المخالفات في الرد على المخالف

عبد الواحد بن حمد المزروع

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

والقائمون للرد على المخالف هم من يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، لكن هذا الواجب كغيره من الواجبات الشرعية جنح به الناس إما إلى جانب الغلو أو إلى جانب الجفاء، وقليل ممن رحم الله هم المتمسكون بالوسط والاعتدال في هذا الواجب وفي غيره.

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة المستمعون، أيتها الأخوات المستمعات: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

 

وبعد:

 

يقول ربنا -جل وعلا-: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8].

 

أحبتي وأخواتي: الرد على المخالف من الأمور التي شرعها الله وأمر بها سبحانه، بل وردت تطبيقًا عمليًّا في الكتاب والسنة؛ يقول الله تعالى: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة:111]، وقال سبحانه: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ) [الأنبياء: 24]، ويقول -جل وعلا-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة:18]، وقال -عز من قائل-: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [آل عمران:59].

 

وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". وإسناده صحيح، أخرجه أبو داود في سننه.

 

وفي يوم حنين رد النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك الرجل الذي قال له: "والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله"، فقال له -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود.

 

ورد النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- على الثلاثة الرهط الذي جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال لهم -عليه الصلاة والسلام-: "والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أنس -رضي الله عنه-. هذا تطبيق عملي.

 

والرد على المخالف في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لا ينسخ أبدًا ولكن يكون فيه ما يدخل من التحريف والتبديل والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولابد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون، فالكتب المنزلة من السماء، والأثارة من العلم المأثورة عن خاتم الأنبياء يميز الله بها الحق من الباطل، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه".

 

ويقول -رحمه الله- أيضًا: "وإذا كان النصح واجبًا في المصالح الدينية الخاصة والعامة؛ مثل نَقَلَةِ الحديث الذين يغلطون أو يكذبون، كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكًا والثوري والليث بن سعد –أظنه- والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ فقالوا: "بيِّن أمرَه". وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: "إنه يثقل عليّ أن أقول: فلان كذا وفلان كذا"، فقال: "إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهلُ الصحيحَ من السقيمِ، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً". انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

يقول الحافظ الذهبي -رحمه الله-: "الصدع بالحق عظيم يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملاً فهو صديق". والكلام منقول في سير أعلام النبلاء.

 

قال بعض السلف: "ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا تبالي بأيهما ظفر: غلو أو تقصير، وفاعل مأمور به وزيادة منهي عنها بإزائه تارك المنهي عنه وبعض المأمور به، والله يهدينا الصراط المستقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

 

والقائمون للرد على المخالف هم من يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، لكن هذا الواجب كغيره من الواجبات الشرعية جنح به الناس إما إلى جانب الغلو أو إلى جانب الجفاء، وقليل ممن رحم الله هم المتمسكون بالوسط والاعتدال في هذا الواجب وفي غيره.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيان ذلك: "قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به، وهو الإسراف المذكور في قولهم: (رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)".

 

وقال أيضًا: "إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقاً لا يباح بحال، حتى إن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8]".

 

والمؤمنون كانوا يعادون الكفار بأمر الله؛ قال تعالى مبينًا: لا يحملكم بغضكم للكفار على ألا تعدلوا عليهم، بل اعدلوا عليهم فإنه أقرب للتقوى.

 

والتجاوز -أيها الإخوة والأخوات- في الرد على المخالف يحصل في مظاهر سلوكية وممارسات عملية، ولعلنا نسأل أنفسنا: هل وقعنا في شيء من ذلك؟! سأسرد بعض هذه المظاهر وهذه الممارسات.

 

من ذلك: التسرع في الرد على المخالف دون مراعاة للضوابط العلمية والشروط الشرعية، ومنها أن يقول: الرد بالجرح والتعديل دون آلية ودون مسوغ شرعي، وكأن أحدهم يحسب نفسه إمامًا في الجرح والتعديل كأحمد بن حنبل أو يحيى بن معين -رحمهما الله-.

 

ومنها: أن يكون الباعث على الرد هو التشفي، وما أكثر ذلك!! أو يكون الباعث حب الشهرة والرياء، وليس فيه من الإخلاص شيء وليس فيه إرادة أن تكون كلمة الله هي العليا.

 

يقول الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله في كتاب التوحيد عند قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108]، قال -رحمه الله-: "التنبيه على الإخلاص: لأن كثيراً لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه".

 

ومن المخالفات أيضًا: البعد التام عن الحكمة وأسسها، والتجافي عن النظر في قضية المصالح والمفاسد.

 

ومن المخالفات: الظلم والبغي والعدوان، وذلك بمجاوزة الحد الشرعي في الرد على المخالف، وهذا يحصل في عدد من الصور والأحوال؛ منها: الرد دون تثبت ودون تحقق، أو التقول على المخالف بكلام لم يقله أصلاً، وإسقاط المخالف وتجريحه في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف والتي ينبغي أن يعذر المرء فيها أخاه، وهذا كثيرًا ما يحصل بين المتناقشين أو من يختلفون حتى في مسائل يسيرة وأمور عابرة، وما أكثر ذلك والله المستعان!!

 

وقد ثبت عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: "إخراج الناس من السنة شديد"، وهذا فيه توجيه إلى أن الإنسان يحذر من أن يقول: إن هذا مبتدع، أو إن هذا مخالف للسنة، أو إلى غير ذلك من العبارات التي يستعملها بعض الناس في حواراتهم ومناقشاتهم.

 

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في شأن أهل التوحيد: "وإنْ حَصلَ بينهم تنازعٌ في شيءٍ مِمّا يَسوغُ فيه الاجتهادُ، لَم يُوجِبْ ذَلكَ تَفَرُّقًا ولا اختلافًا، بلْ هم يَعلمونَ أن المصيبَ منهم له أجرانِ، وأن المُجتهدَ المخطئَ له أجرٌ على اجتهادهِ، وخطَؤُه مغفورٌ له".

 

يقول الذهبي -رحمه الله-: "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قُمنا عليه، وبَدَّعناه، وهجَرْناه، لَمَا سَلِم معنا لا ابنُ نصرٍ، ولا ابن مَنْده، ولا مَن هو أكبر منهما، والله -جل وعلا- هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الرَّاحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة".

 

ومن المخالفات في الرد على المخالف: عقد الولاء والبراء في مجال الرد على المخالف على قول واحد من أهل العلم، أو على قول أحد طلابه، فإذا خالف هذا القول أحد من الناس ضلله أولئك الغلاة أو بدّعوه وشهروا به في الآفاق، واستباحوا عرضه بأسوأ العبارات وأقذع الكلمات، ولو كانت مخالفته هذه مستندة على قول آخر لبعض أهل العلم الثقات.

 

ألا فليتق الله من يرمي مثل هذه العبارات جزافًا.

 

من المخالفات: التنقيب عن الأخطاء، والتصيد للهفوات، والفرح بالزلات، والدخول في المقاصد والنيات، وتحميل الكلام أسوأ الاحتمالات.

 

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومِنَ النّاسِ مَنْ طَبْعهُ طبعُ خِنزيرٍ، يَمُرُّ بالطيباتِ فلا يَلْوي عليها، فَإِذا قامَ الإنسان عنْ رَجيعهِ قَمَّهُ، وهَكَذا كثيرٌ منَ النَّاسِ؛ يَسمعُ مِنكَ، ويَرى منَ المحاسنِ أضعافَ أضعافِ المساوئ؛ فَلا يحفظُها، وَلا يَنْقُلُها، ولا تُناسِبُه ؛ فَإذا رَأى سَقطةً، أَوْ كَلمةً عوراءَ: وَجَدَ بُغيتَهُ وما يُناسِبُها، فَجَعلها فَاكهتَهُ ونُقْلَهُ". مدارج السالكين.

 

اللهم يا حي يا قيوم: وفقنا للعدل وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وأصلح ذات بيننا، وجنبنا مسالك الشيطان؛ إنك على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات