قضية التوحيد بين الثوابت والمتغيرات

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

والأصل في الولاء والبراء أنه جزء من أصل عمل القلب الذي لا يثبت عقد الإسلام إلا باستيفائه، ونقيض ذلك هو النفاق الأكبر. وهنا يجب التفرقة بين من يوالي ويعادي على أساس ديني، وبين يوالي ويعادي على أمر من أمور الدنيا، أو من يتعاطف أو يحب أحدا من الكافرين لقرابة أو مصلحة، فذلك مما ينقص به الإيمان، ولا ينقضه بالكلية كما هو الحال عند النفاق الأكبر، فمن والى..

 

 

 

 

لا خلاف بين كافة الدعاة والعاملين في خدمة دين الله - عز وجل - أن قضية التوحيد هي قضية الدعاة الأولى، وهي أول واجب على المتكلفين، وأول ما يقرع به الرسل آذان أقوامهم، والتوحيد هو الشرط الذي لا يصح أي عمل يقوم به المكلف إلا به، ولا تقبل أي طاعة إلا بعد تحقيقه واستيفائه، ومن مات غير محقق له مات خالدا في نار جهنم، لا يقبل الله - عز وجل - منه صرفا ولا عدلا، فالتوحيد أصل الدين، والدعوة الأولى لكافة المرسلين.

 

ولأن قضية التوحيد هي القضية الأولى لأي داعية كان لابد من الوقوف علي شروطها واستيفاء تفاصيلها، وتحرير موضع النزاع الواقع بين بعض فصائل التيار الإسلامي وأهل العلم في التفرقة بين ثوابت قضية التوحيد، وفروعها ومتغيراتها، سواء أكانت هذه النقاط موضع الخلاف بطبيعتها من الفروع وللاجتهاد فيها مساغ، أو لتحقيق مناطاتها بالنسبة لواقع معين.

 

ثوابت قضية التوحيد:

 

أولا: التوحيد دعوة الرسل أجمعين، وهو أول ما يخاطب به الناس من أمور الدين، وعصمة الدماء والأموال به، وهو معقد النجاة في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء 25]، وقوله ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل 36]، وقال ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا. .) [ آل عمران 64]، قوله صلى الله عليه وسلم: " الأنبياء إخوة لعلات ؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد " أخرجه البخاري.

 

 

فالدين واحد وهو التوحيد، والشرائع متفاوتة، لقوله تعالى: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) [المائدة 48]. وهو أول ما يخاطب به الناس من أمور الدين، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما أرسله إلى اليمن معلما وداعيا: " يا معاذ إنك تأتي قوما من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله - عز وجل -، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم. .. " وفي رواية أخرى " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أجابوك فأعلمهم أن قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة. .. ".

 

كما أنه معقد النجاة في الدنيا، فلأنه بالإقرار بالتوحيد والرسالة يثبت عقد الإسلام، وتعصم الدماء والأموال إلا بحقه. قال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله. فمن قال لا إله إلا الله. عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله ". أما كونه معقد النجاة في الآخرة، فلقوله صلى الله عليه وسلم: " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ". وقوله: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ". وقوله لمعاذ: " يا معاذ تدري ما حق الله على العباد ؟ وما حق العباد على الله ؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم. قال: " فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا ".

 

قال النووي - رحمه الله -: " إن مذهب أهل السنة بأجمعهم، من السلف الصالح وأهل الحديث والفقهاء، والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين، أن أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى، وأن كل من مات على الإيمان وتشهد مخلصا من قلبه بالشهادتين، فإنه يدخل الجنة، فإن كان تائبا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة الله، وحرم على النار بالجملة، وإن كان هذا من المخلطين، بتضييع ما أوجب الله تعالى عليه، أو بفعل ما حرم عليه، فهو في المشيئة، لا يقطع في أمره بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه الجنة لأول وهلة، بل يقطع بأنه لابد من دخول الجنة آخرا ".

 

ثانيا: التوحيد لا يتحقق بمجرد الإقرار بالربوبية، مثل تفرد الله - عز وجل - بصفات الخلق والرزق والتدبير الكوني، فقد أقر بأغلب هذه المعاني عامة المشركين، ولم تنفعهم في النجاة من الشرك، ولم يثبت لهم بإقرارهم بها عامة الإسلام. قال تعالى: ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت وممن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [ يونس 31]. قال ابن تيمية - رحمه الله -: " ودين الإسلام مبني على أصلين، وهما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشي الله، ومن يسوي بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك فقد عدل بالله، وهو من الذين بربهم يعدلون، وقد جعل مع الله إلها آخرا، وإن كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خلق السموات والأرض، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض، كما قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) وكانوا مع ذلك مشركين يجعلون مع الله آلهة أخرى ".

 

ثالثا: تحقيق العبودية هو الفيصل بين التوحيد والشرك، فعبادة الله وحده بحيث لا تصرف أي عبادة مستحقة لغيره سبحانه وتعالى، فلا يعبد معه أو دونه آلهة أخرى، ولا يتحاكم ابتداء في أي شأن من الشئون إلا إليه، وهذه هي دعوة الرسل جميعا، وموطن الخصومة بينهم وبين أعدائهم من المشركين على مدار التاريخ، والأدلة على ذلك كثيرة جدا ومستفيضة في الكتاب والسنة.

 

وهذه العبادة تشمل أعمال القلوب والجوارح، وتستوعب كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وكل موقف لله فيه أمر أو نهي فهو من الدين والإتيان به على وجهه عبادة، والتفريط في ذلك معصية. أما قصر العبادة على جانب الشعائر فهذا من عمل الفقهاء للتفريق بين ما كان عبادة محضة يتمحض الحق فيه لله - عز وجل -، وبين ما كان من جنس المعاملات التي تبدو حقوق العباد فيها أغلب، مع الالتزام بأمر الله في الجانبين. أما لو أريد إخراج جانب من جوانب الحياة من دائرة التكليف الشرعي والتقيد بالدين، فهذه هي العلمانية أو فصل الدين عن الدولة، فذلك ردة عن الإسلام بالإجماع، لأنه يفضي لأحد أمرين: أما التكذيب بالنصوص القطعية المحكمة الثابتة في ذلك، وأما الادعاء بعدم صلاحيتها في هذا الزمان لتحقيق حاجات العباد وفي ذلك طعن وسب لله - عز وجل -.

 

رابعا: إفراد الله - جل وعلا - بالأمر والتشريع من لوازم التوحيد، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره سبحانه فقد أشرك، فالأمر المطلق بشقيه الكوني والشرعي لله - عز وجل -، ومن نازعه في شيء منهما فقد أشرك، وهذا الأمر من أظهر خصائص الربوبية، ونطقت به الآيات الكريمات، قال تعالى: ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) [ الأعراف 54] وقال: ( إن الحكم إلا لله ) [ يوسف 40].

 

أما منازعة الله في شيء من ذلك، أو العدول عن شرعه فهو من الشرك الأكبر الذي تظاهرت على ثبوته الأدلة، منها قوله - عز وجل -: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم ) [ التوبة 31] وفي تفسير الآية ما أخرجه الترمذي وأحمد عن عدي بن حاتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ " قال: " بلى. قال: " فتلك عبادتهم " فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال لا أنهم صلوا لهم، أو صاموا لهم. وقال تعالى: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وأنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) [ الأنعام 121]. قال ابن كثير في تفسير قوله: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ): أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه، كان كافرا ومرتدا باتفاق العلماء، وفي مثل هذا نزل قول الله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ). أي المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ".

 

خامسا: أن من لوازم التوحيد، الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. والإيمان بأن القرآن كلام الله منزل من لدنه غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود. والإيمان برؤية المؤمنين لربهم جل وعلا يوم القيامة، وأن أحدا لن يراه بعينه في هذه الحياة الدنيا. وأن من أخص لوازم التوحيد، موالاة المؤمنين، والبراءة من الكافرين، فهي شرط في ثبوت عقد الإيمان. قال تعالى: ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) [ البقرة 256].

 

 والأصل في الولاء والبراء أنه جزء من أصل عمل القلب الذي لا يثبت عقد الإسلام إلا باستيفائه، ونقيض ذلك هو النفاق الأكبر. وهنا يجب التفرقة بين من يوالي ويعادي على أساس ديني، وبين يوالي ويعادي على أمر من أمور الدنيا، أو من يتعاطف أو يحب أحدا من الكافرين لقرابة أو مصلحة، فذلك مما ينقص به الإيمان، ولا ينقضه بالكلية كما هو الحال عند النفاق الأكبر، فمن والى كافرا لكفره أو عادى مسلما لإسلامه، فذاك هو النفاق الأكبر المخرج من الملة. قال ابن تيمية: " وقد تحصل للرجل مودة أو حاجة، فتكون ذنبا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرا، كما حصل مع حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب مشركي مكة بخبر الغزو، وكما حدث مع سعد بن عبادة لما نافح عن عبد الله بن أبي في قصة الأفك ".

 

 

سادسا: الإيمان بالقدر، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. فالقدر هو نظام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فمن وحد الله، وكذّب بالقدر، فقد نقض بتكذيبه توحيده. قال تعالى ( وكان أمر الله قدرا مقدروا ) [ الأحزاب 38] وقال ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [ القمر 46] وقوله صلى الله عليه وسلم :" ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة " وقوله: " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس " كلاهما قد أخرجه الإمام مسلم.

 

متغيرات قضية التوحيد:

 

أولا: التقسيم المعروف، إلى توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فهذا التقسيم ليس منصوصا عليه حتى نلزم به جميع المكلفين، بل هو تقسيم اصطلاحي يهدف إلى تقريب المسألة في الأذهان وتنظيم دراستها، وهذا الاستعمال شائع عند أهل العلم، حيث وضعوا أسماء اصطلاحية لعلوم وفنون ومعارف، لم ينص عليها، مثل علم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث، كما اصطلحوا داخل العلم الواحد على تقسيمات ومسميات اصطلاحية، ففي علم أصول الفقه هناك المصالح المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، وسد الذرائع، واصطلاحات الدلالات. وعلى هذا فلا مشاحة في الاصطلاح، وليست هناك حدود فاصلة بين ما يدخل في توحيد الربوبية، وبين ما يدخل في توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا التقسيم وإن لم يرد به آية محكمة ولا سنة متبعة، إلا إن العبرة بالمقاصد والمعاني، وليس بالألفاظ والمباني.

 

ثانيا: إلحاق قضية التشريع بالربوبية أو بالألوهية، فظاهر قوله تعالى: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) [ يوسف 40 ] يرجح إلحاقها بالألوهية، باعتبار أن الحكم عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله. كما أن ظاهر قوله تعالى: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) [ التوبة 31] يرجح إلحاقها بالربوبية، كما أنها قد تدخل في توحيد ألسماء والصفات، باعتبار أن من أسماء الله تعالى الحكم، وأن من صفاته الخلق والأمر.

 

ثالثا: اعتبار الولاء والبراء من معاني التوحيد أو من لوازمه، ونقض الإيمان ببعض شعب الموالاة لأعداء الدين والتي لا تكون على أساس الدين كما تقدم في أمثلة حاطب بن أبي بلتعة، وسعد بن عبادة، والموالاة التي تقع بسبب الزعامات والأهواء والمصالح، فقد اختلف أهل العلم في نقض الإيمان بهذا النوع من الولاء والبراء، وذهب جمهورهم لعدم نقض الإيمان بهذه الفعلة، وذلك بعد أن أجمعوا على شناعتها، وأن قد تقود العبد بعد ذلك للوقوع في النفاق الأكبر. وأيضا اختلفوا في حكم التحالف مع غير المسلمين لمصلحة المسلمين بين مانع للحلف استصحابا للأصل، ومنهم من أجازه بالنظر لأن أصل المنع بسبب ضرره على المسلمين، ومن ثم لو كان الحلف لصالح المسلم فلا بأس به وهذا هو الراجح إن شاء الله.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات