الإسلام بين بناء الروح وبناء الدولة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

قال شيخ الأزهر محمد الخضر حسين - رحمه الله -: " في القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات،كأحكام البيع والربا والرهن و ..... وهذا يدلك على أن من يدعو لفصل الدين عن السياسة إنما تصور دينا آخر وسماه الإسلام ،.... إلى أن قال " فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين..

 

 

 

 

 

تمثل مسألة الدولة واحدة من أكثر المسائل تعقيداً في الاجتماع السياسي الحديث. وقد شكلت مسألة الدولة أحد أكبر التحديات التي واجهت دعاة إقامة الدولة الإسلامية، منذ ولادة التيار المنادي بعودة الخلافة في عشرينات القرن العشرين. فقد لاحظ دعاة النموذج الإسلامي كيف باتت الدولة الحديثة تتحكم في كافة شؤون الحياة، وهو ما طور رؤيتهم تدريجياً باتجاه محاولة القبض على مقاليد الحكم والسلطة. بدون التحكم بمقاليد الدولة، في الوقت الذي رأت القوى العلمانية السياسية، استحالة تطبيق لشروع الأسلمة الذي حملوه. نظرا للتباين الكبير في وجهة نظر هؤلاء تجاه الإسلام نفسه كدين، ودوره في الحياة الحديثة، والفارق الكبير بين بنية الدولة الحديثة والأسس التي ترتكز إليها،من وجهة نظر العلمانية ،ونموذج الدولة الإسلامية التاريخية الذي استبطنه أهل العلم.

 

فالعلمانيون يفهمون الإسلام لا كما أنزله الله - عز وجل -، ولا كما فهمه المسلمون الأوائل، ولكن فهموه فهما منقوصا معيوبا به كثير من العوار الذي يتماشى مع نفسيات الكارهة لكل ما هو سماوي. فهم يفهمون الإسلام على أنه مجموعة من الشعائر التعبدية فحسب، تهدف إلى رقي الروح وسمو الأخلاق، أما ما وراء ذلك من أحكام ومعاملات وقضاء وشئون العباد، فكل ذلك عندهم ليس للدين فيه نصيب !. وهذه الفكرة الانفصالية الخبيثة نشأت في أوروبا في أعقاب صراع طويل بين الكنيسة وبين السلطة الزمنية انتهى إلى هذه الثنائية المقيتة، فأقامت الكنيسة مملكتها على الأرواح، وأقامت السلطة الزمنية على شئون الحياة، أو بعبارة أخرى " دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ".

 

هذه النحلة الخبيثة لم تكن لها أن تروج في بلادنا الإسلامية إلا بعد أن أصابها الوهن والضعف وضرب التخلف بأطنابه في أركانها، فوقعت فريسة للغزو الفكري قبل أن تقع فريسة للغزو العسكري، وعلى يد المستشرقين من مفكري الغرب أخذت الأفكار والآراء والنظريات الغربية في التسرب شيئا فشيئا إلى حواضر العالم الإسلامي ومراكز الفكر والتأثير فيها، واستفرخ هؤلاء المستشرقون من بين أبناء المسلمين من يقول بقولهم ويعتنق فكرهم، بل ويزايد عليهم في العتو والكراهية للإسلام. وكانت تركيا دار الخلافة العثمانية أول بلد إسلامي يثب عليه بنو علمان فأرادوا الخلافة سريعا، وانفرط معها عقد العالم الإسلامي فكان الاحتلال الأوروبي لمعظم حواضر العالم الإسلامي.

 

ومقارنة ما جرى في أوروبا من تقدم ورقي وحضارة عندما نبذوا تعاليم دينهم المحرف، وتحرروا من نير الكنيسة وخرافاتها، مع الإسلام كدين وكدولة وكحضارة، يعتبر أمر في غاية الظلم والإجحاف، بل كارثة بل المقاييس وذلك من عدة وجوه:

 

1 ـ إن المناداة بفصل الدين عن الدولة في تاريخ النصرانية عود بها إلى وضعها الأول وإن انحرافها عن هذا المبدأ جر عليها وعلى شعوبها البلاء والشقاء. أما في الإسلام فإن المناداة بفصل الدين عن الدولة انحراف به عن وضعه الصحيح، وإن وقوع هذا الفصل في بعض مراحل التاريخ قد جر على الأمة والمسلمين البلاء والشقاء.

 

2 ـ إن علاقة الدين بالدولة في تاريخ القرون الوسطى جعل من رجال الدين ـ حسب الوصف الأوروبي ـ طبقة تمثل السيطرة والاستعلاء والكبر والتعصب وضيق الأفق والعنجهية. أما في الإسلام فهذه الطبقة ليست موجودة بالأساس، ولا يعترف بها الإسلام من الأساس، فكيف يقر لها بامتيازات من سيطرة واستعلاء ؟.

 

3 ـ إن ربط الدولة بالدين في أوروبا قد أدى لاضطهاد الفكر وكبت الحريات واشتعال الحروب الدينية المفجعة، وقد أدى لظهور أجيال متعاقبة من البشر يحكمهم الجهل والبؤس والخرافة والأساطير. أما ربط الدولة بالدين فقد ارتبط بالازدهار والتقدم والتحليق في سماء الإبداع، فكانت المكتشفات العلمية والنظريات والمناهج والرؤى التي استفاد منها العالم بأسره، ربط الدولة بالدين في الإسلام حرر الناس من الأوهام والخرافات والشركيات، وحقق لهم الكرامة والعدالة والأمن والرفاهية.

 

4 ـ إن فصل الدين عن الدولة في تاريخ أوروبا كان في عصر نهضتها الكبرى، ولقد سارت من بعده حرة طليقة تسيطر على العالم وتتحكم في مصائره. أما في الإسلام فإن أزهى عصور حضارتها وأحفلها بالقوة والمجد والمآثر كانت عصور التمسك بالدين وإعمال أحكام الشرع، ويوم أن حاولت اقتفاء أثر أوروبا وتنسلخ عن دينها وقعت فريسة الاحتلال الأوروبي والجمود والتخلف والضعف والتفرق.

 

وخير مثال على هذه المقابلة ؛ تركيا التي كانت في يوم من الأيام خلافة تحكم إجمالا بالشرع امتدت ممالكها في ثلاث قارات وتسيطر على العالم القديم، خلافة لا تغيب عنها الشمس، ويوم أن بدأت الأفكار العلمانية تتسرب إليها شيئا فشيئا أخذ الضعف والوهن يدب في أوصالها حتى جاء المجرم أتاتورك وألغى الخلافة وفصل الدين عن الدولة، بل حارب الدين واضطهد أهله ودعاته وشيوخه، فكيف أصبحت تركيا بعدها ؟ أصبحت منزوية في أقل من عشر مساحتها السابقة، لا قيمة لها ولا وزن ولا اعتبار، تتسول عضوية الاتحاد الأوروبي منذ عشرات السنين، وأوروبا ترفض وتضن عنها ذلك الشرف المهين !.

 

هذا ولا يخفى أن في القرآن أحكام كثيرة ليست من العبادات ولا من الأخلاق المجردة كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث والقصاص والحدود، وآيات تنظم العلاقات الدولية مع المسلمين وغير المسلمين، وتنظم القتال والحرب، وتجاوز كل هذه الآيات وإهدارها بإدعاء أن الإسلام دين عبادة لا دين دولة، أن مجالاته الروح والتذكية فحسب لا يصدر إلا من جاهل أو كاره للدين، ولا يخلو من أحد أمرين:

 

 

1 ـ إما إنكار كل هذا الحشد الهائل من الأحكام، ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث، وهذا كفر بواح معلوم من الدين بالضرورة.

 

2 ـ وإما الإقرار بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة، ولكن ينكروا صلاحيتها للتطبيق وكفالتها للمصالح في هذا العصر، وهذه زندقة أشد جرما من الأولى، فإن عيب التشريعات هو عيب للذي شرعها، وطعن له في حكمته وعدله سبحانه وتعالى. كما أنهم بهذا المسلك يضعون البشر في مرتبة أعلى من الله - عز وجل -، يحكم بما يشاء ويقضي بما يشاء. وما استحق إبليس اللعن والطرد والمسخ والخلود في العذاب والهوان إلا لأنه قد تكبر على أمر واحد لله - عز وجل -، فكيف بهؤلاء وهم يردون على الله كافة شرائعه وأحكامه ويتهمونها بالقصور والجمود وانعدام الصلاحية.

 

وهذه طائفة من أقوال أهل العلم في كشف هذه الفرية وإبطالها: قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -: " والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائنا من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قال فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ".

 

قال شيخ الأزهر محمد الخضر حسين - رحمه الله -: " في القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات،كأحكام البيع والربا والرهن و ..... وهذا يدلك على أن من يدعو لفصل الدين عن السياسة إنما تصور دينا آخر وسماه الإسلام ،.... إلى أن قال " فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين ". قال الشيخ مصطفى صبري آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية: " إن هذا الفصل ـ بين الدين والدولة ـ مؤامرة بالدين للقضاء عليه. ولقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة للخروج عليه.

 

ولكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد، فهو ثورة حكومية على دين الشعب، إلى أن قال " وهو أقصر طريق إلى الكفر ". قال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله -: " التصدي لدعوى " فصل الدين عن الدولة " بإبطالها، والبيان للناس جهارا بأن السياسة عصب الدين، ولا يمكن له القيام والانتشار وحفظ بيضته إلا بقوة تدين به، وإن هذه الدعوة الآثمة في حقيقتها عزل للدين عن الحياة، ووأد للناس وهم أحياء، وما حقيقة وصل الدين بالسياسة إلا الدعوة إلى الله - عز وجل -، وإقامة الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على مد الإسلام وجزر الكفر والكافرين وقهر الفسقة عن المحارم والتهارش حماية لحرمات المسلمين وأوطانهم واستقرار أمنهم، ليكونوا يدا على من سواهم عونا على من ناوأهم، وبالجملة ليعيش المسلمون في ظل حماية إسلامية لا في ظل أعدائهم من المشركين والملحدين. ولن يقوم هذا الدين ولن تتحقق غاياته في الحكم والقضاء ومجالات الحياة كافة إلا بمن يحمل راية التوحيد يصدع الكفر والكافرين، ويقوم عوج الفسقة والمائلين عن الصراط المستقيم، وهذا لا يتأدى إلا بسلطان (ذي شوكة) يدين بالإسلام وعالم يجهر بالبيان، فإذا اجتمع اللسان والسنان من تحتهما جيل الجهاد في (دائرة الإسلام) كانت الضمانة العظمى لنصرته ونشر الدعوة إليه، وبناء حياة الأمة على هدي الكتاب والسنة "

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات