قضايا دعوية معاصرة (5) الجهاد شروطه وثوابته وضوابطه

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ثانيا: استيفاء الشرعية، فالجهاد يصاحبه إراقة دماء واستحلال حرمات، وهو أمر عظيم في غاية الخطورة، ومن ثم كان لابد من التأكد بأن الخصم قد أتى بما يهدر دمه، وذلك بوضوح وجلاء وبعد إقامة الحجج الرسالية، حتى لا تبقى عنده شبهة يتعلق بها، ولم يبق له عارض من جهل أو تأويل أو إكراه معتبر، كما بين ذلك أهل العلم المعتبرون.

 

 

 

 

الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام، وأعظم شعائره، وهو التجارة الرائجة، والدرجة الفائقة، رتب الله عز وجل للقائمين به من الثواب والثناء في الدنيا والآخرة، ما لا يساويه أو يدانيه عمل مثله، ودرجة المجاهد في سبيل الله كدرجة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، وهي درجة غير متصورة، لاستحالة بقاء الإنسان عمره كله صائما قائما، وذلك من عظم المثوبة.  قال تعالى: (لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [سورة النساء: الآية 95-96 ]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ".  إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على الأمر بالجهاد وبيان فضله من الكتاب والسنة.  

 

والجهاد شريعة قديمة جاءت به الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا كليم الله ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام خرج ببني إسرائيل بعدما نجاهم الله من فرعون وجنوده، خرج بهم إلى بيت المقدس ليخلصهم من أيدي الجبابرة الكفار، قال تعالى حكاية على لسان موسى عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ العَالَمِينَ يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)  [سورة المائدة: الآية 20-21].

 

وكذلك سليمان عليه السلام لَمَّا بلغه أن بلقيس تملك قومها، وأنهم يسجدون للشمس من دون الله ويشركون بالله، راسلهم، فأهدوا إليه هدية ليستكشفوا شأنه، هل هو يريد طمعا دنيويا أو هو جادٌّ في القتال، أرسلوا إليه بهدية، فعند ذلك أظهر سليمان عليه السلام القوة والشجاعة (قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [سورة النمل: الآية 36- 37].

 

ومفهوم الجهاد الشرعي مفهوما واسعا يشمل كل نصرة لدين الإسلام، سواء أكان نصرة لدين الإسلام باليد، والسِّنَان، والقوة، ومقاتلة الأعداء الذين يعتدون على المسلمين، ولا يمكنونهم من اعتناق دينهم، والسير على تعاليم دين الإسلام، ويشمل ذلك أيضا الدعوة لدين الله، والذب عن محارم الله باللسان، كما ورد في المسند وسنن النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ "، فدل ذلك على مشروعية الجهاد باللسان، ولا يكون ذلك إلا بالدعوة لدين الله، وببيان محاسن هذا الدين، وعظم الفوائد التي يحصل عليها العباد في آخرتهم من اعتناقهم لدين الإسلام.وهناك مجاهدة المنافقين كما قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ )  [سورة التوبة: الآية 73]، ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان معه في المدينة عدد من المنافقين، وقد أخبره الوحي بأن هؤلاء من المنافقين، فماذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم حتى نعرف مدلول هذه الكلمة؟ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُهَادِنُهُم، ويُجَادلهم، وكان يدعوهم، وكان صلى الله عليه وسلم يبين لهم أحكام الشرع، ويجادلهم بالتي هي أحسن، ويدرأ أفعالهم السيئة ما استطاع، وهذا هو مفهوم جهاد المنافقين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.  

 

فالجهاد ليس منحصرًا في القتال، فهو يشمل مجاهدة النفس على الإقدام على أنواع الطاعات، والبعد عن المعاصي، ويشمل مجاهدة الشيطان في وساوسه التي يقذفها في قلوب العبد، ويشمل جهاد المنافقين فيما يفعلونه بأهل الإسلام، من رغبة في تفريقهم وإبعادهم عن دينهم، ودلالتهم على الخير، وتحذير الناس من سوء ما يفعلونه، وباطن ما يضمرونه لأهل الإسلام، ويشمل أيضا جهاد الكفار المحاربين الذين يحاربون المسلمين، ويصدون عن دين الله، فهذا كله يدخل في أنواع الجهاد في دين الإسلام. ولكننا سوف نقتصر في هذا المقام عن جهاد خصوم الأمة وأعدائها. فالعمل الجهادي هو نهاية المطاف لكل العاملين لدين الله، فدولة الإسلام التي أقامها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تأت بالمفاوضات والاتفاقيات والمعاهدات، إنما قامت وتأسست بدماء وعرق الفئة المؤمنة التي جاهدت أعداء الدين الذين لم ولن يتخلوا أبدا عن عداوتهم للدين وأهله.  

 

ونظرا لأن العمل الجهادي كان وما زال أحد أهم وسائل التغيير المطروحة على صعيد العمل الإسلامي، فإن ترشيد هذا العمل ووضع أصوله وضوابطه، ومعرفة ثوابته التي لا يجوز التنازل عنها أو الترخص فيها، مهما كانت قسوة الضغوط والتحديات، وبين المتغيرات وموارد الاجتهاد التي تترك لاجتهاد كل فريق ـ يصبح أمرا في غاية الأهمية والضرورة، حتى لا تذهب الجهود الغالية سدى، أو تتحول الأعمال العظيمة إلى هبات وهوجات غاضبة، أو ردود أفعال عفوية، لا تقتل صيدا، ولا تنكأ جرحا، ولا تزيدهم إلا بعدا عن هدفهم السامي، وخصما من رصيدهم عند عموم الأمة.  

 

ومن أهم الثوابت في العمل الجهادي:

 

أولا: مشروعية قتال الممتنع عن الالتزام بشعائر الله، فقد اتفقت كلمة السلف والأئمة الأعلام على مشروعية قتال من امتنع عن الالتزام بشعائر الإسلام، حتى يفيء إلى الحق ويرجع لأمر الله، وقد انعقد إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وقد بوب البخاري في كتابه الصحيح بابا بعنوان: " قتال من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة ".  وقال الإمام مالك في موطئه: " الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى، فلم يستطع المسلمون أخذها منه، كان حقا عليهم جهاده ".  قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين.  

 

فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام رمضان أو حج البيت العتيق.  وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع، بحكم الكتاب والسنة، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.  

 

وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة، مثل أن يلحدوا في أسماء الله وآياته،. ....، وأمثال هذه الأمور.قال تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [ الأنفال 39 ]، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله  ".

 

فالغرض الرئيس من الجهاد في سبيل الله هو إعلاء كلمة الله، قال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "، والله - جل وعلا - قال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [سورة البقرة: الآية 190] أي: في طاعته ونشر دينه وإعلاء كلمته، فليس الغرض إذا هو التسلط على الناس، أو أخذ أموالهم أو سفك دمائهم، إنما الغرض هو إعلاء كلمة الله - سبحانه وتعالى - ونشر هذا الدين؛ لأنه دين البشرية الذي ارتضاه الله لخلقه، فجهاد الكفار من صالحهم؛ لأنهم ينقادون لدين الله وبذلك يحقنون دماءهم ويخرجون من الكفر إلى الإيمان، ومن الظلمة إلى النور، ومن الضلالة إلى الهداية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلاَسِلِ "، وقوله: يدخلون الجنة في السلاسل. بمعنى أنهم كانوا يقاتلون ثم يؤسرون، ثم يمن الله عليهم بالإسلام فيُسْلِمون فيدخلون الجنة، ولو تركوا على كفرهم لدخلوا النار. فالجهاد فيه مصلحة للكفار؛ لأنه قد يكون سببًا لإسلامهم ودخولهم الجنة، وفيه أيضًا مصلحة للمسلمين وذلك بنشرهم دينَ الله من خلاله، مما يكون سببًا لحصول الأجر والثواب بما ينالونه من التعب والعنت وفي قوله تعالى دلالة على ذلك حيث قال: (وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) [سورة النساء: الآية 104].

 

فالمسلمون يتحملون في الجهاد المتاعب والأخطار لإعلاء كلمة الله وإنقاذ البشرية من الضلال، فليس الغرض من الجهاد سفك الدماء كما يقول أعداء الدين المنفرون منه، وإنما المقصود منه هو مصلحة البشرية لتدخل في دين الله الذي به تسعد في الدنيا والآخرة، هذا هو الجهاد في سبيل الله - عز وجل -، وهذه بعض أحكامه وضوابطه، وهو من أعظم أصول الإسلام والعقيدة، فيجب أن يُفْهم هذا، لا أن يقال: لا جهاد في الإسلام، فالإسلام دين رحمة ودين تسامح مع الآخرين. نافين بذلك ما أمر الله به من تبليغ الدين من خلاله.

 

ثانيا: استيفاء الشرعية، فالجهاد يصاحبه إراقة دماء واستحلال حرمات، وهو أمر عظيم في غاية الخطورة، ومن ثم كان لابد من التأكد بأن الخصم قد أتى بما يهدر دمه، وذلك بوضوح وجلاء وبعد إقامة الحجج الرسالية، حتى لا تبقى عنده شبهة يتعلق بها، ولم يبق له عارض من جهل أو تأويل أو إكراه معتبر، كما بين ذلك أهل العلم المعتبرون.  

 

فالشرعية المقصودة في العمل الجهادي هي موافقته للشرع، وأيضا من الشرعية القبول العام من الأمة لهذه الأعمال الجهادية، بمعنى عدم الإضرار العام بالأمة، وهذا يقتضي تحديد دائرة الأعداء، وحصار المواجهة ضدهم في هذه الدائرة، حتى لا تتسع دائرة المواجهة ويدخل فيها من لم يستعد لتبعات أمثال هذه الأعمال الكبيرة، فلا يجب أن تفضي الأعمال الجهادية إلى المساس بالمصالح العامة للأمة من المساس بأقوات الناس وأرزاقهم ومرافقهم الحيوية، لأنها في هذه الحالة تتحول إلى أعمال تخريب وعدوان على المال العام، وهو أكثر أموال المسلمين حرمة وعصمة.  

 

وأيضا من الأمور التي يجب توافرها لاستيفاء الشرعية؛ مراعاة العهود والمواثيق التي يعقدها أهل الإسلام، فإذا كان هناك عهد وميثاق، فإنه لا يجوز نقضه باسم الجهاد، وإذا خِيفَ من العدو أن يقاتل المسلمين في وقت العهد والميثاق فإنه حينئذ يُبَلَّغُونَ بانتهاء العهد والميثاق، كما قال سبحانه (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) [سورة الأنفال: الآية 58] يعني: حتى تكونوا جميعا على حال متساوية من العلم بإمكان غزو الآخرين لكم.

 

فالشريعة قد نصت على وجوب التزام العهود والمواثيق في كثير من النصوص الشرعية، منها: قول الله - عز وجل-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [سورة المائدة: الآية 1]، وقوله (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [سورة الإسراء: الآية 34 ]. وجاءت الشريعة بالتحذير من الخيانة والترهيب منها، وبيان سوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ "، وجاء في الحديث الصحيح أن من خصال المنافق أنه: " إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ".

 

ومما يتعلق بمراعاة العهود والمواثيق: أن الإمام الأعظم إذا عاهد قومًا، أو أَمَّنَهُم لزم من تحت يده أن يلتزموا بما صدر من الإمام من عهد وميثاق، ويحرم عليهم أن ينقضوا ذلك العهد. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله-: " وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ "  ويدل على هذا المعنى ما وقع في صلح الحديبية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صالح قريشًا على ترك القتال مدة، وكان فيه بعض البنود التي لم يرضها بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستجز أحد من المسلمين أن يقول: إن ذلك الصلح إنما عقده الإمام فلا يلزمني، لأنني لم أعقده.

 

 

ثالثا: سلامة الراية، فلا يجوز للمسلم أن يقاتل تحت راية غير إسلامية، مهما كانت المبررات، فلا يقاتل تحت راية تدعو إلى عصبية أو قومية، فمن فعل ذلك فمات، فميتته جاهلية، والمسلم مطالب باعتزال كل هذه الرايات الجاهلية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل تحت راية عَمِّيًّة، ينصر العصبية، ويغضب للعصبية، فقتلته جاهلية " صححه الألباني في الجامع الصغير ( 6442).  

 

ولو أكره المسلم على الاشتراك في مثل هذا النوع من القتال، فلو كان القتال ضد فريق من المسلمين، فلا يمكن بحال أن يشترك في قتال المسلمين، ولو كان في ذلك الرفض إزهاق نفسه، فالإكراه على القتل مرفوض إجماعا بين أهل العلم، إذ ليست نفسه أولى بالعصمة والصيانة من نفس أخيه المسلم الذي سيقتله.  أما لو كان القتال ضد فريق من الكافرين يريدون استباحة ديار الإسلام، فعندها يسعه تجديد النية، وتخليصها لله عز وجل، باستحضار نية الجهاد الخالص لإعلاء كلمة الله عز وجل، ونصرة لدينه وأمته وعباده الموحدين، ولو قتل بعث على نيته الصالحة.  

 

رابعا: غلبة المصلحة، فالجهاد ليس عملا دمويا يستهدف سفك أكبر قدر من الدماء كما يحاول المستشرقون وخصوم الأمة تصويره في عقول أبنائه، إنما هو عمل يرتبط بالمصالح والمفاسد المتحصلة من ورائه، والمصلحة العليا المستهدفة من شعيرة الجهاد؛ إظهار الدين، وكف بأس الكافرين، والدفع عن المستضعفين من المسلمين، قال تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [ الأنفال 39]، وقال تعالى: ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف باس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) [النساء 84].  وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله ".  

 

وعناصر تحقق المصلحة كثيرة منها: توقع الظفر.  ومنها تأمين الذراري والضعفاء حتى لا يبطش بهم العدو نكاية في المجاهدين.  ومنها القبول العام من الأمة لهذا العمل، حتى لا يستغله الخصوم في تشويه صورة الإسلام والمسلمين.  ومنها سلامة التوقيت من حيث الزمان والمكان لتقليل حجم الخسائر قدر المستطاع.  ومنها القدرة على توظيف العمل في خدمة الدعوة الإسلامية، والتعريف بقضاياها، واكتساب أنصار جدد.  ويجب أن يتم ذلك كله وفق حسابات دقيقة، يعدها فريق من المتخصصين والخبراء في كل المجالات بداية من الفقه وأصوله انتهاء بالجغرافيا والمناخ، شريطة أن يكونوا ممن عركتهم التجارب، وخبرتهم الخطوب، ممن تجاوز مرحلة الاندفاع والحماسة الزائدة، حتى يكون العمل مميزا سالما قدر المستطاع من العيوب والآفات.  

 

ومسألة تحقيق المناط في قضية غلبة المصلحة من موارد الاجتهاد الكبرى في العمل الجهادي، بين معظم لشأن الجهاد غير مبال بالعواقب والمخاطر والمفاسد مهما عظمت وعمت، وبين حذر وجل متردد في موارد الوضوح والإقدام.  وجماع القول بين هذا الإفراط، وذاك التفريط، أن العمل الإسلامي عندما يكون في مقام اتخاذ الأسباب وحساب النتائج المتوقعة، يجب أن يكون في أدائه لهذا العمل واقعيا يزن الأمور بموازين البشر، ويتعامل في حدود السنة المعهودة في حياة البشر، فلا يقدم على عمل مليء بالعيوب والخروق، انتظارا لمعجزة من السماء تسد هذا الخلل، فهو يتعامل مع السنن والأسباب، في ضوء أوامر الشرع الآمرة باتخاذ هذه الأسباب، وفي نفس الوقت متوكلا على رب الأسباب وحده في تحقيق الظفر.  

 

خامسا: الولاية، وذلك في مجال المواجهة العامة، ذلك أن الأصل في الجهاد أنه من الأعمال الكبرى في الأمة، والتي تناط في الأصل ينظر الإمام لتعلقه بالمصالح العامة للأمة.  قال ابن قدامة رحمه الله: " وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك ".  فإن عدم الإمام وشغر الزمان عن سلطان شرعي، فالأمور عندها توكل إلى أهل الحل والعقد الذين يمثلون إرادة الأمة، ويعبر رضاهم واختيارهم عن رضا الأمة واختيارها، وهم في هذه الحالة جماعة المسلمين، ويعتبر لزومهم لزوما للجماعة، وإلى هؤلاء ترجع مهمات الإمام عند غيابه أو فقده.  

 

سادسا: الكفاية، فإعداد العدة من المقدمات الحتمية في فقه الجهاد، وقد اتفق على أصل اعتباره عامة المسلمين.  قال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) [ الأنفال 60 ]. ولكن المنازعة تقع في مدى تحقق العدة الكافية التي تؤهل للقيام بهذا العمل بعينه، فلذلك الذي تتفاوت فيه التقديرات، وتتباين فيه الاجتهادات لتعلقه باستقراء الواقع، والوقوف على القوة التي تتوقع أن يقذف بها الخصوم في هذه المواجهة، والقوة اللازمة لدفعها وتحقيق الغلبة عليها، وكل ذلك من مجاري الاجتهاد، ومسائل الخبرة الفنية التي يجب أن يرجع فيها إلى أهل الاختصاص في إطار من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة.  

 

وهنا ينبغي الكلام عن أحد القواعد الهامة في فقه الجهاد ؛ وهي " مراعاة حال القوة وحال الضعف ".  فليس بخافٍ أن حال الأمة الإسلامية يختلف ما بين ضعف وقوة، فقد كان حال الأمة عند بعثة النبي صلى الله عليه و سلم كانت ضعيفة، وكان لهذا الضعف الأحكام الشرعية الخاصة به، كعدم الجهر في الدعوة، وكالأمر بكف اليد وعدم القتال، وتأخر نزول كثير من الأحكام الفقهية.

 

 أما في العهد المدني، وبعد أن صار للمسلمين دولة وشوكة ومنعة، نزل الأمر بالقتال ومجاهدة المشركين المعتدين، ونزلت الأحكام الشرعية التفصيلية، وما ذاك إلا لأن الحال حال قوة ومنعة.  ولذا ذهب أهل التحقيق كشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم إلى أن الفقه يتنزل بتنزل الأحوال ويختلف باختلاف الأحوال، وقد أشار ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه إعلام الموقعين إلى إن الفتوى تتغير بتغير الأحوال بتغير المكان والزمان والعوائد والأحوال.

 فالواجب هو التفريق بين فقه القوة وفقه الضعف، وإن كان هناك من أهل العلم من يقول إن الأحكام هذه نسختها آية السيف، لكن المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره لا يرون النسخ في ذلك بل يربطون هذا بحال المسلمين، فإذا كان في ضعف نُزلت عليهم أحكام الضعف، إذا كانوا في غربة من السنة نزّلت عليهم أحكام غربة السنة، إذا كان في قوة تنزّل عليهم أحكام القوة، مستدلين بقول النبي صلى الله عليه و سلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ". وبقوله صلى الله عليه و سلم :" إن الله يبتعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها". رواه أبو داوود.  

 

قال ابن تيمية رحمه الله في الصارم المسلول فيمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بأية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الذين أتوا الكتاب والمشركين. وقال الشيخ العثيمين - رحمه الله - عن شرط القوة في الجهاد: وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال, فان لم يكن لديهم قدرة فإن إقحام أنفسهم في القتال هو إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة, ولهذا لم يوجب الله - سبحانه وتعالى - على المسلمين القتال وهم في مكة , لأنهم عاجزون ضعفاء, فلما هاجروا إلى المدينة وكونوا الدولة الإسلامية, وصار لهم شوكة أمروا بالقتال , وعلى هذا فلا بد من هذا الشرط, وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات, لان جميع الواجبات يشترط فيها القدرة لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ) [ التغابن 16] وقال ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) [البقرة 286].  

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات