الشريعة الإسلامية وتجارب التطبيق (2 / 2)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إن أخطاء التطبيق لابد أن تنسب إليها المسئولين الحقيقيين عنها، فالمنهج لا ريب فيه، ولا عوج في مبادئه وقيمه وأدواته، والخطأ يأتي من المطبق، وهذا هو ما تقضيه الموضوعية في التقويم والإنصاف في الحكم، والعلمانيون وكارهو الشريعة يطففون في الميزان نهار جهارا وهم يدعون في نفس الوقت التجرد والإنصاف، فهم عندما يتحدثون عن فشل المذاهب الوضعية في بلاد الإسلام، فإنهم يبرئون وينزهون مناهجهم المقدسة من الخطأ، وينسبون..

 

 

 

 

تكلمنا في الجزء الأول عن بعض الشبهات التي يحاول العلمانيون والليبراليون والكارهون لتطبيق الشريعة الإسلامية ترويجها في العالم الإسلامي حول التجارب العملية لتطبيق الشريعة، وهم يحسبون بذلك أنهم سيطفئون نور الله بأفواههم.  وتكلمنا في الجزء الأول عن شبهة أن الشريعة مطبقة بالفعل، ثم تكلمنا عن شبهة افتقار الشريعة للبرامج اللازمة للتطبيق العملي، وقد رددنا على هاتين الشبهتين، وهذه المرة سوف نعرض لشبهة أخرى تتعلق بنفس المجال وهو المجال التطبيقي للشريعة الإسلامية، وبيان الرد عليه بمشيئة الله - عز وجل -.  

 

ثالثا: شبهة اختلاف المدارس الفقهية

 

فالعلمانيون دائما ما يلقون بهذه الشبهة في وجوه دعاة تطبيق الشريعة، ظنا منهم أنها سوف تحدث خللا واضطرابا في الصفوف والنفوس، فهم يقولون: أي شريعة تريدون تطبيقها ؟ شريعة أبي حنيفة أم شريعة مالك أم شريعة الشافعي أم شريعة أحمد ؟ وهل تريدون فقه مدرسة الرأي أم فقه مدرسة الأثر ؟ وأي التجارب تريدون تعميمها: تجربة الخميني في إيران، أم تجربة محمد بن عبد الوهاب في السعودية، أم تجربة السودان، أم تجربة باكستان ؟ وكل هذه التجارب تختلف مع بعضها البعض اختلافا كبيرا ؟!

 

العلمانيون بهذا التقسيم البدعي يريدون تقديم قضية الإسلام وكأنه شرائع منفصلة، ونماذج شتى متباينة، يعجز معها دعاة تطبيق الشريعة عن الوصول لصيغة مثالية، ويغرق فيها الباحث عن الحق في متاهة التفاصيل والمتناقضات والمفارقات، ثم يحاولون إلصاق سلبيات التجارب البشرية التي لابد وأن يعتريها عوار ونقص لبشرية المطبقين، كأن الإسلام المقدس المنزه مسئول عن الأخطاء البشرية، ومن ثم لا يصلح للتطبيق، حتى يبقى منزها مقدسا في نفوس المسلمين.  

 

والرد على هذه الشبهة يكون من عدة زاويا منها:

 

1 ـ إن التعددية الفقهية وتنوع المدارس العلمية التي تناولت نصوص الشريعة لهو مصدر ثراء كبير، وآية صدق على يسر الشريعة الإسلامية واتساعها للحاجات المتغيرة للبشر على مر العصور، حيث تتمكن الأمة بكل سهولة أن تقتبس من هذا المعين الضخم للاجتهادات الفقهية في كل عصر ما يرجحه الدليل وتقضيه المصلحة، وهو بذلك رحمة من رحمات الله الواسعة بهذه الأمة الضعيفة، فإذا ضاق عليها المر في مذهب التمست السعة في مذهب غيره شريطة أن يكون ذلك في دائرة الاجتهادات والخلافات السائغة، لا في دائرة القطعيات  والمحكمات التي لا يسع المسلم الخروج عنها بحجة تغير الزمان واختلاف المتطلبات.  

 

2 ـ إن الإسلام الذي ننشده وينشده كل مسلم هو إسلام الكتاب والسنة وما أجمع عليه السلف، وهو المحكم الذي لا مراء فيه، أما ما وراء ذلك من الاجتهادات الفقهية فهو من موارد الاجتهاد التي لا يضيق فيها على المخالف، ولأهل العلم في كل عصر أن يرجحوا ما تقتضيه الأدلة و يحقق المصلحة، ولا حرج أن تتفاوت الاجتهادات من بلد لآخر، ومن عصر لآخر، بل لا حرج في إعادة النظر في هذه الاجتهادات وتنقيحها كل فترة حسب المستجدات والنوازل، فالشريعة الإسلامية بها قدر كبير من المرونة والاستجابة للحاجات البشرية المتغيرة بما يتوافق مع الكتاب وصحيح السنة والأصول المعروفة للاستنباط والفهم.

 

3 ـ إن تفاوت الاجتهادات والتفسيرات في الأمور الجزئية ظاهرة طبيعية في عالم البشر، لا يكاد يخلو منها تشريع أو تقنين بشري، واختلاف المحاكم والقضاة في فهم القانون وتطبيقه معروف للجميع، وكذلك اختلاف الأطباء في تفسير المرض ووصف العلاج، وسائر الفنيين في كثير من الفروع والتفصيلات، وربما يقع التباين بين هؤلاء المتخصصين بصورة تصل للتقاطع الكامل، بحيث يكون قول أحدهم مناقضا بالكلية لقول الثاني وهكذا، فلما يلومون إذا على الفقهاء اختلافهم ويعدونه مذمة قادحة لهم !

 

4 ـ إن العلمانيين والمعاندين للشريعة يكيلون بهذه الشبهة بمكيالين، فهم عندما يتحدثون عن الإسلام يشغبون عليه باختلاف مذاهبه وتعدد تجارب تطبيقه، وعندما يتحدثون عن تجارب مذاهبهم الوضعية وعقائدهم السياسية لا يكادون يتفقون على تعريف محدد لما ينادون به من هذه النظريات، ولا يجدون في تعدد مدارسها وتباين مذاهبها مانعا يمنع من تطبيقها، أو يثني عزمهم عن المناداة بها ودعوة الناس لتطبيقها. ولو تأملنا عباراتهم عن مناهجهم الوضعية ومدى تباينهم في تعريفها لرأيت عجب العجاب، فهذا هو الكتاب الفرنسي اليهودي " مكسيم رود ستون يقول عن الشيوعية: ".

 

 الحقيقة أن ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات، ولقد قال ماركس أشياء كثيرة ومن اليسير أن تجد في تراثه ما نبرر به أيه فكرة ".  وقال مكسيم لورا عن الاشتراكية: " لاشك في أن هناك اشتراكيات متعددة، فاشتراكية بابون تختلف أكبر اختلاف مع اشتراكية بردون، واشتراكية سان سيمون تميز بشدة عن اشتراكية بلانكي، وإنك لا تجد داخل كل فرقة أو شعبة إلا خصومات عنيفة، تحفل بالأسى والمرارة " وليست الديمقراطية بأقل تباينا عند واضعيها من المذاهب الأخرى، فجميع المناهج الليبرالية والاشتراكية والشيوعية والرأسمالية إلا وتدعي أن ديمقراطيتها هي الديمقراطية الحقة.

 

5 ـ إن أخطاء التطبيق لابد أن تنسب إليها المسئولين الحقيقيين عنها، فالمنهج لا ريب فيه، ولا عوج في مبادئه وقيمه وأدواته، والخطأ يأتي من المطبق، وهذا هو ما تقضيه الموضوعية في التقويم والإنصاف في الحكم، والعلمانيون وكارهو الشريعة يطففون في الميزان نهار جهارا وهم يدعون في نفس الوقت التجرد والإنصاف، فهم عندما يتحدثون عن فشل المذاهب الوضعية في بلاد الإسلام، فإنهم يبرئون وينزهون مناهجهم المقدسة من الخطأ، وينسبون الخطأ إلى التطبيق، ويلتمسون أعذارا كثيرة لتبرير الفشل ،وعندما يتحدثون عن الإسلام يحمّلونه أخطاء التطبيق مباشرة، فكأنهم ينزهون البشر ويطعنون في رب البشر وهم يعلمون !!

 

6 ـ بعيدا عن شبهات العلمانيين وأراجيف المبطلين وانتحال الضالين، أليس القرآن هو معجزة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ؟ أليس القرآن وحي من الله - عز وجل -  لا يأتيه الباطل من بين يديه من خلفه ؟ أليس كل حرف فيه صدق لا ريب فيه ؟ أليس الإيمان بالقرآن واجب لا يصح إسلام بدونه ؟ أليس الكفر بآية أو بحرف من القرآن، هو كفر بالقرآن كله ؟ ألم يقرأ هؤلاء المحسوبون على الإسلام، وهو منهم وممن أفعالهم براء، قوله - عز وجل -  ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) [ المائدة: 49] وقوله: ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) [ النساء: 60]، وقوله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [ النساء: 65] وقوله: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة 44].

 

فهل نسخت هذه النصوص المحكمة والآيات القاطعة بوجوب تطبيق الشريعة وعلاقتها بأصل الإيمان ؟

 

وهل الخطاب القرآني فيها لجيل الصحابة فحسب، ومن كان بعدهم غير مخاطب بهذه التكاليف والأوامر السماوية ؟ ومن ثم يسعه الخروج عنها وعدم التقيد بها ؟

 

لو قالوا نعم لكفروا، ولو قالوا لا لخُصموا وبطلت كل حججهم وشبهاتهم الواهية

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات