قراءة سياسية لنصوص صلح الحديبية (1 ـ 2)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ومن أشهر النصوص النبوية التي تناولتها الأقلام والأفهام بصورة متغايرة بحيث صارت معقد صراع واختلاف كبير في الرؤى والتوجه ؛ صلح الحديبية الذي وقعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع مشركي قريش في ذي القعدة من العام السادس من الهجرة، والذي يعد من أهم وأكبر مواطن تطبيق السياسة الشرعية، فالبعض قد اعتبره وثيقة في فقه " الموازنات " والبعض اعتبره درسا راقيا في فن التفاوض، في حين

 

 

 

 

 

دخول غمار العمل السياسي من أهم القضايا المعاصرة التي تواجه الدعاة خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي أزالت الموانع التي كانت تقف في وجه الإسلاميين من ممارسة العمل السياسي، بحيث أصبح المجال مفتوحا أمامهم لعرض أفكارهم ومشاريعهم لتطبيق شرع الله - عز وجل - وأطروحاتهم، وبرزت العديد من الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس واليمن وليبيا، ومن ثم برزت الحاجة لوضع الضوابط العامة الحاكمة لممارسة العمل السياسي بالنسبة للدعاة والعاملين لدين الله - عز وجل -، خاصة بعد وقوع البلاد المسلمة في قبضة العلمانية لعهود طويلة، ونظرة الناس لمن يمثلون المشروع الإسلامي على أنهم قارب النجاة لمشاكل المجتمعات المزمنة، لذلك فقد توجب تأسيس عقد إسلامي راشد لعمل الدعاة بالعمل السياسي.

 

لاشك أن دخول الدعاة وأنصار التيار الإسلامي إلى مضمار الحياة السياسية يستتبعه العديد من المواقف الشائكة والملفات الحرجة، فالدعاة والعلماء معتادون على الفروض النظرية والنقاشات العلمية المجردة من العوامل المتغيرة، وهم يقررون المسائل ذهنيا ويضعون لها الإجابات بناء على هذه التصورات العقلية، ومن ثم فإنهم يكونون عرضة للوقوع في الكثير من المزالق والمخالفات والقياسات الخاطئة عند دخول مجالات الحياة العملية ويمارسون السلطة ويعانون معايش الناس وحاجاتهم المتغيرة.

 

والسيرة النبوية تعتبر المحتوى الحركي لتطبيق هذا الدين، فهي المعين الذي لا ينضب لكل سائل وباحث عن الإجابات الصحيحة عن الأسئلة العديدة، معين للدعاة والعلماء والعبّاد والصالحين والساسة والقادة والمربين والمعلمين ولكل من له دور في بناء المجتمع، لذلك كان فقه السيرة النبوية من ركائز علوم السياسة الشرعية، ولا يتم لفقيه فقهه، ولا لمفسر تفسيره، ولا للأصولي تأسيسه، ولا لمحدّث سنده وحديثه إلا بالاطلاع الواسع على سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالسيرة هي حجر الأساس لكل طالب علم وباحث عن حق. وكلما ازداد الداعية والعالم والسياسي والمربي والمعلم من فهم السيرة والدراية بأحداثها ووقائعها، كلما كان أقرب للصواب والفهم والاهتداء إلى الحق المبين.

 

ومن أشهر النصوص النبوية التي تناولتها الأقلام والأفهام بصورة متغايرة بحيث صارت معقد صراع واختلاف كبير في الرؤى والتوجه ؛ صلح الحديبية الذي وقعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع مشركي قريش في ذي القعدة من العام السادس من الهجرة، والذي يعد من أهم وأكبر مواطن تطبيق السياسة الشرعية، فالبعض قد اعتبره وثيقة في فقه " الموازنات " والبعض اعتبره درسا راقيا في فن التفاوض، في حين رآه البعض أساسا في ما أطلقوا عليه اسم " فقه التنازلات " ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن كثيرا ممن تصدى للعمل السياسي قد أساءوا فهم نصوص الصلح وتوسعوا في تنازلاتهم حتى قبلوا بما لا يمكن قبوله بحال في الدولة الإسلامية، احتجاجا بنصوص صلح الحديبية، لذلك كان لابد من تحرير مواضع الخلاف بين الناس، وإظهار مواطن الشبه في فهم من أخطأ في فهم نصوص هذا الصلح الذي وصفه الله - عز وجل - في القرآن بأنه " الفتح المبين ".

 

عرض موجز لغزوة الحديبية:

 

في ذي القعدة سنة 6 هـ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه لأداء العمرة بعد رؤيا رآها أنه يأتي البيت ويطوف به ويعتمر، وساق معه الهدي، واستبشر هو وأصحابه بالرحلة لطول بعدهم عن مكة وشدة شوقهم للبيت والبلد الحرام، وقد خرج معهم في الرحلة أهل البوادي والأعراب، ولم يكن معهم سوى سلاح الراكب ـ السيوف في القرب ـ وكان ذلك إشارة منهم أنه لا يريدون الحرب، ولا يقصدون إلا الزيارة وتعظيم شعائر الله.

 

وصلت الأخبار لقريش فعقدت اجتماعا للتشاور مع حلفائها من قبائل بكر بن وائل والأحابيش من بطون كنانة وغيرهم وقد عقدوا العزم على صد الرسول ومن معه عن دخول مكة عليهم عنوة مهما كانت الظروف والضغوط، واعتبروها مسألة حياة أو موت، فوصلت أخبار هذا العزم للرسول - صلى الله عليه وسلم - فعمل بمشورة عمر بن الخطاب وأرسل على المدينة من يأتيه بالسلاح والعتاد القتالي تحسبا لغدر قريش واستعدادا لأي بادرة عدوان أو تربص بالمسلمين.  

 

وصل النبي ومن معه إلى عسفان على بعد عدة كيلومترات من مكة، أبلغته عيونه بأن قريش تستعد لمعركة مصير، فاستشار أصحابه في كيفية التصرف إزاء هذا الموقف العصيب، فأشار بعضهم بالميل على عيال وذراري الأحابيش حلفاء قريش، في حين أشار البعض الآخر بقصد البيت، فمن اعترضهم قاتلوه حتى يصلوا إلى مبتغاهم أو يهلكوا دونه، فاستراح الرسول للرأي الثاني واستعد له، وفي هذه الأثناء وصلت طلائع خيل المشركين إلى مقدمة معسكر المسلمين، فصلى الرسول بالصحابة صلاة الخوف.

 

بعد مستجدات الأمور قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيير طريقه تفاديا للصدام مع المشركين، فقد كان صلى الله عليه وسلم يؤثر العافية والسلامة، وقام رجل من قبيلة "أسلم " بإرشادهم إلى طريق وعرة بين الشعاب، حتى انتهى بهم إلى الحديبية وهي أقرب نقطة إلى مكة، دون أن يشعر المشركون بهم، فكانت صدمة ومفاجأة كبيرة للمشركين.

 

بدأت السفارات بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش لإفهام المشركين أنهم ما جاء إلا للاعتمار وتعظيم شعائر الله، فأرسل إليهم مع حليفه بديل بن ورقاء الخزاعي يطلب منهم هدنة للتفاوض وتبين صورة الأمر، وكان ذلك من البراعة السياسية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الوقت كان في صالحه، يكتسب به أنصارا لقضيته، ويرهق قريشا بإطالة أمد استنفارهم الحربي بما فيه من تبعات ونفقات زائدة، فأرسلت قريش له عدة سفراء من طرفها منهم عروة بن مسعود الثقفي وكان من دهاة العرب وحكمائهم حاول في سفارته بث روح الهزيمة النفسية بين المسلمين بالتهويل من استعدادات قريش وتصميمها، والتهوين من شأن المسلمين، فجاءت النتيجة بصورة عكسية، حيث رأي من تعظيم المسلمين للرسول وطاعتهم له وعزمهم الأكيد على مواصلة ما خرجوا من أجله، ما أوقع الهزيمة في قلبه وقلوب المشركين.

 

ثم كانت سفارة سيد الأحابيش " الحلس بن علقمة الكناني " وكان من قوم يتألهون ويعظمون شعائر الله، فلما قدم على معسكر المسلمين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال الهدي والقلائد في وجه، ورفع الأصوات بالتلبية والتكبير والتهليل، فلما رأى الحلس ذلك اهتز قلبه إعظاما من المشهد، فرجع ولم يتكلم مع النبي بكلمة واحدة، مستنكرا صدّ هؤلاء عن زيارة البيت وتعظيم الشعائر، وعاد مغضبا إلى مكة واشتبك لفظيا مع قادة قريش حتى وصل الأمر للتهديد المتبادل بين الطرفين، وانتسف الحلف بينهما، وكان ذلك عملا شديد الذكاء من النبي صلى الله عليه وسلم.

 

أرسلت قريش بعده مكرز بن حفص وكان رجلا غادرا لم يرجع بشيء، فأرسل النبي إليهم خراش بن أمية الخزاعي فهموا بقتله، فأرسل إليهم عثمان بن عفان وكان ذا مكانة وشرف بينهم، فسمعوا له وعرضوا عليه الطواف إن شاء، ولكنه مع شدة شوقه لذلك أبى دون النبي والمؤمنين، وفي هذه الأثناء حاولت كتيبة مكونة من ثمانين من فرسان المشركين الإغارة على معسكر المؤمنين من ناحية جبل التنعيم على حين غرة، ولكن الله - عز وجل - كشفهم وأخذهم المسلمون أسرى، فأطلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - سراحهم فاصطنع بذلك يدا عند قريش، فسرت الأخبار بعدها أن قريشا قد قتلت عثمان، فبايع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على قتال المشركين حتى النصر أو الموت، وعدم الفرار من القتال مهما كانت الظروف، فسميت هذه البيعة ببيعة الرضوان وأنزل الله - عز وجل - فيها قرآنا، وكانوا ألف وأربعمائة صحابيا إلا واحدا، وكان من فضلهم أن الله - عز وجل - قدّ حرّم عليهم النار.

 

لما وصلت أخبار هذه البيعة إلى مشركي قريش أيقنوا مغبة تهورهم وعاقبة عدوانهم، فأرسلوا سهيل بن عمرو أحد زعمائهم المعروفين بالحنكة السياسية والعقل الراجح، فلما رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل "، وبعد عودة عثمان - رضي الله عنه - بدأت المفاوضات بين الجانبين، وبعد أخذ ورد، واعتراض وإقرار، انتهت الوثيقة إلى عشرة بنود، منها ما كان موضع اتفاق، ومنها ما صار بعد ذلك سببا للجدال والخلاف وتقاطع الأنظار، وتضارب الأفهام، ومن أبرز النقاط التي سببت جدلا وخلافا ثلاث نقاط طلبتها قريش، وأجابهم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي:

 

1ـ ألا يُكتب في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم، مكتفين بكتابة باسمك اللهم.

2ـ ألا يكتب في كتاب الصلح محمد رسول الله، اكتفاء باسمه الشريف محمد بن عبد الله.

3ـ أن يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتاه من مسلمي مكة إلى كفار قريش، وألا يرد كفار مكة من أتاهم مرتدًا عن الإسلام.

 

ولا داعي للإطالة في بيان الأمر الأول والثاني؛ اكتفاء بقول النووي - رحمه الله -: " أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله: محمد بن عبد الله، هو أيضًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس في ترك وصف الله - سبحانه وتعالى - في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه أيضًا صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل؛ من تعظيم آلهتهم، ونحو ذلك "

 

أما النقطة الثالثة فهي التي كانت سببا لإثارة الخلاف والجدل، إذ عدّها كثير من الصحابة تنازلا غير مقبول، وإجحافا ما بعده إجحاف، خاصة وأن مرادهم الأساسي من الخروج وهو الاعتمار لم يتحقق، حتى أن عمر بن الخطاب لم يتمالك نفسه، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه يشتكي إليه من هذه النقطة، فردّه أبو بكر إلى مقام النبوة وذكره بواجب الإتباع، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معلنا اعتراضه على هذه النقطة قائلا له : " ألست برسول الله ؟ قال : " بلى " قال : " أو لسنا بالمسلمين ؟ " قال : " بلى " قال : أو ليسوا بالمشركين ؟ " قال : " بلى " قال : " فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ " قال : " إني عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني " .

 

ومما زاد من قسوة الأمر على الصحابة بحيث أن قبولهم لهذا الشرط كان أشبه بتجرع الصبر المّر، حادثة أبي جندل بن سهيل بن عمرو وكان من المؤمنين وقد منعه أبوه وأهله من الهجرة وقيدوه بالحديد وحبسوه، وقد استطاع في أثناء انشغال المشركين بأحداث الحديبية أن يفر من محبسه، وانطلق وهو يرسف في أغلاله حتى وصل إلى معسكر المسلمين وألقى بنفسه بين ظهورهم، وهنا أصر أبوه سهيل بن عمرو على أخذه عملا ببنود صلح الحديبية، وحاول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إقناع سهيل بالتنازل عن أبي جندل ولكنه أصر على أخذه وهدد بإلغاء الصلح كله، وهنا قرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - رده عملا بالاتفاق والتزاما بشرف الوعد والكلمة ووفاء بالعهد المكتوب، وأبو جندل يصرخ ويستغيث بالمسلمين وينادي : " يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟! وكان مشهدا قاسيا على نفوس المسلمين، حتى أن كثيرا منهم قد أخذ في البكاء مرارة مما يجري أمام أعينهم وهم لا يستطيعون فعل شيء له، فكان ذلك سببا في تأجيج مشاعر الرفض والاعتراض على هذا الصلح، حتى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد قام وعرض قوائم سيفه على أبي جندل حتى يخترطه من مغمد عمر ويضرب به أباه، ولكن الشفقة أخذته على  أبيه وضنّ به.

 

وللحديث بقية..

 

قراءة سياسية لنصوص صلح الحديبية (2-2)

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات