سلسلة أمراض على طريق الدعوة (16) التسويف

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ضياع الهيبة وفقدان التأثير, فجزء كبير من عمل الداعية يقوم على أساس ثقة الناس فيه, وهيبته في قلوبهم, ومصداقيته عندهم, والداعية إذا كان مسوفا كثير التأجيل فإن مكانته ومنزلته وهيبته تضيع عند الناس, فتفريطه وتقصيره في أداء مهامه هو انعكاس لتقصيره في حقوق الله ووظائفه التعبدية من عمل اليوم والليلة, وبالتالي يسقط من عيون الناس, ويفقد تأثيره عليهم, ويستوي معهم, مع أنه من المفروض أن يكون قدوتهم وإمامهم ومرشدهم.

 

 

 

 

من أكثر الأمراض شيوعا بين الأفراد والجماعات وحتى الأمم والمجتمعات ؛ مرض التسويف أو التأجيل, فهو مرض ندر من يسلم منه, ولا ينجو منه إلا أصحاب الهمم العالية والعزائم السامقة, والإرادات القوية الصادقة. وخطورة المرض تزداد وأثره يقوى عندما يكون المرء في موضع مسؤولية, ومنوط به أداء المهام الجسيمة, فعندها يكون التسويف في اتخاذ القرارات الهامة جريمة لا تغتفر، وتضييعا للأمانة.

 

والدعوة إلى الله -عز وجل- من أهم المهمات وأعظم الأمانات وأشرف الأعمال, بل هي مهمة الصفوة من خلقه والسائرين على درب أنبيائه ورسله (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].

 

أولا: التسويف لغة واصطلاحا:

 

التسويف في اللغة يأتي على عدة معان منها:

 

1 ـ التأخير والمماطلة, يقال: "سوف يسوف تسويفا آخر, وماطل, يؤخر, ويماطل, تأخيرا, ومماطلة", وسوف حرف يدخل على الفعل المضارع, فيخصصه للاستقبال ودلالته التأخير.

 

2 ـ التهويل, يقال: "سوف الأمر تسويفا" يعني هوّله وضخم من شأنه, ويأتي في سياق التهديد, قال تعالى: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأنعام: 67] وقال: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3].

 

3 ـ الوعد, يقال: "سوَّف بالحسنة تسويفا" يعني وعد بها مستقبلا, ومنه قوله تعالى: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 74].

 

4 ـ الوعيد, يقال: "سوَّف بالسيئة تسويفا" يعني توعّد بها مستقبلا, ومنه قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) [مريم: 59].

 

هذا بالنسبة لمعنى التسويف لغويا, أما اصطلاحا فالتسويف هو المماطلة والتأجيل بلا مبرر معقول, ولا عذر مقبول. وعلى هذا فالتسويف يجمع بين العديد من الخصال الذميمة, فهو يجمع بين الكسل والفوضى, وسقوط الهمة, وضعف الإرادة, وعدم الشعور بالمسؤولية, كما يدخل فيه الخوف المذموم, والتردد والسلبية, وخصال أخرى كثيرة, كلها تتكامل فيما بينها لتنتج لنا في النهاية شخصا سلبيا مترددا لا يجيد إلا الهروب من المسئولية ورفض المواجهة.

 

والإسلام أراد من المسلم ابتداء أن يكون فردا إيجابيا منتجا فاعلا مؤثرا في بيئته ومجتمعه, لذلك حض على المسارعة إلى فعل الخيرات وبذل الطاعات والتوبة من المعاصي والمنكرات, فقال -سبحانه وتعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133] وقال: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10] وقال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) [المؤمنون: 99، 100] والآيات كثيرة في بيان المسارعة إلى الخيرات ورفض التسويف والمماطلة.

 

كما نبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الأمر نفسه فقال: "بادروا بالأعمال الصالحة سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا, أو غنىً مطغيا, أو مرضا مفسدا, أو هرما مفندا, أو موتا مجهزا, أو الدجال فشر غائب ينتظر, أو الساعة فالساعة أدهى وأمر". وقال: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك, وصحتك قبل سقمك, وغناك قبل فقرك, وفراغك قبل شغلك, وحياتك قبل موتك ".

 

وللتسويف عدة مظاهر وسمات أبرزها:

 

1 ـ البقاء على المعصية وتأجيل التوبة, وما أكثر صياح أهل النار إلا من كلمة "سوف"

 

2 ـ تأجيل عمل اليوم إلى الغد بغير مبرر أو فائدة.

 

3 ـ التنصل من المسؤولية, والهروب من مواجهة المواقف الصعبة, واتخاذ القرارات الحاسمة.

 

4 ـ الميل نحو الكسل والتراخي في أداء المهام المكلف بها, وإيثار السلامة والراحة في سائر تحركاته.

 

5 ـ التردد في دخول أي مجال جديد, أو تطبيق أي أفكار جديدة.

 

ولاشك أن التسويف إذا أصاب المسلم فضلا عن الداعية الدال على طريق الخير فإنه يؤثر عليه في حياته ودعوته أيما تأثير, ومن أبرز آثار التسويف على المسلم والداعية:

 

1 ـ الحسرة والندامة على إضاعة الفرص الواحدة تلو الأخرى, فالمسوف يقضي عمره كله يراوح بين أقدامه, يدور في حلقة ذاته الضيقة, غارقا في عيوبه وآفاته غير منتويا لإصلاحها أو تغييرها, يرى مجتمعه وبيته ومحيطه يعج بالمنكرات ومساوئ الأخلاق وهو لا يحرك ساكنا, مؤثرا السلامة, مؤجلا كل عمل لغدٍ لا يأتي أبدا, فيضيع عمره هباء منثورا, حتى إذا جاءه ملك الموت, وانكشف عنه الغطاء, أصابه الندم, وتحسّر على ما فات, ولات مناص, فاته القطار, وانقضت الأعمار, ولم يجن من وراء تسويفه إلا الويل والخسران. قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) [المؤمنون: 99، 100] وقال ( حتى إذا وقفوا على النار قالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) [ الأنعام 27]

 

2 ـ تراكم الأعمال, وصعوبة الأداء, فالتسويف يجعل الأعمال تتراكم, وحجمها يتضاعف, وتتزاحم الأعباء, بالتالي فالنتيجة الطبيعة هي صعوبة الأداء وتعقيد سير العمل, فتتخبط المسارات, ولا يدري الداعية بما يبدأ, وما يحتاج التأجيل, فيتشتت فكره ويضيع سعيه, ويصبح حاله فرطا؛ كحال خراش الذي خرج للصيد في قول الشاعر:

 

تكاثرت الظباء على خراش *** فما يدري خراش ما يصيد

 

3 ـ ضياع الهيبة وفقدان التأثير,  فجزء كبير من عمل الداعية يقوم على أساس ثقة الناس فيه, وهيبته في قلوبهم, ومصداقيته عندهم, والداعية إذا كان مسوفا كثير التأجيل فإن مكانته ومنزلته وهيبته تضيع عند الناس, فتفريطه وتقصيره في أداء مهامه هو انعكاس لتقصيره في حقوق الله ووظائفه التعبدية من عمل اليوم والليلة, وبالتالي يسقط من عيون الناس, ويفقد تأثيره عليهم, ويستوي معهم, مع أنه من المفروض أن يكون قدوتهم وإمامهم ومرشدهم.

 

أما عن الأسباب والبواعث التي تؤدي بالداعية للوقوع في داء التسويف, فهي كثيرة منها:

 

1 ـ البيئة المفسدة, فقد ينشأ الداعية في وسط أسري أو محيط اجتماعي يغلب عليه طابع العشوائية والتسويف, بحيث يميل أفراد هذا الوسط نحو التأجيل والتكاسل, وقد تتبني الأسرة مثلا تدليل أبنائها بحنو زائد عن الحد, فينشأ الولد في نعومة وترف وعدم قدرة على مواجهة الصعاب وركوب العزائم, فبالتالي لن يكون قادرا في كبره على اتخاذ القرارات الهامة أو مواجهة الأخطاء بعلاج حاسم.

 

ولعلنا في ضوء هذا نفهم السبب في تأكيده -صلى الله عليه وسلم- على ضرورة الوفاء للأولاد إذا تم وعدهم بشيء, وإلا كان ذلك الإخلاف باعثا وتعويدا لهم على الكذب, فالتسويف هو أوسع أبواب الكذب, فقد قال عبد الله بن عامر -رضي الله عنه-: "دعتني أمي يوما, ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا, فقالت: ها تعال أعطيك, فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما أردت أن تعطيه؟", قالت: أعطيه تمرا, فقال لها رسول الله:  أما إنك لو لم تعطه شيئا, كتبت عليك كذبة".

 

كما نفهم أيضا حزم الأنصار مع أبنائهم دفعا لهم إلى المبادرة بفعل المعروف, وقطع الطريق على التدليل والتسويف, فقد قالت الربيع بنت معوذ -رضي الله عنها-: أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: " من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه, ومن أصبح صائما فليصم ", قالت:فكنا نصومه بعد, ونصّوم صبياننا, ونجعل لهم اللعبة من العهن, فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار".

 

2 ـ الصحبة المتلفة, فقد تكون صحبة الكسالى والمسوفين وأصحاب الهمم السفلية, لاسيما لو كانت قبل التأسيس والتحصين الذي يحول دون انتقال عدوى التسويف, لذلك شدد الإسلام أيما تشديد على الصحبة, وضرب لها أمثالا كثيرة ومتنوعة في الحض على الصحبة الصالحة, والحذر من الصحبة الفاسدة.

 

3 ـ ضعف الإرادة, وهو من الأسباب الرئيسة في مرض التسويف, فضعف الإرادة يقود إلى فتور العزيمة, وسقوط الهمة, والكسل والتراخي, لذلك لم يكن مستغربا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستعيذ صباح مساء من العجز والكسل, فهي أمور تورث التسويف المهلك.

 

4 ـ الثقة الزائدة بالنفس, فقد يعتمد المرء على بعض ما وهبه الله -عز وجل- من نعم وملكات أو قوة جسدية, فيستهين بالأمور ويرى في نفسه المقدرة والكفاءة على إنجازها متى شاء اعتمادا على هذه المواهب والملكات, ولعل في قصة كعب بن مالك -رضي الله عنه- وتخلفه عن غزوة تبوك ما يبرهن على صحة هذا الأمر, فقد ظل كعب يؤجل التجهز للغزو يوما بعد يوم, ولا يبالي بتتابع الأيام حتى تفارط الحال, وخرج الناس للغزو ولم يدركهم.

 

5 ـ عدم المحاسبة والمتابعة من المسؤولين؛ فالمرء إذا لم يجد من يحاسبه على عمله المكلف به, ويتابعه في كيفية أدائه, فإنه يكسل ويسوف في أداء هذه الأعمال, فالنفس أمارة بالسوء, تكره مواطن التكليف وأسباب العمل, وعندما تغيب ولاية المؤمنين عن بعضهم بعضا فإن الكسل والتسويف ينتشر في المجتمع.

 

6 ـ طول الأمل, فنسيان الموت, ونسيان الدار الآخرة, ونسيان فجائية أمر الله على عباده المفرطين, يورث العبد تسويفا وتأجيلا في كل أموره, فهو يرى أن العمر أمام طويل, والحياة ممتدة, والفرص ستأتيه مواتية في كل مرة, فيأمن مكر الله, والإنسان مجبول على المسارعة في أداء الأعمال إذا خاف من مغبة التأخير, أما لفوات فرصة أو عاجل عقوبة, فلو أمن مكر الله فلن يقدم على فعل معروف أو ترك منكر, ويكون التسويف هو خياره المفضل في كل أموره.

 

التسويف مرض خطير سريع الانتشار إذا ما وقع في مجتمع خاصة مجتمع الدعوة فإنه يهدر الطاقات ويضيع الملكات ويحبط المشروعات, فلابد من أخذ النفس بالعزيمة والحزم, فالنفس إذا ما تعبت اليوم فإنها ستستريح غدا, لأنها لو ارتحت اليوم, ستتعب غدا, فمكر الله غير مأمون, والموت يأتي بغتة, وإذا لم يأت بغتة سبقه مرض وتعب ومعاناة.

 

والداعية يجب أن يعرف أن التسويف عجز وضعف, وخور وجبن, والمؤمن لا يكون عاجزا أو خائرا, بل كيف يكون ذلك وقد انتصب في مقام الدعوة الذي هو أشرف المقامات وأعلى المهمات ؟! كما يجب على من أراد أن يتخلص من داء التسويف أن يبادر بالتوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي حتى لا يحرم توفيق الله ومدده وعونه على القيام بأعباء الدعوة  كما عليه أن يضع الموت والخاتمة نصب عينيه, فلا تدري نفس متى وبأي أرض وعلى أي حال تموت.

 

وإن جولة لطيفة في حياة السلف والعلماء, ومعايشة لحياة بعض النشطاء من الدعاة تدفع في النفس جرعات وطاقات من العزم والجد الذي يقضي على داء التسويف.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات