ضبط المصطلح ضرورة إسلامية

رمضان الغنام

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

فالمصطلح هو: "الكلمة التي خصصها الاستعمال في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو صناعة من الصناعات بمفهوم معين" (2)، وشاع استعمالها بحيث صار التطابق بينها وبين مدلولها أمراً لازماً وضرورة لا بد منها. ولقد نبه القرآن الكريم منذ اللحظات الأولى إلى خطورة المصطلحات، وتمثل ذلك في مواطن منها النهي القرآني عن استخدام مصطلحات معينة والإرشاد إلى غيرها، ومن ذلك ما جاء...

 

 

 

 

 

قضية (المصطلح) من القضايا الكبرى التي شغلت الدارسين في مختلف حقول العلم -سيما حقل الدراسات الإسلامية- إذ لا يخلو علم من العلوم من مصطلح يؤطر ظواهره، أو يعنون معانيه، أو يدلل على حالة أو حادثة به، بل هو حاجة وضرورة لا بد منها، وبفقدها يجمد العلم ولا يتحرك، بل ربما لا يكتب له البقاء والاستمرارية.

 

والاصطلاح بحسب تعريف الجرجاني: "عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول، وإخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، وقيل: الاصطلاح اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى، وقيل: الاصطلاح إخراج الشيء عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد، وقيل الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين" (1).

 

وعليه فالمصطلح هو: "الكلمة التي خصصها الاستعمال في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو صناعة من الصناعات بمفهوم معين" (2)، وشاع استعمالها بحيث صار التطابق بينها وبين مدلولها أمراً لازماً وضرورة لا بد منها.

 

فللمصطلح أهمية كبرى في تحديد نطاقات العلوم والفنون، فهو عنوان لحالة أو موقف أو فلسفة أو علم، و: "إنما تتبلور مفاهيم العلوم عند ولادتها في مصطلحات، وتعبر عن نضجها حين تنضج بمصطلحات، وتبلغ أشدها حين تبلغه بأنساق من المصطلحات، ولا سبيل إلى استيعاب أي علم دون فهم المصطلحات، ولا سبيل إلى تحليل وتعليل ظواهر أي علم دون فقه المصطلحات، ولا سبيل إلى تجديد أي علم دون تجديد المصطلحات أو مفاهيم المصطلحات" (3).

 

وعليه يشترط المطابقة بين المصطلح وما يدل عليه من مفاهيم، وضابط ذلك "أنه لو وضعت عبارة التعريف مكان المصطلح المعرَّف في الكلام لانسجم الكلام، وإنما ينضبط ذلك إذا راعى الدارس في تعريف المفهوم كل العناصر والسمات الدلالية المكونة للمفهوم، المستفادة من جميع نصوص المصطلح وما يتعلق به في المتن المدروس؛ فلا تبقى خاصة دون إظهار ولا ميزة دون اعتبار" (4).

 

وفي مجال الدراسات الإسلامية نال الحديث عن المصطلح ودلالاته حظاً وافراً من العناية والدرس، لما نشب من خلافات واختلافات كان من نتائجها المباشرة تشرذم الأمة الإسلامية إلى جماعات وأحزاب متناحرة عسكرياً وفكرياً، وكان من نتائجها غير المباشرة اختلاف وجهات النظر في كثير من القضايا، ومن هذه القضايا الاختلاف حول بعض المصطلحات الشرعية .

 

وإشكالية المصطلح في الدرس الإسلامي تتمثل في بعدين أساسيين؛ أولهما ما ينشأ من اختلاف في المصطلحات ومعانيها بين الوافد من المصطلحات والإسلامي منها؛ وينشأ ذلك بسبب اختلافات الثقافات والبيئات، أو التزييف المتعمد من قبل ناقل المصطلح، وثانيهما ما ينشأ من اختلاف على المصطلح الواحد في المحيط الإسلامي، وينشأ ذلك -في الغالب- نتيجة الخلاف المذهبي، والخلفيات الفكرية والشخصية.

 

وعلى ذلك يكون للمصطلح أكثر من معنى، يختلف بحسب المكان أو الزمان، أو خلفيات المتلقين لهذا المصطلح، وقد يكون للغة وعوامل النقل وظروف الناقل أثر كبير في هذا الأمر: "فمما يتعين فهمه معرفة المراد بالمصطلح، فكثيراً ما يحصل الغلط فيه، إذ يراد به عند قوم غير ما يراد به عند آخرين، وقد يحصل تطور ودخول أشياء كثيرة في المصطلح عليه لم تكن في السابق" (5).

 

وإلى هذا أشار شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في فتاويه: "ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها" (6).

 

وعلى سبيل المثال يقول أحد الباحثين -تحليلاً للاختلاف حول مصطلح الحضارة بين الشرق والغرب-: "ومن هنا تأرجحت دلالة المفهوم طبقاً للمصدر المعرفي الذي استقى الباحث منه، وتوزعت الدلالات، وطمس أغلبها، وحدث نوع من التشويه أدى إلى إخراج المفهوم عن دلالاته الأصلية، وتلبيسه بدلالات أخرى لا يستوعبها جذره اللغوي، ولا تتسق مع أصوله ومصادره، وفي نفس الوقت طمست دلالاته الحقيقية المرتبطة بأصله ومصدره، وقد أحدث هذا تفتيتاً شديداً للمفهوم، بحيث لا نكاد نجد له معنى محدداً، أو تعريفاً واحداً لدى أي من الذين تناولوه، بل إن استخدامهم له لم يجد اتفاقاً في اللفظ الأجنبي الذي استقوه منه" (7).

 

ولقد نبه القرآن الكريم منذ اللحظات الأولى إلى خطورة المصطلحات، وتمثل ذلك في مواطن منها النهي القرآني عن استخدام مصطلحات معينة والإرشاد إلى غيرها، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم} [البقرة:104].

 

ووجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ (راعنا) كان بلسان اليهود سباً، قيل إنه في لغتهم بمعنى: "اسمع لا سمعت"، وقيل غير ذلك، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- راعنا طلباً منه أن يراعيهم من المراعاة اغتنموا الفرصة، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي، مبطنين أنهم يقصدون السب الذي هو معنى هذا اللفظ في لغتهم (8).

 

كما حفلت السنة النبوية بالعديد من النماذج الدالة على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالألفاظ المنطوقة ودلالاتها، ومن ذلك التفرقة بين لفظ الإيمان والإسلام، فيما رواه سعد ابن أبي وقاص؛ فعن سَعْدٍ ر-ضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَعْطَى رَهْطًا -وَسَعْدٌ جَالِسٌ- فَتَرَكَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا، هو أَعْجَبُهُمْ إلي، فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ مالك عن فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إني لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فقال: «أو مُسْلِمًا»، فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي ما أَعْلَمُ منه، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فقلت: مالك عن فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إني لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فقال: «أو مُسْلِمًا..»" (متفق عليه؛ البخاري:1408، ومسلم:150).

 

والأمثلة من السنة كثيرة، والأمثلة من واقع الصحابة والتابعين والعلماء العاملين أكثر بكثير، فقد اهتموا بمنطوقاتهم، وبمدلولات ألفاظهم أيما اهتمام.

 

ونظرا للابتعاد عن المنهج الإسلامي في التعامل مع المصطلحات: إطلاقاً ونقلاً، تأثرت عدة مصطلحات بتشوهات وخرج البعض الآخر عن نطاق مدلولها، وحدث كثير من الخلل بين المصطلح ومفهومه، سيما في المصطلحات المنقولة عن الغرب، أو المتنازع عليها بين الفرق والطوائف الإسلامية.

 

فمن أمثلة المصطلحات الغربية: (العلمانية، والليبرالية، والقومية، والشيوعية)، وغيرها من المصطلحات المعبوث بها من قبل النقلة؛ لتمريرها إلى الداخل الإسلامي، بحيث يسهل على أفراده تقبلها دون معارضة لما تتضمنه من مخالفة للمسلمات والثوابت الإسلامية.

 

والأمر نفسه ينطبق على المصطلحات الإسلامية التي اختلف حولها في الداخل الإسلامي، ومن هذه المصطلحات: (التأويل، والتجديد، والمساواه، والأصولية، والتنوير)، إلى غير ذلك من المصطلحات والمفاهيم المجملة، التي لا يتضح معناها بغير غوص في خلفياتها الفكرية وتدبر لها.

 

ولكي ينضبط الأمر ويستقيم؛ على الناظر لهذه المصطلحات أن يحاكمها وفق المعيار الإسلامي، فإن كان مصطلحاً غربياً؛ لزم الناقل له أن يتتبع أصوله، وأن يتسم نقله بالأمانة والصدق، وأن يراعي الخلفية الفكرية التي نشأ على أساسها هذا المصطلح، وأن يدع المصطلح يعبر عن نفسه دون إعمال لذائقته أو ميوله الشخصية.

 

وإن كان المصطلح إسلامياً نُظر إليه وفق المنظور الشرعي، وحوكم بما تحتمله اللغة العربية، وما يرتبط به من ظروف اجتماعية، فهذه شروط ثلاثة، على الباحث استصحابها عند تعرضه لتحرير مصطلح ما أو تقييمه.

 

ــــــــــــــ

(1) التعريفات للجرجاني- تحقيق: إبراهيم الأبياري- دار الكتاب العربي- بيروت- 1405هـ- ط1: (ص:44).
(2) ضوابط قبول المصطلحات العقدية والفكرية عند أهل السنة والجماعة- د. سعود العتيبي- رسالة دكتوراه- جامعة أم القرى: (ص:30).
(3) نظرات في المصطلح والمنهج، د. الشاهد البوشيخي- مطبعة: انفو- برانت- فاس- ط3- 2004م: (ص:15).

(4) المرجع السابق: (ص:27).
(5) الاختلاف في المصطلحات العقدية-السيد صالح بن محمد العقيل: (ص:1).
(6) مجموع الفتاوى لابن تيمية- تحقيق: عبد الرحمن النجدي- مكتبة ابن تيمية- ط2- د.ت: (12/107).

(7) الحضارة. الثقافة. المدنية- دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم- نصر محمد عارف- المعهد العالمي للفكر الإسلامي- ط2-1415هـ: (ص:16).
(8) فتحُ البيان في مقاصد القرآن- محمد صديق خان القِنَّوجي- عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه:عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري- المَكتبة العصريَّة- صَيدَا – بَيروت- 1412هـ - 1992م: (1/243).

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات