على العاملين والدعاة لدين الله -عز وجل-، أبرزها: الحيلولة دون العبودية الحقة، ذلك أن من كان ضعيف أو عديم الالتزام فإنه يفسح المجال أمام الشر ليستشري و الباطل لينتشر، حتى يصل إليه وإلى ذويه، وحينئذٍ يحال بينه وبين أبسط قواعد الالتزام الإسلامي كالشعائر التعبدية مثلاً، فلا يجد وقتا للصلاة في جماعة، ويهجر مصحفه ويتراكم عليه التراب والغبار من طول العهد، ويتجرأ على المعاصي ابتداء من الصغائر حتى الكبائر بعد أن فقد مناعته الإيمانية وحصانته من رصيد الإلتزام.

 

من آثار تآكل الإلتزام أيضا: فقدان ثقة الناس وهذا أمر بدهي، فإن الناس لا يتأثرون بالكلمات قدر ما يتأثرون بالسلوكيات، حتى قيل: ( عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل )، وعليه فإن من كان ضعيفاً أو عديم الالتزام يسحب الناس ثقتهم منه، وحينئذٍ يخسر كثيراً وتكون هذه الخسارة في الدنيا قبل الآخرة، وكم قرأنا وسمعنا وشاهدنا أقواماً استهانوا بأمر الالتزام، فعاقبهم الله بضياع ثقة الناس وجر ذلك عليهم خسراناً مبيناً حتى في وظائفهم ودنياهم ومصالحهم الشخصية.

 

من آثاره أيضا: القلق والاضطراب النفسي: ذلك أن ضعيف أو عديم الالتزام إنما هو عاص لله، وللمعصية آثار ضارة أشدها القلق والاضطراب النفسي، ولعل ذلك هو المفهوم من قوله تعالى: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) [التغابن 11]، (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [ الرعد: 28]، وقوله( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [الأنعام: 82] بل هو المصرح به في قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ) [ طه: 124].

 

ومن آثارها أيضا:الحرمان من الأجر و المثوبة بل وتحمل الأوزار :ذلك أن ضعيف أو عديم الالتزام ضيع على نفسه بذلك الأجر وحرمها من المثوبة بل وعرَّضها لتحمل أوزار الذين اقتدوا به في ضعفه أو عدم التزامه ففتنوا وضاعوا، وصدق الله ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) [ النحل: 25].

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات