تحكيم الشريعة والاستبداد السياسي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

فالطاعة المطلقة لا تكون إلا لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل الناس بعد الرسول يؤخذ من كلامها ويترك، فطاعة ولي الأمر والحاكم وطاعة الأبوين وطاعة الزوج، كل هذه الطاعات مقيدة بكون المأمور به موافق لشرع الله، غير ذلك فلا سمع ولا طاعة، فإنما الطاعة في المعروف، والدلائل على هذا الأصل من الشهرة بمكان، بحيث تغني عن إعادتها وذكرها، وجماعها قوله صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".

 

 

 

 

من الأمور التي يروج حديثها دائما على ألسنة العلمانيين والليبراليين وخصوم الشريعة الإسلامية، ويحاولون التشغيب بها على المطالبين بتطبيق شرع الله تعالى؛ كلامهم عن أن تطبيق الشريعة الإسلامية ،يؤدي إلى تكريس الاستبداد السياسي الذي عانت منه البشرية لقرون طويلة، وكان سببا لمعظم المشاكل والأزمات المجتمعية عبر التاريخ، حيث يرون أن الحكومات التي تطبق الشريعة تحكم بموجب الحق الإلهي، وتحتكر السلطة المطلقة التي لا يستطيع معها المحكومون التعبير عن آرائهم بحرية، أو انتقاد السلطة الحاكمة، أو المطالبة بتداول السلطة، والحل في فصل العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة، وتنقل السيادة من سلطان الوحي إلى الأمة، كما فعلت أوروبا عندما تخلصت من إرثها الكنسي فتقدمت، وتمتعت شعوبها بحقوقها كاملة غير منقوصة.

 

هذا هو ملخص الكلام والشبهة التي يرددها دائما العلمانيون وخصوم الشريعة والتي للأسف لاقت قبولا عند كثير من المسلمين الذين لا يعرفون حقيقة العلمانية وحيلها ودسائسها ضد الإسلام والشريعة الإسلامية، وللرد على هذه الشبهة الباطلة والفرية المضللة لابد من تأسيس عدة أصول هامة في قضية تحكيم الشريعة وهي:

 

أولا: الحاكمية لله والسيادة للشريعة

 

لا منازعة في أن الحاكمية العليا والسيادة المطلقة في الإسلام لا تكون إلا للشرع لا غير، فالشرع وحده دون غيره هو الحجة القاطعة والحكم الأعلى، والخضوع له واجب لازم على الجميع حكاما ومحكومين، وهم فيه سواء بلا تفضيل أو تقليل، ومبدأ "الحاكمية لله " يختلف بالكلية عن نظرية " الحق الإلهي " التي كان يحكم بها ملوك أوروبا في القرون الوسطى، حيث كانوا يدعون لأنفسهم القداسة والعصمة، ويعتبرون أي محاولة للاعتراض عليهم هرطقة وكفر يستحق صاحبها الإعدام بلا أدنى رأفة.  

 

فالحاكمية في الإسلام هي الحاكمية التشريعية التي تجعل الحق في التشريع المطلق أو السلطة المطلقة التي تملك توجيه الخطاب الملزم إلى الكافة على سبيل الاقتضاء أو التخيير أو الوضع، والحاكمية التشريعية هي التي تعلو إرادتها على جميع الإرادات ولا تحدد بقانون لأن إرادتها هي القانون، وهي حق خالص لله - عز وجل - لا يشاركه في مخلوق أبدا مهما كانت درجته ورتبته.

 

أما التشريع الذي يعتمد على التخريج على نصوص الكتاب والسنة واستنباط الأحكام لما يجد من النوازل في ضوء قواعد الشريعة الإسلامية العامة ومبادئها الكلية فهو حق لمن تأهل له من أهل العلم، وليس في ذلك كهانة كما يروج العلمانيون وكارهو الشريعة، وهل يتعارض قولنا لا كهانة في الطب مثلا، مع قولنا لا يمارس الطب إلا المتخصصون والأطباء وهكذا في سائر التخصصات. فالحاكمية إذا لا تعني أن فئة بعينها دون غيرها من الناس تدعي العصمة وتحتكر الحق في تفسير النصوص، فذلك من جنس اتخاذ بعض الناس أربابا من دون الله، فباب الاجتهاد مفتوح لكل من تأهل له من الأمة واستكمل أدواته وحاز آلته.

 

أما في الحضارة الغربية والديمقراطية فالجانب التشريعي يعني الإقرار لممثلي الشعب بالحق في التشريع المطلق يُحلون به ما يشاءون ويُحرمون به ما يشاءون، وهو ما يرفضه الإسلام ولا يقره بل ولا يعرفه أصلا، وهو مفترق الطرق بين النظام الإسلامي القائم على فكرة الخضوع والعبودية لله تعالى، النظم العلمانية التي تأبى ذلك وترفضه بشدة.

 

ثانيا: طاعة الحاكم ليست مطلقة

 

فالطاعة المطلقة لا تكون إلا لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل الناس بعد الرسول يؤخذ من كلامها ويترك، فطاعة ولي الأمر والحاكم وطاعة الأبوين وطاعة الزوج، كل هذه الطاعات مقيدة بكون المأمور به موافق لشرع الله، غير ذلك فلا سمع ولا طاعة، فإنما الطاعة في المعروف، والدلائل على هذا الأصل من الشهرة بمكان، بحيث تغني عن إعادتها وذكرها، وجماعها قوله صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".

 

ثالثا: مبدأ الشورى

 

الشورى في الإسلام ليست نتاج تجربة بشرية أو موروثا ثقافيا أو تقليدا اجتماعيا، إنما هي دعامة من دعائم المجتمع الإسلامي، وحق أصيل للجماعة المسلمة منحها إياه المولى - جل وعلا -، وأنزل فيه وحي يتلى ويتعبد به إلى قيام الساعة، وبالتالي فلن يستطيع كائن من كان أن يلغي هذا الحق الأصيل أو ينسخه، بل إن مجالات الشورى أوسع وأعم من نطاقها السياسي فحسب، فهي ممتدة إلى سائر مناحي الحياة، وكون الشورى من عند الله فتلك المصدرية المقدسة تعصمها من تلاعب الحكام وتداخل الأهواء، فالشورى ليست منحة من حاكم ولا تفضلا من نظام على شعبه، ولو جاز لأحد أن يتجاوز الشورى لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحق الناس بذلك، ومع ذلك يلزمه الله - عز وجل - بأمر إلهي بالشورى فقال له تعالى: ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) [ آل عمران 159].

 

 وهذه الآية المحكمة نزلت عقب غزوة أحد والتجربة المريرة التي خاضها الصحابة مع الشورى، بعد أن تشاوروا في أمر المعركة فذهب جمهورهم للخروج للقاء العدو خارج المدينة، في حين ذهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقلة من أصحابه للقتال من داخلها، ومع كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوما يأتيه الوحي وخير خلق الله - عز وجل -وأكملهم عقلا وعملا وفهما، إلا إنه نزل على رأي الشورى وخرج مع أصحابه وكانت الواقعة التي راح فيها خيرة الصحابة وسادتهم، فلو كان في وسعه صلى الله عليه وسلم مخالفة الشورى لخالفها، ولكن الله - عز وجل - يربي الجماعة المسلمة على تحمل تبعات قراراتهم، فينزل الأمر السماوي بتثبيت العمل بالشورى حتى يترسخ مبدأها، فالإسلام لا يعرف ميوعة تأجيل الالتزام بالمبادئ حتى تستعد الأمة لممارستها.

 

ولا منازعة في أنه إذا كانت السيادة للشرع فالسلطة التنفيذية للأمة، ممثلة في أهل الحل والعقد هي التي تختار أئمتها وتعقد لهم البيعة، وتراقب أدائهم الوظيفي، وتحاسب عند الخطأ، وتعزلهم عند الضرورة، والشواهد على ذلك كثيرة منها:

 

1ـ ما قاله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من على المنبر:" بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر لبايعت فلانا، فلا يغرن امرءا أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي يبايعه تغرة أن يقتلا ". فكلام عمر - رضي الله عنه - يوضح مدى أهمية وخطورة الشورى، بحيث من يتجاوزها ويهدر حق الأمة في استعمالها قد يعرض نفسه للقتل.

 

2ـ ما قاله علي - رضي الله عنه - عندما اجتمع إليه الناس في بيته وأرادوا أن يبايعوه فقال لهم: " إن بيعتي لا تكون خُفية، ولا تكون إلا في المسجد. فحضر الناس إلى المسجد، ثم جاء عليّ فصعد المنبر وقال: " يا أيها الناس عن ملأ وإذن، إن هذا أمركم ليس لأحد من حق إلا من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإن ليس لي دونكم إلا مفاتيح مالكم معي، وليس لي أن آخذ درهما دونكم .. فبايعه طلحة والزبير والناس من بعدهم ".

 

3 ـ ما روي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - بعد أن أخذت له البيعة بناء على عهد من الخليفة سليمان بن عبد الملك، فصعد المنبر ثم قال: " أيها الناس إني لست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا وإليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوال ثم نزل " ومعني كلام عمر أنه لم يعتد بعمل سليمان واعتبره مجرد ترشيح، وأن عموم الأمة هي صاحبة القرار قبولا أو رفضا.

 

4 ـ الإمامة معتبرة عند أهل العلم من فروض الكفاية، أي أن الأمة هي وحدها المخاطبة بإقامة هذا الواجب، وإذا لم تقم به على وجهها أثم الجميع، فهو ليس مجرد حق لها بل واجب أناطته الشريعة بها، وإن نزعه عنها أحد فهو ظالم وإن تخلفت هي عن أدائه فهي آثمة.

 

5 ـ الإمام إذا أراد أن يستعفي من منصبه فإنه يتقدم بذلك إلى الأمة التي هي مصدر السلطات، فهي التي تعين وهي التي تقيل، وهي التي يطلب منها قبول الاستقالة، فدّل ذلك على أنها هي صاحبة الحق في السلطة ابتداء ودواما. قال الماوردي - رحمه الله - في الأحكام السلطانية، في بيان الأمور التي يختلف فيها الإمام عن الوزير: " للإمام أن يستعفي الأمة عن الإمامة وليس ذلك للوزير ".

 

6 ـ ما قرره أهل العلم من أن الأمة هي التي تتولى خلع الأئمة عند الاقتضاء لسبب يوجبه، وهذا أمر بديهي لأن من يملك سلطة التعيين يملك سلطة العزل. قال البغدادي في أصول الدين: " ومتى زاغ عن ذلك كانت الإمامة عيارا عليه: في العدول به من خطئه إلى صواب، أو العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه، وقضاته، وعماله، وسعاته: إن زاغوا عن سننه عدل بهم، أو عدل عنهم ".

 

رابعا: ضمانات منع الاستبداد

 

ضمانات منع الاستبداد من الوسائل الاجتهادية التي لها حكم المقاصد، فإذا كان المقصود من الأمور الشرعية الصحيحة، فإن الإسلام جاء به وحض عليه ولم يمنع منه شيئا، لذلك فإن كل ما وصل إليه الفكر البشري المعاصر من ضمانات لمنع الاستبداد السياسي فإن الإسلام يقره في الجملة مادام متقيدا بهذه الأطر السابقة، ولهذا شاع في تراث العلماء مقولة " إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة  واسعة " .

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات