اقتباس
فبناء على الأساس الثاني؛ أن الأمة مصدر السلطات، والإمام وكيلها ونائبها؛ فإن العلاقة بين الحكام والمحكومين ليست فقط مجرد علاقة وكالة ونيابة، إنما هي علاقة تكامل في ظل سيادة الشرع المعظم، فعلى الإمام واجبات تجاه الرعية، وعلى الرعية واجبات تجاه الإمام، وعند الاختلاف بين الطرفين يكون الاحتكام إلى الكتاب والسنة، ودستور
تكلمنا في الجزء الأول من المقال عن ماهية النظام السياسي في الإسلام ومدى تكامله وتفرده وتمايزه عن غيره من الأنظمة السياسية الوضعية، وذكرنا أهم الأسس التي يقوم عليها هذا النظام ومنها: السيادة لله - عز وجل -، والأمة مصدر السلطات، ونواصل في هذه المرة الحديث عن بقية هذه الأسس والركائز.
الأساس الثالث: التكامل بين الحاكم والمحكوم
فبناء على الأساس الثاني؛ أن الأمة مصدر السلطات، والإمام وكيلها ونائبها؛ فإن العلاقة بين الحكام والمحكومين ليست فقط مجرد علاقة وكالة ونيابة، إنما هي علاقة تكامل في ظل سيادة الشرع المعظم، فعلى الإمام واجبات تجاه الرعية، وعلى الرعية واجبات تجاه الإمام، وعند الاختلاف بين الطرفين يكون الاحتكام إلى الكتاب والسنة، ودستور العلاقة بين الولاة والرعية قوله - عز وجل - ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما ما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ذلك خير وأحسن تأويلا ) [ النساء 58 ـ 59 ]، فالآية الأولى أجملت واجبات الراعي والحاكم تجاه الرعية، حيث أوجبت عليه أداء الأمانات والعدل في الحكم وكلاهما مفتاح السياسة العادلة والولاية الصالحة. والآية الثانية أجملت واجبات الرعية وأعظمها الطاعة في المعروف، مع بيان المرجعية الثابتة عند الاختلاف وهي الكتاب والسنة أو " الله ورسوله ".
هذا التكامل في العلاقة بين الحكام والمحكومين ناتج عن كمال الشريعة الإسلامية، كما يعتبر التكامل هو الضمان لتحقيق المقاصد من وراء إنشاء النظام السياسي الإسلامي أو مهام المهام العظمى أو مقاصد الإمامة العظمى، ومن أهمها: حراسة الدين، وسياسة الدنيا به، وهي أمور لن تتحقق إلا بتطبيق شرع الله، والدعوة إلى الدين لحفظه، وإقامة سوق العدل، ورفع الظلم، وجمع الكلمة، ومنع الفرقة، وعمارة الأرض، وهداية العباد لرب العباد.
الأساس الرابع: الشورى
الشورى هي واحدة من أبرز أسس النظم السياسية في أي مكان وزمان، فهي من قواعد الحكم الأصلية عند كل الحكماء، فهي أساس الملك وقاعدة السلطنة الرئيسية، ولا يستغني عنها أحد، والشورى في اللغة مشتقة من المشورة والمشاورة، وتشاور: أي استخرج ما عنده من الرأي، أما في الاصطلاح فقد عرفها ابن العربي - رحمه الله - بأنها: الاجتماع على الأمر ليستشير كل واحد منهم صاحبه ويستخرج ما عنده، وعرفها الراغب الأصفهاني بقوله: المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض.
والشورى في النظام السياسي الإسلامي معناها: " اجتماع أهل الحل والعقد نيابة عن الأمة على أمر للرأي فيه مدخل والانتهاء إلى نتيجة ملزمة "، وقيل: هي: " استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في الشأن العام " والهدف هو استخراج أفضل الآراء وأصوبها ووضعها موضع التنفيذ، فالشورى إذا تكون في الشأن العام والأمور التي لا نص شرعي قاطع فيها، وللشورى مجالات عديدة منها: اختيار الخليفة والإمام والحاكم وكذلك عزله عند وجود المقتضى، اتخذا القرارات الهامة المتعلقة بتسيير الشأن العام، مجال المباحات لاختيار الأيسر والأنفع، مجال الاجتهاد الجماعي في استنباط الحكم الشرعي في ضوء مقاصد التشريع.
لا خلاف بين أهل العلم في مشروعية الشورى، وثبوتها بالكتاب والسنة النبوية، وفعل الراشدين ومن جاء بعدهم، وإنما وقع الخلاف بينهم في وجوبها، وذلك إلى عدة أقوال منها:
الأول: أن الشورى واجبة، وعلى الإمام أن يشاور المسلمين بدوائرهم المتعددة مثل أهل الحل والعقد، وأهل العلم، وأهل الاختصاص، ولا يستبد الإمام بالرأي والقرار دونهم. وهذا هو قول جماهير العلماء من السلف والخلف وهو قول الحنفية والمالكية والصحيح من قولي الشافعي ورجحه النووي، ورواية عند أحمد، وبه يقول أغلب المعاصرين.
الثاني: أن الشورى مستحبة ومندوبة، وبه يقول قتادة والربيع وابن إسحاق ومقاتل والمشهور عند الشافعية، والمعتمد عند أحمد، وهو مذهب الظاهرية ورجحه ابن القيم، ولم يقل به أحد من المعاصرين إلا الدكتور الخالدي في كتابه " قواعد نظام الحكم في الإسلام ".
الثالث: وفيه التفصيل، فيكون حكم الشورى حسب الحاكم والأمر المتشاور فيه، فإذا كان الحاكم من أهل الاجتهاد لزمه مشاورة العلماء وأهل الرأي، وكذلك إذا كان الأمر المتشاور فيه من النوازل العامة مثل قرارات الحرب، وإن كان غير ذلك فإنها مستحبة، وقال بهذا الرأي بعض مجتهدي المذاهب، مثل القاضي حسين من الشافعية، والسرخسي من الحنفية.
ولا شك أن الرأي الأول هو الأرجح والأقرب لنظريات الحكم الراشدة التي تقوم على الوصول لأفضل سبل العيش، وفي سورة الشورى بعد أن قرر الله - عز وجل - سيادة الشرع في قوله ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) وبعد أن أوصى بالائتلاف والجماعة في ظل سيادة الشرع في قوله ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) بعد ذلك أخذ سبحانه يقرر الركائز الأساسية في المجتمع الراشد الذي يحكم بالشريعة ويستقيم على جادتها، فكانت الشورى هي واسطة عقد هذه الركائز ـ حتى سميت السورة باسمها ـ ذلك لأن الشورى هي عمود فسطاط الجماعة، وجاء السياق القرآني عنها بصيغة موحية بالإلزام ( وأمرهم شورى بينهم ) حتى قال الجصاص في أحكام القرآن: " هذه العبارة العظيمة تدل على جلالة موقع الشورى، لذكره لها مع الإيمان، وإقامة الصلاة، وتدل على أننا مأمورون بها "
فالشورى إذا واجبة على الإمام والحاكم وجوبا عينيا، وعلى الأمة بشرائحها المختلفة وجوبا كفائيا، وقد وقع الخلاف في مسألة أخرى: هل الشورى ملزمة أم معلمة ؟
والناظر في سياق سيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة الراشدين والسوابق التاريخية يعلم يقينا أن الشورى كانت ملزمة حتى ولو خالفت رغبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يراه حسنا، كما حدث يوم أحد عندما كان يرى البقاء في المدينة وانتظار قدوم المشركين، في حين رأي أصحابه ومشيروه بالخروج إلى لقاء العدو خارج حدود المدينة، فنزل على رأيهم، على الرغم من علمه أن الصواب كان في رأيه فمع ذلك لم يستبد به ولم يخالف الشورى، فعلّم الأمة كيف تعتمد على نفسها وتتحمل نتيجة قرارها وتبعاته. ومن جهة المعقول فإن القول بعدم إلزامية الشورى يفضي بالضرورة إلى تفريغ الشورى من معناها ومقتضاها، وإبطال حكمة تشريعها، كما أنه يفتح بابا للاستبداد والظلم والجور، والشورى شرعت في الأساس لردع هذه الآفات المفسدة للحاكم والمحكوم، فالإسلام لا يريد حاكما طاغية، ولا محكوما مهينا سلبيا مستذلا، والرعية إذا تنعجت فلا تلومن إلا نفسها إذا وجدت حكاما مثل الذئاب الضارية.
الأساس الخامس: إقامة العدل وحراسة الحريات ورعاية المبادئ
فالنظام السياسي في الإسلام يختلف عن النظم الأخرى التي قامت على مبادئ مادية بحتة تعتمد في الأساس على فكرة المنفعة الصرفة بغض النظر عن كيفية التحصيل، فالدولة الإسلامية تتميز بأنها دولة المبادئ والقيم، فهي تقوم عليها وترعاها وتحافظ عليها وتقررها كقيم مطلقة غير قابلة للأخذ والرد، فقيم العدل والإحسان والأمانة والنزاهة والبذل والتجرد وحقوق الإنسان؛ قيم مطلقة لا يخلو من مجتمع إلا تضعضع وانهار، والقرآن والسنة خير شاهدين على إقرار هذه القيم والمبادئ، وليس من باب المبالغة القول أن الميثاق الدولي لحقوق الإنسان الذي يتغنى به الغرب ويعتبره قمة ما أنجزه لصالح البشرية، قد سبق به القرآن والسنة قبل 14 قرنا من الزمان، بل فاقه وجاوزه في جعل هذه الحقوق بمثابة القيم المطلقة التي لا يجوز التلاعب والمساس بها، وجعلها من لب الدين والأمانة الذي يسأل عنها الولاة يوم القيامة، وليس كتلك التي يعبث بها البشر ويوظفونها تبعا لأغراضهم وأهوائهم، فيتذكرون حقوق الإنسان في السعودية وأفغانستان وباكستان، وينسونها في فلسطين والصومال والشيشان. ولقد قامت نظرية حقوق الإنسان في النظام السياسي الإسلامي على أسس متينة من أهمها: تكريم القرآن للإنسان، ورحمة الله - عز وجل - بالناس، وحدة الأب والأم، عالمية الخطاب القرآني لبني آدم جميعا، الإنسان هو الموضوع الأهم والأكثر في القرآن الكريم.
أما نظرية العدل المطلق في الإسلام فهي تقوم على محورين أساسيين: الأول: العدل الإلهي في معاملة الإنسان، فلا يظلم الله - عز وجل - أحدا في الدنيا ولا في الآخرة، فلا يعاقب أحد منهم قبل قيام الحجة الرسالية، فلا يكلف أحد منهم بالإيمان بالنظر في الآيات الكونية والتدبر في الخلق، كما أن المسئولية في حق عموم البشر مسئولية فردية، فلا يعذب أحدا بذنب أحد إلا إذا كان هو المتسبب في ذلك إما بتعليم أو سنّ أو تقصير في ولاية. أما المحور الثاني: أن ميزان العدل هو شرع الله - عز وجل - ، وليست أهواء البشر، فالله - عز وجل - شرع العدل في الحياة كلها، شرعه في الحكم بين الناس، وفي القول والفعل وإبداء الرأي والعشرة بين الأزواج والأقربين والناس أجمعين. فالظلم هو أعدى أعداء الأمم والمجتمع، ومكمن الخطر الداهم على استقرار المجتمعات، وعلى حقوق الإنسان لذلك كان من أكثر الأمور التي نزه الله - عز وجل - عنها نفسه وحذر عباده منها هو الظلم.
أسس النظام السياسي في الإسلام (1/ 2)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم