اقتباس
أجدد القول وأكرر الحديث أني لست في طور أسلمة هذا المبدأ، ولا في سياق تأصيل هذا المنهج، ولا في طريق تصحيحه وموافقة المضطرين للأخذ به، ومن ألزمني غير ذلك فلا يهمني ما دام أنهم ليسوا في محاكم الإله قضاة، ولا يوم الوقوف محققين، ولا في يوم الحساب زبانية ولا سجانين؛ لكني أتساءل وبقوة وأستفهم وبشدة مستغربًا من اندثار تلك القضايا السالفة الذكر في حواشي المذكرات، وتهميشها بين كثرة الردود والمقالات، واختفائها أمام أكوام الخطابات والتعليقات، وبين أعداد الخطب والمحاضرات والإصدارات والمؤلفات!!
لم يغب عن أنظارنا، ولم تنس ذواكرنا ما نطق به -صلى الله عليه وسلم- وتحدّث عنه، وهو مستقبل هذه الأمة، وما سيجري عليها بعد موته، وحتى عهودها الأخيرة من فتن متلاطمة، وما سيلمّ بها من أخطار محدقة، ويحيط بها من مؤامرات حاقدة على هويتها وعقيدتها وثوابتها ووحدتها؛ فقد جاء من حديث ثَوْبَانَ مَوْلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قُلْنَا: مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: "لا، أَنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهنَ"، قِيلَ: وَمَا الْوَهَنُ؟! قَالَ: "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ". الألباني تخريج مشكاة المصابيح (5298). صحيح.
وهذه -لعمر الله- طامة كبرى، إلا أن الأطم منها والأمرّ أن بعض الفتن أركانها منا، وربانها ورموزها نحن؛ نعم من أهل الحق أنفسهم، ولعمري إنها كما قال نبينا -عليه الصلاة والسلام- تجعل الحليم فيها حيرانًا، فقد ورد من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه سيأتي على الناس فتن باقرة تدع الحليم حيرانًا، القائم فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فقطِّعوا أوتاركم، وكسِّروا السيوف بالحجارة". الطبراني المعجم الأوسط (2/65).
ونحن إذ نتحدث عما قال عنه -عليه الصلاة والسلام- فإنا نخبر عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يقول شعرًا ولا ارتجالاً، وقد سمعنا وقرأنا عن تلك الفتن على مر العصور ومع مرور الأيام، نشاهد ونعايش كثيرًا منها، وما أصاب الأمة الإسلامية وأهل الحق على وجه الخصوص منها فازددنا فيه يقينًا وبه تصديقًا.
وإذا كانت مآلات تلك الفتن ونتائجها أن جعلت الحليم فيها حيرانًا؛ فقل لي بربك: كيف بالمتهورين الخائضين فيها والمندفعين المتهافتين عليها والمتلبسين بها؟! وإذا كان هذا حال العالم فكيف بحال الجاهل؟! أم كيف حال الأتباع والمتعلمين والمناصرين؟! بل قل لي بربك: كيف حال عامة الناس والمقلدة؟! وإذا كانت هذه حال الصالحين فكيف من هو دونهم؟! كل ذلك لتعرف الحال المزرية وتدرك الواقع المؤلم لحال الناس حال الفتن، والذي لا ينجو منها إلا من عصمه الله، وقليل ما هم!!
وهنا لا أعني في حديثي عموم الفتن وصنوفها؛ فتن الأموال والأولاد، ولا فتن الأمراض والأسقام، ولا فتن الأعداء والخصوم، ولا فتن شهوة الفروج والبطون، ولا الجاه والمناصب... إلخ؛ بل أقصد فتن الدين وأهله وحملته، حين يختلف أهله عليه ويتنابذ حملته فيه؛ فهذا يقول وذاك يرد، وهذا يتبنى وذاك يستنكر، وهذا يرغب وذاك يشجب، وهذا يفضل وذاك يحذر، وهذا يجتهد وذاك يتهجم ويقلل؛ وحينها يلتبس الحق باختلاف أهله، ويفتن الناس بسبب سلوك حملته، وهذه هي الطامة والرزية، فيصبح دعاة الحق والداعون له صادِّين عنه، ويصير حملته فتنة لأهله، وقد كان من دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) [الممتحنة: 5].
ويقودني الحديث هنا إلى شيء مهم أستشهد به، وهو أننا حين نقول للذين سلكوا مبدأ الديمقراطية تحت أي مبرر كان؛ أنهم قد وقعوا في فخوخ كثيرة، وتجاوزوا خطوطًا عريضة؛ فإن الذين رفضوا هذه الفكرة ابتداءً ثم انبروا للرد عليها مهاجمين الآخذين بها ضرورة، وتفرغوا لهم، متابعين ما قالوه وما كتبوه ولو كان الذي كتبوه في غير هذه المسألة، لا يقلون ربما خطأً عن غيرهم، وهذا أولاً.
ولست في سطوري هذه أعتب على هذا الصنف من دعاتنا لعدم أخذهم بهذا المبدأ الغربي الصنعة والكافر الفكرة والخبيث النشأة والعلماني الاستيراد والجلبة، أو عدم توافقهم معه، فإنهم قد أحسنوا والله صنعًا بسلامتهم منه وبقائهم على الأصل؛ ولكني أعتب عليهم يوم اقتصر جهدهم وانحصر بيانهم في الرد على هذه البلية المستوردة، ناسين أو متناسين ما يمر به البلد من أزمات فكرية خانقة، وحروب عقدية طاحنة، ولوثات أخلاقية طافحة، وما يعج فيه من مصائب كبرى، ويموج فيه من كوارث عظمى، فتن لا تبقي ولا تذر.
وما أسلفناه ذكرًا مشاهد وملموس، وليست دعاية نصرف بها وجوه البعض أو وصاية نعرقل بها جهود آخرين؛ بل ذلك حاضر وقائم، فالبلاد يلاحظ فيها مخالفات متنوعة عقدية ومنهجية وفكرية سلوكية وأخلاقية وأسرية واجتماعية وسياسية واقتصادية، ابتداءً من الكلام في ذاته المقدسة، ودعاء غيره سبحانه، والطواف على القبور، ومرورا بالتطاول على أحكام الشريعة، والتحاكم لغيره الله، سواء أكان إلى نظم مستوردة أم عادات وتقاليد محلية موروثة مؤصلة، وتعريجًا على متعاطي السحر والتنجيم، وكذا القتل والثارات والزنى واللواط والمخدرات والخمور والربا والرشوة والحرابة وأيضاً إلى الاختلاط والغناء والسفور... وغير ذلك كثير مما لا حصر له. وأما عن التفريط في الواجبات وتضييع المفروضات والتهاون بها فحدث ولا حرج.
وليس هذا مقتصرًا على بلد بعينه، بل كل البلاد العربية والإسلامية والأقليات المسلمة في البلاد الكافرة هنا وهناك تعيش فتنًا وبلايا، وتعاني ظلمًا وجورًا، وتشكو نزوحًا وتشريدًا، وتحكي آلامًا وتعذيبًا، وتلفظ آهات وزفرات، وتروي انتهاكًا واغتصابًا واعتقالاً، وتشاهد عليها وفيها قصورًا وتفريطًا وإعراضاً.
وكل هذه البلايا المنتشرة والأخطار المحدقة والفتن المحيطة ليست مبادئ في أوراق مبعثرة أو عبارات مسطرة، أو سياسة تدوَّن للتنفيذ وتعد للتطبيق؛ بل فكر يجتث كل القيم، ويمحو كل حسن، ويدعوا لكل رذيلة، إجرام يطبق على الأرض، وخطر يهدِّم المساجد، وعاصفة تداهم دور القرآن، وسرطان يفتك بالعقول والأفكار، وسيل جارف يقبل على البيوت والحقوق والممتلكات، وتجرُّؤ سافر يقدم على الأعراض والكرامات؛ سعي ومكر بالليل والنهار للوصول إلى زمام الأمور ليزول شيء هناك اسمه أهل السنة.
وأما ثانيًا: فالاقتصار على تأصيل هذه المشكلة والحديث عنها والردود عليها هو عرقلة لجهود أولئك الذين شاركوا فيها، ورأوا استغلالها وسيلةً -على حد قولهم الاجتهادي-، أو أنها ضرورة؛ بحيث لا يترك المجال للفاسدين علانية وأعداء الدين ومبغضيه جهارًا؛ فالحديث عنهم من قبل المنكرين وبهذه الصورة لا يزيد عن كونه خذلانًا لهم وبعثرة لجهودهم وإيقاع الشتيمة بهم وتسليط الأعداء عليهم وتشويه مكانتهم والحط من قدرهم بين الناس، وخصوصًا الخصوم، والذين لا يفرقون في نهاية المطاف بين من شارك وبين من انعزل، فالجميع في نظرهم مسلم محافظ وسني متبع، ونموذج مصر خير شاهد وأنصع مثال.
ولعلنا ندرك يقينًا من خلال استقرائنا الدقيق وقراءتنا المنصفة أن المصيبة في العالم الإسلامي ليست هي الديمقراطية فقط -وأنا هنا أقول فقط ليفهم المصنفون وأصحاب المذكرات والمتخصصون في الاقتباس أني من خلال هذه العبارة أقرُّ أن الديمقراطية بلية وشر-؛ لكني أقول: إنها ليست الشر كله؛ بل بعض من الشر الموجود، وسبب من الخلل الحاصل؛ لكن بعض دعاتنا نسوا أن هناك مصائب أخرى وكوارث عظمى ونوازل مفزعة كان الأجدر والمفترض بنا جميعًا أن نعطي كل شيء منها حقه من التوضيح، ونصيبه من البيان، انطلاقًا من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 208]، وقوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3]، حتى تسير عجلة الدعوة والتربية سليمة، وتمضي في طريقها متزنة، لا يوجد بها ميل ولا يلحظ عليها اعوجاج.
إذ لا ينبغي شرعًا ولا يصح عقلاً ولا يستقيم منطقًا أن نبقى محصورين في تأصيل مسألة معينة، أو مدققين في تشخيص بلية محددة، أو مركزين في علاج قضية بعينها؛ لأن ذلك -وبلا شك- سيقودنا إلى إهمال أمور طارئة، كما سيكون على حساب مسائل أخرى مهمة وفاعلة.
ولعلك تجد وتسمع أن الديمقراطية هي رأس كل بلية، وبذرة كل شر، لذا وجب بسط ذلك؛ وهذا صحيح لكن ليس على إطلاقه؛ لماذا؟! لأن القائل به سيؤدي به إلى إغفال أمور أخرى وتجاهل أسباب فاعلة؛ وبالتالي من كان هذا تصوره فسيكرّس جهوده ويستفرغ وقته ويبذل كل ما بوسعه في الحديث عنها، بل وسيخصص لها كل حديثه؛ مغيبًا أسبابًا أخرى، ومتجاهلاً دواعيَ ثانية؛ لا أقول ذلك تصحيحًا لها ولا ثناءً عليها؛ بل الواقع يثبت ذلك، فهناك دول أخرى تعيش مآسيَ عديدة، وويلات كبيرة، ونكبات فظيعة، وتعديًا سافرًا على حق الخالق وانتهاكات بليغة لحق المخلوق، رغم أن الديمقراطية لم تدخل تلك البلدان، ولا يؤمن أهلها بالتعددية فيها؛ فلا ندري إن كانت عدوى الديمقراطية وصلتهم إلى هناك أو هبت ريح سمومها، أم أننا مخطئون حتى نبرر لهذا الهجوم الشرس على المخالفين المشاركين!!
وحتى البلدان التي اعتنقت هذه الفكرة لسياسة بلدها نجد أن هناك من المشاكل والمصائب ما نجزم أن أساسها ليس هذا المبدأ الغربي المستورد المشؤوم، وإنما هو جزء من المشكلة، كما أن أمورًا أخرى هي بقية المشكلة.
أجدد القول وأكرر الحديث أني لست في طور أسلمة هذا المبدأ، ولا في سياق تأصيل هذا المنهج، ولا في طريق تصحيحه وموافقة المضطرين للأخذ به، ومن ألزمني غير ذلك فلا يهمني ما دام أنهم ليسوا في محاكم الإله قضاة، ولا يوم الوقوف محققين، ولا في يوم الحساب زبانية ولا سجانين؛ لكني أتساءل وبقوة وأستفهم وبشدة مستغربًا من اندثار تلك القضايا السالفة الذكر في حواشي المذكرات، وتهميشها بين كثرة الردود والمقالات، واختفائها أمام أكوام الخطابات والتعليقات، وبين أعداد الخطب والمحاضرات والإصدارات والمؤلفات!!
ولو أننا راجعنا سيرته -عليه الصلاة والسلام- متأنين، واستقرأنا دعوته متبصرين، لوجدنا أنه -عليه الصلاة والسلام- في الوقت الذي ركّز فيه على إقامة التوحيد ونبذ الشرك، وفي الوقت الذي نادى فيه الناسَ بوحدانية الله وصرف كل شيء له سبحانه من (الحكم والتشريع والخلق والتدبير)، في الوقت الذي نهى فيه عن كل ما كان يراه من المخالفات الشرعية التي كان حكمها قد نزل وبيانها قد ورد؛ فلم يكن -عليه الصلاة والسلام- ليترك منكرًا حاضرًا وجده أو يغض الطرف عن مخالفة شرعية وجدها أو نقل إليه خبرها دون أن ينكر ذلك، مبررًا صمته أن شيئًا أهم من ذلك وأجدر بالحديث عنه هو توحيد الله والنهي عن الشرك به.
ولا يمكن القول: إنه -عليه الصلاة والسلام- توقف عن الدعوة إلى أي معروف، وصمت عن النهي عن أي منكر حتى يوحِّد الناس ربهم ويتركوا الشرك بغيره؛ لكننا نقدر أن نقول: إنه -عليه الصلاة والسلام- في دعوته كانت هناك أولوية وتدرج؛ لكن ليس الانقطاع الكامل ولم يكن التوقف التام.
ومن هنا أسأل أين العالم الحالم؟! وأروني الداعية المشفق!! ودلوني على الفقيه الراشد والمربي الفطن!! وائتوني بالقاضي الصبور والحاكم العدل!! وهبوني المجاهد المتزن!! أين المحاور المحب للناس الرحيم بهم حتى يسلك بهم سبيل الرشاد!! مشفقًا عليهم، يحب لهم الخير، ويرجو لهم الهداية، لسان حاله ومقاله: يا قوم: إني أخاف عليكم يوم التناد.
وأخيرا أقول وبحياء أني لم أقصد بكلماتي هذه النشر والتشهير، ولا التأصيل والتنظير، إنما رغبت في الإيضاح والتذكير، ملتمسًا العذر لكل العاملين لهذا الدين، والذين لم يعرف عنهم إلا أنهم أصحاب عقيدة صافية ومنهج مستقيم واتباع للسنة وحب للخير، وعرفوا بحسن سيرتهم وجمال أخلاقهم وسلامة دعوتهم، هذا ما ظهر لنا، وما خفي فلا يدركه إلا علام الغيوب، وليس لنا أن نتألى على الله في خصوصياته.
اللهم احفظ علماءنا وفقهاءنا، واجعلهم صالحين مصلحين، واحفظ بهم دينك، ووحد بهم عبادك، واجمع لهم قلوب عبادك، وانصر بهم المظلومين من خلقك، اللهم اسلل سخائم قلوبهم، وطهر اللهم بواطنهم، واجعلهم رحمة لعبادك، شفقة لأوليائك، ولا تجعلهم فتنة لخلقك، إنك سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه والتابعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم