شهر شعبان.. رحلة حياة

إيمان مغازي الشرقاوي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إنها رحلة حياة.. ليست حياة بدن بل حياة قلب، رحلة تسير بقلوبنا ثلاثة أشهر، رحلة تطهير وإصلاح، وتوبة وعمل، وزرع وغرس، وثمر وحصاد، رحلة إحياء لموات القلوب ومسح الران المتراكم عليها مع مرور الأيام، وتنطلق صافرة الرحلة عند شهر رجب، إيذاناً بالسير لبذر بذور الخيرات، حيث نأخذ من الأعمال فيه ما نطيق استعداداً للنزول في محطة شعبان لري ما بذرناه وسقيه فنزيد اجتهاداً في العمل وحرصاً على صلاحه، حتى ننزل في المحطة التي دعونا الله أن يبلغنا إياها.. شهر رمضان، فيطرق شهر شعبان بابه وينصرم.

 

 

 

 

 

 

أمَا تفكّرتّ في حياتها من بعد موتها، وتدبرْتَ فيما وصلت إليه؟ كيف صار؟ ولماذا حصل؟ وبأيّ من الأسباب تحققت تلك الحياة؟ إنه لولا همّة الغارسين - بعد فضل الله تعالى - لما نبتت، ولولا رعايتهم بالريّ والسُّقيا ما أنبتت، وبدون اهتمامهم بالبذر الصالح ما صلحت، ولولا حمايتها وتطهيرها ودفع الآفات عنها ما طاولت عنان السماء فأثمرت وارتفعت

 

هكذا قلوبنا المتقلبة بين موتها وحياتها، فلولا تفضُّل الله علينا بمواسم التوبة والنقاء والطاعة والإحياء ما كانت لتصلح، ولقد خلق الله تعالى الإنسان، ذلك المُطالَب بالغرس في أرض الدنيا، ومهّد له سبل الغرس فيها ووهبه من الوقت شهوراً عدة، فضَّل بعضها على بعض في الغرس والثمر والأكُل، فجعل عدة الشهور اثني عشر شهراً، كما قال في كتابه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)(التوبة:36)، وفاضل بين الشهور كما فاضل بين البشر، وله في ذلك حِكَم، وأعطى بني آدم الفرصة ليغرس كلٌّ منهم غرسه، والسعيد من وفقه الله تعالى وألهمه سبله. 

 

شهر شعبان :

من هذه الشهور الفضيلة شهر شعبان المبارك، قال ابن حجر يرحمه الله: «وسمي شعبان؛ لتشعبهم في طلب المياه أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام.. وقيل فيه غير ذلك».

 

وقد جعل الله شهر شعبان بين شهرين عظيمين، رجب، ورمضان، فرجب شهر الله المحرم المعظم لحرمته، ورمضان سيد الشهور به يتم بنيان الإسلام بالصيام، وشعبان وسط بين هذا وذاك، لذا فقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نغفل عنه وألا نضيعه بين أخويه العظيمين رجب، ورمضان، فهو أيضاً عظيم، وأن نخصه بمزيد من العبادة استعداداً لرمضان.  

 

فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسولَ اللهِ، أراك تصومُ في شهرٍ ما لم أركَ تصومُ في شهرٍ مثلَ ما تصومُ فيه؟ قال: «أيُّ شهرٍ؟»، قلتُ: شعبانَ، قال: «شعبانُ بين رجبَ ورمضانَ يغفلُ الناسُ عنه تُرفعُ فيه أعمالُ العبادِ فأُحِبُّ ألا يرفع عملي إلا وأنا صائمٌ...» (صححه الألباني، السلسلة الصحيحة)، وتقول: «ولم أرَه صائماً من شهرٍ قطُّ أكثرَ من صيامِه من شعبانَ، كان يصومُ شعبانَ كلَّه، كان يصومُ شعبانَ إلا قليلاً» (رواه مسلم)، وكان صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى أن يبارك فيه، فكان إذا دخل شهر رجب دعا ربه: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان» (رواه الطبراني). 

 

رحلة حياة:

إنها رحلة حياة.. ليست حياة بدن بل حياة قلب، رحلة تسير بقلوبنا ثلاثة أشهر، رحلة تطهير وإصلاح، وتوبة وعمل، وزرع وغرس، وثمر وحصاد، رحلة إحياء لموات القلوب ومسح الران المتراكم عليها مع مرور الأيام، وتنطلق صافرة الرحلة عند شهر رجب، إيذاناً بالسير لبذر بذور الخيرات، حيث نأخذ من الأعمال فيه ما نطيق استعداداً للنزول في محطة شعبان لري ما بذرناه وسقيه فنزيد اجتهاداً في العمل وحرصاً على صلاحه، حتى ننزل في المحطة التي دعونا الله أن يبلغنا إياها.. شهر رمضان، فيطرق شهر شعبان بابه وينصرم. 

 

إن الارتباط بين الشهور الثلاثة يكاد يكون واضحاً لكل ذي عقل، قال أبو بكر البلخي: «شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع»، وقال أيضاً: «مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر».  

 

وقال سلمة بن كهيل كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن، وروي عن أنس بإسناد ضعيف: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤوها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان.  

 

ويذكر أن قوماً من السلف باعوا جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟ لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، ردوني عليهم.  

 

نعم.. إن الإنسان في زحمة الحياة تفوته هذه المكرمات ويغفل عن القيام بها واستدراك ما فاته منها، وتأخذه غمرتها في بحر لا ساحل له من التسويف والأماني التي لا يفيق منها إلا وقد دخل الشهر الفضيل عليه دون أن يقدم بين يديه توبة نصوحاً، وقرباناً يسوقه أمامه في طريقه إلى رمضان، وقد كان الأولى به أن يغسل ثياب قلبه في شعبان، ويدخل رمضان نظيفاً.

 

شعبان.. وتغيير القبلة

وقد تميز شهر شعبان بحدث يعد من أهم الأحداث بالنسبة لكل مسلم، حيث حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة:144).  

 

قال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان (هناك أقوال تقول: إن تحويل القبلة كان في نصف شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، كما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر في الفتح).  

 

شعبان.. وليلة النصف منه

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «في ليلةِ النصفِ من شعبانَ يغفرُ اللهُ لأهْلِ الأرْضِ، إلَّا لمشرِكٍ أوْ مُشَاحِنٍ» (صحيح الجامع، صححه الألباني)، وقال: «ينزلُ اللَّهُ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبانَ إلى السَّماءِ الدُّنيا فيغفرُ لِكُلِّ نفسٍ إلَّا إنسانٍ في قَلبِهِ شحناءٌ أو مُشرِكٍ باللَّهِ عزَّ وجلَّ» (صححه الألباني، تخريج كتاب السُّنة)، «إذا كانَ ليلَةُ النِّصفِ مِن شعبانَ يطَّلِعُ اللَّهُ إلى خَلقِهِ فيغفِرُ للمُؤمنينَ ويترُكُ أهلَ الضَّغائنِ، وأهلَ الحقدِ بحقدِهِم» (صححه الألباني، تخريج كتاب السُّنة).  

 

أما عن صيام يوم النصف فقد قال ابن رجب في كتابه «لطائف المعارف»: فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر، وقد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه، ففي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذَا كانَتْ ليلةُ النِّصفِ مِن شعبانَ فقومُوا ليلَهَا وصومُوا نهارَهَا فإنَّ اللهَ تعالَى ينزلُ فيها لغروبِ الشَّمسِ إلى السماءِ الدُّنيَا فيقولُ: ألَا مستغفر فأغفرَ لَهُ ألَا مسترزقُ فأرزقَهُ ألا مبتلًى فأعافِيهِ ألا كذَا ألا كذَا حتَّى يطلعَ الفجرُ».

 

لكن الشيخ ابن باز يرحمه الله يقول: «إن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم»، ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: «ليلة النصف من شعبان لم يأتِ فيها حديث وصل إلى درجة الصحة...»، وقال أيضاً: «أما ليلة النصف من شعبان فمعظم ما يفعل فيها من أشياء ليس وارداً، ولا صحيحاً ولا من السُّنة في شيء»، وقال في جواب عن تخصيص صيام أيام من شعبان: «.. أما أن يصوم أياماً محددة، فلم يرد قط، وفي الشرع لا يجوز تخصيص يوم معين بالصيام، أو ليلة معينة بالقيام دون سند شرعي.. إنّ هذا الأمر ليس من حق أحد أياً كان وإنما هو من حق الشارع فحسب.

 

-----------

المصادر:

1- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف للإمام ابن رجب.

2- موقع «الدرر السنية». 

3- موقع «صيد الفوائد».

4- تفسير القرطبي. 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات