اقتباس
ولعمرو الله إنها كلمة حَقٍّ كثيراً ما تُرْسَمُ في قِرطاس باطلٍ، ورُبَّ قول حسن لم يَحْسُن من قائله حين تسبب به إلى قبيح! فلا المتحدث بلغ رتبة تؤهله أن ينتصب ليجرح ويعدل، أو يرفع ويضع، لا من حيث العلمُ بالمنتَقَد الذي يقوِّمُه، فلا هو لازمه، ولا وقف على جل تقريراته، ولا عرف منزعه فيما بلغه منها، فضلاً عن أن يُدْرِك مناقشته. ولا من حيث العلمُ بالشرع، بل في كثير من الأحيان ما يفوِّت عليه هذا الشأن الذي أقحم نفسه فيه تحصيل ما يليه من العلم الشرعي الواجب –لا أقول الأولى به- فتراه في قدح
الحمد لله وبعد فإن نقد الأعلام معتَرك زلِق، زلَّت فيه أقلام، تلطخ كتابها بأعراض دعاة الأمة وأحبارها!
وأعني بالنقد هنا حزمة أقوال أو أعمال تشمل التنقص، أو الحط من الرتبة، أو الوصف بما لا يليق، أو الجرح والتوهين، الصريح أو المفهوم من التعريض، وقد يدخل فيه شيء من التفضيل، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما تفضيل الأشخاص بعضهم على بعض، ففي كثير من المواضع لا يسلم صاحبه عن قول بلا علم، واتِّباعاً لهواه، فللشيطان فيه مجال رحب"(1). إنه مقام صعب لا يحسنه إلاَّ عالمٌ قد استوى رأيه، ولا ينصف فيه من يحسنه إلاّ مع التحري والتقوى، ومع ذلك فقد يمسك عنه العاقل الراسخ حَذَرَ تفريق شمل أمَّة مجتمعة، أو تغيير قلوب مؤتلفة. وأيّا ما كان فهو شأن لا يحسن أن يخوض غماره في كثير من الأحيان إلاّ حبر تصدر عن رأيه العامة، مع تحري المصلحة. وإلاّ فالأصل المقرر الذي ينبغي أن يعمل من أجله العقلاء هو توفير قلوب الأمة على حبِّ علمائها، وتعظيمهم، والرفع من رتبتهم، ولا سيما في هذا العصر، الذي تنافس فيه المتنافسون في الضَّعَةِ من الأعلام في شتى وسائل الإعلام! وحسب العاقل أن يحجزه عن كثير من النَّقد أن يعلم حدَّ الغيبة وهو ذكرك أخاك بما يكره! فكيف بولي نعمتك وشيخك أو معلمك، أو من له فضل على الأمة، وقدم سابقة، حقها أن تشكر.
مضمار الأئمة الأعلام!
وقد كان شأن التجريح والموازنة والترجيح بين الأعلام شأن كبار الأئمة، لا يصدر فيه عن رأي قِرن بل يُطَّرح، فكيف بالغُمر، وكان من تصدر له قبل أوانه يجني على نفسه كما فعلت براقش! وكم نال من متعد لقدره متطاول نصيب من قول القائل:
تَنِقُّ بلا شيءٍ شُيوخ مُحاربٍ *** وما خِلْتُها كانت تَرِيش ولا تَبْري!
ضفادع في ظَلماء ليلٍ تجاوَبَتْ *** فدَلّ عليها صوتُها حيَّةَ البحرِ!!
"قال أبو الحارث: سمعت أبا عبد الله غير مرة يقول: ما تكلم أحد في الناس إلا سقط وذهب حديثه، قد كان بالبصرة رجل يقال له الأفطس، كان يروي عن الأعمش والناس، وكانت له مجالس وكان صحيح الحديث، إلاّ أنه كان لا يسلم على لسانه أحد، فذهب حديثُه وذِكْرُه.
وقال في رواية الأثرم: وذَكَرَ الأفطس واسمه عبد الله بن سلمة، قال: إنما سقط بلسانه فليس نسمع أحداً يذكره.
وقال أبو زرعة: عبد الله بن سلمة الأفطس كان عندي صدوقاً، لكنه كان يتكلم في عبد الواحد بن زياد، ويحيى القطان، وذكر له يونس بن أبي إسحاق فقال: لا ينتهي يونس حتى يقول سمعت البراء. قال أبو زرعة فانظر كيف يرُدُّ أمرَه، كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه، وكان الثوري ومالك يتكلمون في الناس على الديانة فينفذ قوله، وكل من يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه"(2)، والديانة تقتضي أن يكون للمتكلم علمٌ وأي علم!
"قال حنبل بنُ إسحاقَ: سمعتُ يحيى بنَ معينٍ يقول: رأيتُ عند مروان بن معاوية لوحاً فيه أسماء شيوخ: فلان رافضي، وفلان كذا، ووكيع رافضي!!
فقلت لمروان: وكيع خير منك، قال: مني!
قلت: نعم!
فسكت، ولو قال لي شيئاً، لوثب أصحاب الحديث عليه"(3).
وتكلم الكرابيسي في أقوام هو دونهم فشنع الأئمة عليه، وتمادى به الأمر حتى قدح في أحمد فلعنه ابن معين(4)!
ولله!
ما كان أغنى رجالاً ضلَّ سعيهمُ *** عن الجدال وأغناهم عن الخطب!
فيا طالب العلم! أقصر، ودع مضمار الكبار لأهله، وقل: لله درُّ الذَّرة حيث قالت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18]!
المسلك الوعر!
ولئن كان مضمار الحديث في الأعلام مضمار الكبار، فهو مع ذلك صعب وعر! دخله أعلام فلم يسلموا، ما بين مخدوش ناج، ومصاب بمصاب جلل! تكلم يحيى بن معين الإمام في أبي بدر؛ شجاع بن الوليد، فدعا عليه، قال أحمد: فأُراه استجيب له(5)!
وانتقد فقه إمامِ أهلِ السنة والجماعة إمامُ أهل التأويل فقام عليه الناس وما قعدوا حتى مات منكمشاً في داره مع ما أثر من اعتذاره(6)! ثم تلاه قوم حطوا من مذهبه وفقهه فما ضروا غير أنفسهم بتجهيل العلماء لهم(7)!
وترمرم أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد الإمام الحافظ الناقد، على بعض الأئمة، فتغشمر عليه الذهبي حيث قال: "أفما لك عقل يا عُقيلي؟! أتدري فيمن تتكلم"(8)! وحط الدقاق على ابن طاهر، فقيل: "يا ذا الرجل! أقصر، فابن طاهر أحفظ منك بكثير"(9)، وهذا القائل مع تحريه للعدل والإنصاف في تراجم الأعلام قام عليه من طلابه من اطرح معه من حقه نصيباً حتى قال: "لا يجوز أن يُعتمد عليه"(10)، يعني في تراجم طائفة القائل، وقوله: (لا يجوز) يريد يحرم! كما قاله في موضع آخر مصرحاً: "لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتمد عليه"(11)، ومن العجائب أني سمعت بعض مشايخنا من محدثي هذا الزمان، يصف الإمام عينَه، باللين مع أولئك الـمُنْتَقَدِ باطراح أقدارهم! فلك الله يا عَلَم المؤرخين الأعلام! حاولت الإنصاف فاطُرِحْتَ، وتفضلت فما عُذرْتَ!
ولله درُّ أحمد حيث يقول:
ولم تزل قِلَّةُ الإنصافِ قاطعةً *** بين الرجالِ وإِنْ كانوا ذوي رَحِمِ!
وأمثال هذه الأخبار كثيرة، وحسبك من المُنَفِّرات عن نقد الأعلام هذا القدر! وإنما ذكرته ليعلم الغُمْر أنه بانتصابه لهذا الشأن قد ركب الطريق الوَعْر، واضعاً رجله في غرز رَثٍّ، على مركب صعب، ولا غرض يُحْمَدُ لرَحْلِه! فليتهيأ لتتابع السقطات! وإذا كان من الأئمة من رَكِبَ هذه القُحَمَ فما سلِم فكيف بمن تزبَّبَ وهو حِصْرِم! ألا عاقل يعتبر بأمثال من ذكرنا، أو بمن جنوا على أنفسهم في واقعنا! فمزقوا الأمة ثم تمزقوا ونُبذوا، ولا يزال بعض من غَلُظَ حِسُّه يحاول تمزيقَ الممزق!
الميدان مطروق ولكن من الطارق!
إن العاقل إذا تأمل ما تقدم ساعده ذلك على حزم لسانه، وأما المغرور فيسهل عليه أن يَصُفَّ نفسَه في رُتبة الأئمة ثم يُمَّوِّه فيقول: لم يزل مؤرخو الإسلام ينتقدون نصحاً، ولم يزل دارسو السنة يوثقون ويطّرحون، ويتتبعون المرويات ويحكمون.
ولعمرو الله إنها كلمة حَقٍّ كثيراً ما تُرْسَمُ في قِرطاس باطلٍ، ورُبَّ قول حسن لم يَحْسُن من قائله حين تسبب به إلى قبيح! فلا المتحدث بلغ رتبة تؤهله أن ينتصب ليجرح ويعدل، أو يرفع ويضع، لا من حيث العلمُ بالمنتَقَد الذي يقوِّمُه، فلا هو لازمه، ولا وقف على جل تقريراته، ولا عرف منزعه فيما بلغه منها، فضلاً عن أن يُدْرِك مناقشته. ولا من حيث العلمُ بالشرع، بل في كثير من الأحيان ما يفوِّت عليه هذا الشأن الذي أقحم نفسه فيه تحصيل ما يليه من العلم الشرعي الواجب –لا أقول الأولى به- فتراه في قدح الأعلام إماماً! وإذا ما عُرِضَت عليه أبواب الشريعة ينمسخ في عين البصير مُقَلِّداً مجهول الهوية! فلا تدري لأي مذهب أو إمام!
ثم هو مع قصور رتبته لا يقتصر فيما لجَّ فيه على التخيُّرِ والموازنة بين أقوال أهل الشأن كما يصنع المشتغلون بنقد المرويات وتخريجها إذا عرض لهم بحث في الرجال، بل ينتصب ناطحاً برأسه وناقداً بنفسه ولا يبالي إن كان العلماء أهلُ الشأن يثنون على العَلَم ويرفعون من شأنه، وهو يحط من قدره، أو لا! وعنده لكل قول عالم لا يمكنه الطعن فيه تأويل!
وعادة ما تجد هذا الناقد مستعيناً في نقده بآلات مقلدة! يضعها في غير مواضعها! فالتتبع والاستقراء –الضيق المحدود- حاضر عنده! يحرث به أرضاً مزروعة! يخالف به من العلماء من عاشر وناظر ولازم وذاكر ورأى من الأصول واستخرج من مكنون المنتَقَد ما لم يبلغ معشاره هذا الناقد المستقرئ! وقريب من هذا التهور في استخدام آلة كليلة! ما أحدثه بعض المتأخرين من أدعياء بحوث الرواية الأثرية! يعارض بدعوى التتبع والاستقراء! أقوال الأئمة الذين عاينوا الأصول ووقفوا على عللها، وبلغهم منها ما لم يبلغنا، قبل أن يفحش الغلط فيها مع تقادم الزمن!
من أسباب الضلال في هذا الوادي!
ومن أسباب العمى عن الهدى في مسالك النقد ومجاهل الحديث في أعراض الناس! كون الداخل فيها كثيراً ما يُزَيَّن له مسلكه فيحسب أنه ناصح مصلح، ويصرفه الهوى عن إبصار أثر ذلك النصح والإصلاح المتوهم في واقعه، وكيف أفسد!
ثم يُحجب قلبه عن مشاهدة النصيحة الموجهة إليه، يستره غشاء رقيق من استطالة بعض المخالفين عليه، فيجمع إليه النصح والإنكار الشرعي ويعد جميع ما توجه إليه إقذاعاً وفحشاً، فيعرض عنه، أو يطلب الانتصار منه.
ولا تعجب إن رأيته يتشبث بأدنى كلمة قيلت فيه، غير عابئ بما يسوده من نقد وحط على أعلام كبار أو مناهج برمتها! لا عجب! فعين الهوى لا ترى على كل حال نفسها! وما أسهل أن ترى القذى في مقلة غيرها!
ولئن كان الإمام ابن حزم –رحمه الله- يقول في رده على الهاتف من بعد! "أما استعاذته بالله من سوء ما ابتلانا الله به -فيما زعم- من الطعن على سادة المسلمين، وأعلام المؤمنين، وقذفنا لهم بالجهل، .. فليعلم الكذاب المستتر باسمه، استتار الهرة بما يخرج منها، أنه استعاذ بالله تعالى من معدوم"(12)! فلا تعجب بعدها ممن دونه إنصافاً وعقلاً أو ذكاء وفهما!
خلاصة!
عوداً إلى الغرض! أقول: لئن كان شأن الجرح والتعديل عظيماً، لا ينتصب إليه كل أحد، فكذلك شأن تقويم الأعلام وحداناً أو زرافات! ولاسيما إن كانوا أئمة عصرهم، وهداة مصرهم.. ولا ينبغي أن يخفى على ذي عقل هنا أني لا أتحدث عن البحث العلمي في مسألة، أو بيان الحق في نازلة فهذا سبيل الرشاد لمن أراد الإصلاح، بل قصدي التنفير من أصل النقد والتقويم إذا صدر من غُمر تجاه حبر، ما لم يكن تعويله في ذلك على أقوال الأئمة مقلداً بعضهم ديانة، أو مرجحاً بينها إن كان ذا نصفة له آلة! ويحضرني في هذا الصدد نقد طرأ بأخرة على بعض أعلام السنة في الغابر والحاضر، من أقوام نبتوا في دبر الزمان قريباً من قيام الساعة! بعيداً عن العصور المشرقة بشمس الرسالة، فتصدر قوم لرده، وكان مما رعى انتباهي تسليمهم مبدأ نقد من قصرت رتبتهم عن رتبة العلماء للأئمة! وهو المسلك الوعر الذي يجب أن يمنع! وأن يصان الناس عنه، ويقال لمرتكبه: ياغلام! إياك إياك وليس لك إمام! فهذا الشأن له أهله، مردُّه إلى من أمر الله بالرد إليهم، وأوجب صدور العامة عنهم، وأما أنت فلست أهلاً أن يؤخذ هذا عنك، وإن قُدِّر أنك أهل للتقويم عالما منصفا! فنهاية أمرك تفريق شمل وإثارة ضغن، فحقيق زجرك، و"إنَّ سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة، وإفحاش لأهل هذه الغلطة.. فحقٌ على أساطين العلم تقويم اعوجاجك، وتمييز حلوك من أجاجك، تحذيراً للمطالع، وتنزيلاً في البرج الطالع"! والحمد لله ربِّ العالمين.
____________________
(1) الرد على الإخنائي ص185.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 2/142-143، والنقل مثبت في سؤالات البرذعي لأبي زرعة ص329.
(3) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 63/97-98.
(4) انظر ميزان الاعتدال 2/300 (2797) ترجمة الحسين بن علي الكرابيسي.
(5) أبو بدر هو شجاع بن الوليد بن قيس السَّكُوني، قال سفيان الثوري: ليس بالكوفة أعبد منه، وكان له مكان عند الإمام أحمد، وانظر جواب الحافظ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل بتحقيق أبي غدة ص43، وكذلك ترجمة أبي بدر في تهذيب الكمال 12/386.
(6) انظر الكامل 6/171، والبداية والنهاية 11/145، وغيرهما ممن ترجم للإمام ابن جرير.
(7) انظر كلام ابن عقيل والذهبي في السير 11/321 –الأرناؤوط.
(8) لسان الميزان 3/140.
(9) سير أعلام النبلاء 19/364.
(10) انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2/13.
(11) انظر معيد النعم ومبيد النقم ص74، ومن عجيب ما فيه أن اطراح قول التلميذ في شيخه هذا واجب على قاعدته!
(12) رسائل ابن حزم 3/119.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم