اقتباس
أن يتقاعد الداعية عن دعوته في هدوء ودون ضوضاء ، مع بقائه على استقامته في نفسه وولده وهؤلاء قليل ، ومنها أن يتقاعد عن العمل ، ويتفرغ للهجوم على أقرانه العاملين لدين الله ، تارة بانتقاصهم ، وتارة بالطعن في أعمالهم أو ذواتهم ، أو مناهجهم ، وتارة...
سؤال يتردد في أذهان كثير من الدعاة ، هل ممكن أن يتأتي علىّ اليوم الذي اعتزل فيه العمل لدين الله ، وأقعد عن خدمة هذا الدين ، وأحال فيه إلى التقاعد ؟
فبعض الدعاة بعد أن تقدمت بهم السن ، وثقلت بهم الهموم ، واجتاحتهم شواغل الدنيا ، وكثرت مسئولياتهم الدنيوية ، وأعباؤهم الأسرية ، وتكاثرت عليهم ضغوط العمل الدعوي ، يهتف في آذنه هاتف يقول له : آن لك أن تستريح ، وتلتفت لنفسك وبيتك وأولادك ومصالحك ، فيغالب هذا الوسواس تارة ، ويدافعه تارة أخرى ، ولكن مع كثرة الضغوط يبدأ في الاستسلام ، وعندها يقرر بعض الدعاة أن يحيل نفسه إلى التقاعد ، ويكتفي بما قدمه من خدمات للدين والدعوة ، ويحيي بقية أيامه مجترا لذكريات الدعوة وأيامها الجميلة ، شأنه في ذلك شأن الموظفين الحكوميين الذين يبلغون سن التقاعد ، ويقضون ما بقى من أيامهم على راتبهم التقاعدي الذي نالوه في مقابل عملهم لسنوات في الحكومة .
فما الذي يدفع بعض الدعاة إلى التقاعد عن الدعوة ، والقعود عن خدمة الدين، والبذل والعطاء في سبيل الله؟
القعود في لغة العرب له عدة معان منها :
الجلوس بعد قيام ، ومنها الانقطاع وترك الأمر أو التأخر عنه ، يقال : قعدت المرأة عن الحيض والولد أي انقطعت ، وقعد عن الأمر أي تركة وتأخر عن القيام به ، ومنها الاحتباس عن الشيء ، ومنها عدم الاهتمام بالأمر ، ومنها أيضا الداء الذي يصيب الجسم فيقعده ، ولو نظرنا إلى هذه المعاني كلها لما وجدنا أي تعارض بينها ، فكلها تفيد معنى عام وهو الانقطاع عن الأمر بأي وصورة كان هذا الانقطاع .
أما في الاصطلاح ، فتقاعد الدعاة أو قعودهم: هو مرض يصيب بعض الدعاة لدين الله من داخله يعوقه عن مواصلة السير في الطريق إلى نهايته أو الثبات عليه ، أو على الأقل هو متأخر عن الركب دون اكتراث أو مبالاة.
والقعود مذموم في دين الله عز وجل ، وورد في كتاب الله عز وجل ذكر القعود والقاعدين في عدة مواضع ، ذكرت جميعها بالذم الشديد والنكير الأكيد ، إلا من كان قاعدا بعذر شرعي مقبول من فقر ومرض ، منها قوله عز وجل ( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) [ التوبة 46] وفيها قال المفسرون المراد بالقاعدين : الذين من شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمني والرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج ، والله عز وجل جعل القعود من صفات المنافقين ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) [ آل عمران 168] قال ابن جرير أنها نزلت في عدو الله رأس النفاق عبد الله بن أبي.
أيضا ورد القعود في ذم بني إسرائيل الرافضين لدعوة موسى عليهم السلام لجهاد الكفار ودخول بيت المقدس ، وقعودهم كان مزيجا من الاستهزاء والاستهانة والجبن والرد لأوامر الله ، قال تعالى ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) [ المائدة 24] ، ومنها قوله عز وجل ( وإذا أنزلت سورة أن أمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) [التوبة 86] وقوله ( وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) [ التوبة 90] والآيات كثيرة وإن كان أكثرها في المنافقين واليهود إلا أنها توحي بذم القعود مطلقا بغير عذر ، سواء انتهى بصاحبه إلى أن يكون منافقا كهؤلاء الذين نزلت في شأنهم هذه الآيات ، أو يكون مسلما عاصيا معصية كبيرة .
ولتقاعد الدعاة عن الدعوة عدة مظاهر وصور وأشكال ، فبعض الدعاة يتقاعد في هدوء وسكينة ، والغالبية منهم يثير قدرا كبيرا من المشاكل ، والإشكاليات في العمل الدعوي ، من أجل تبرير تركه للعمل وقعوده عنه ، حتى يبرئ ساحته من تهمة الكسل والانقطاع . ومن صور القعود عن الدعوة :
أن يتقاعد الداعية عن دعوته في هدوء ودون ضوضاء ، مع بقائه على استقامته في نفسه وولده وهؤلاء قليل ، ومنها أن يتقاعد عن العمل ، ويتفرغ للهجوم على أقرانه العاملين لدين الله ، تارة بانتقاصهم ، وتارة بالطعن في أعمالهم أو ذواتهم ، أو مناهجهم ، وتارة بتأييد من ينتقصهم ، ومنها أن يتقاعد عن العمل ، ويسعى بعد ذلك لإفشال العمل بالكلية ، أما إفشاله منهجيا ، أو إفشاله حركيا ، أو إشاعة بعض أخطاء العاملين وكشف الستر عنها لتنفير الناس منهم ، ومنها ليّ أعناق النصوص ، أو استخدامها في غير موضعها ، لتبرير ما عليه من قعود وانقطاع .
أما عن أسباب هذا المصير الأليم ، وهذا الموت المبكر للدعاة بقعودهم عن الدعوة ، فكثيرة ومتنوعة ، من أهمها:
أولا : المعاصي والذنوب
فالمعصية هي أساس كل خذلان ولب كل نقصان ، والسبب الرئيسي لكل انقطاع وفتور وقعود يصيب الإنسان ، فتلطخ المسلم بالمعاصي كبيرها وصغيرها ، ظاهرها وباطنها ، ثم لم يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل ، فإن هذه المعصية ستؤدي إلى مرض قلبه وربما موته والعياذ بالله ، ويفقد بعدها القلب سيطرته على الجوارح ، فتتسلط عليه الشياطين والشهوات وزخارف الدنيا ، قال تعالى واصفا سبب جرائم بني إسرائيل ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) [ البقرة 61] ، قال ابن القيم رحمه الله " أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ، ويعينهم بها على نفسه ، فيقاتلونه بسلاحه ، ويكون معهم على نفسه ، وهذا غاية الجهل ، فما يبلغ الأعداء من جاهل ، ما يبلغ الجاهل من نفسه "
ثانيا : التوسع في المباحات
الله عز وجل وإن كان قد أباح لنا التمتع بزينة الحياة الدنيا ، ولم يحرّمها علينا رحمة بنا ، إلا إنه قد وضع ضوابط لهذا التمتع والتنعم ، ومن أهم هذه الضوابط التوسط والاعتدال ، فقال سبحانه ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) [ الأعراف 31] ، ويوم أن تغيب هذه الحقيقة عن الداعية فإنه يغب من المباحات غباً ، خاصة إذا كان يعيش في بيئة تميل إلى هذا السلوك غير الانضباطي ، وينشغل بتحصيل لذاته وتلبية رغباته وإشباع شهواته ، ظاناً أن هذا لا يؤثر عليه ما دام مباح ومن حلال ، وبالتالي لا يقوى على مواصلة السير في طريق الدعوة المليء بالفتن والابتلاءات والمكاره ، وقد تنبه السلف رضوان الله عليهم لهذه الحقيقة ، فقالت عائشة رضي الله عنها " إن أول بلاء حدث في الأمة بعد نبيها : الشبع ، فإن القوم إذا شبعت بطونهم ، سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم ، وجمحت شهواتهم " ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " إياكم والبطنة في الطعام والشراب ، فإنها مفسدة للجسد ، ومورثة للسقم ، ومكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما ، فإنه أصلح للجسد ، وأبعد عن السرف ، وإن الله ليبغض الحبر السمين ، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه " .
ثالثا : حب الدنيا
الدنيا إذا تمكنت من قلب الداعية ، فإنها تحمله على حبها والركون إليها ، والاطمئنان والرضا بها ، ونسيان الآخرة والغفلة عنها ، ومن ثم ترك الآخرة والعمل لها ، وهذا هو عين القعود ومعناه الحقيقي ، ولقد أوضح الله عز وجل أن حب الدنيا والرضا بها من أهم أسباب القعود عن نصرة الدين ، فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) [ التوبة 38] ، فهذه الآية نزلت في عتاب من تخلف عن الجهاد يوم تبوك بغير على ، وقد بينت أن السبب الحقيقي للتخلف هو إيثار متاع الدنيا على نعيم الآخرة .
رابعا : غياب النية الصالحة
فتصحيح النية واستحضار أطيبها وأنقاها عند بداية العمل ، يضفي على هذا العمل بركة وقبولا واستمرارية وذاتية تدفع صاحبها لمواصلة العمل والبذل والعطاء ، ومن كانت نيته رضا الله ونفع الدين والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يوفقه ويهديه ويبصره ويثبته ويقويه ويعينه على طول الطريق ومشاقه ، كما قال تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) [ محمد 17] ، ومن كانت نيته للدنيا والمصالح الخاصة ومن كان بلا نية ، كمن يدخل طريق الدعوة مسايرة لرفاقه ، أو تجربة واختبارا لهذا العمل ، أو للتسلي وقضاء أوقات الفراغ ، فإن عمله بائر وسعيه خاسر ، وحتما سيأتي عليه اليوم الذي يقعد فيه ويتوقف عن العمل ، كما قال الله عز وجل في شأن المنافقين ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ) [ التوبة 43] والإرادة هي النية الصالحة والأخذ بالأسباب .
خامسا : الجهل بطبيعة طريق الدعوة
فطريق الدعوة طريق طويل وشاق مليء بالفتن والابتلاءات ، يحتاج لأولي العزم والبصيرة والقوة والثبات ، فالمعوقات كثيرة والشهوات أكثر ، والعقبات متتالية ، بيت وزوجة ، عمل وذات ، منصب وجاه ، صحبة ورفقة ، مال وعيال ، فالدعوة طريق من أوسع طرق الجنة ، وطريق الجنة محفوف بالمكاره والمصاعب ، لا مجال فيه للراحة والدعة والسكون ، ومن بدأ هذا الطريق وهو لا يعلم طبيعته فهو حتما لا يستطيع إكماله .
سادسا : تغيير المناصب
بعض الدعاة ينظر إلى منصب القيادة على أنه تشريف لا تكليف ، ومكافأة وتقديرا لمواهبه وإمكاناته ، غنائم لا تبعات ، وعندما يتحول الداعية صاحب هذه النظرة للقيادة ، من موقع القيادة إلى موقع آخر دونه ، قد ترك العمل بالكلية ، حيث تكبر على نفسه ، ويعتبر تحول المنصب عنه نوعا من المعاقبة والتأديب له ، فيورم أنفه ، ويشرق بريقه ، ويقعد عن العمل لدين الله ، وفي الحديث الطويل " طوبى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ ، وَإِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ ، طُوبَى لَهُ ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ " . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
سابعا : تحميل النفس فوق طاقتها
وذلك في أي عمل من الأعمال تكون له في البداية حلاوة ، وقد يلقى من الداعية إقبالا ، واستفراغا لكل ما في وسعه ، وبذلا لكل طاقته ، وربما يرى من يحيطون به هذه الهمة العالية فيلقون ما في أيديهم من واجبات وتكاليف عليه ، وهو لا يمانع في ذلك ، ويمضي في خدمة الدين ، ولكنه بعد فترة من الزمان يجد نفسه قد أنهكه العمل وأضناه ، يجد نفسه قد أهمل بيته وولده ونفسه ، ولم يعط كل ذي حق حقه ، ويصيب بدنه الوهن والمرض ، فيجد نفسه مضطرا للتقاعد والتوقف عن العمل ، فالتعمق وتحميل النفس فوق ما تطيق قصير العمر ، فالبدن مطية السير ، فإن صبرت على التشدد يوما ، فلن تصبر اليوم التالي وهكذا ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " اكلفوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب العمل إلى الله أدومه ، وإن قل "
ثامنا : الجهل بحقيقة القعود
بالبعض يظن أن في القعود والابتعاد عن العمل الدعوي السلامة والعافية والراحة والبعد عن الفتن ، وذلك من وسواس الشيطان لابن آدم ، وهذا الوسواس يتعاظم دوره في أيام الفتن واستطالة الباطل على الحق ، حيث تكون ضريبة العمل الدعوي عظيمة ، ولا يقوى على تحملها إلا من اصطفاه الله عز وجل ، وهذا الأمر يعد تكذيبا لوعد الله عز وجل من حيث لا يدري ، فقد وعد عباده المؤمنين والسائرين على دربه نبيه بالتمكين والنجاة والفوز والظفر في الدنيا والآخرة ، وربما يدخل عليه الشيطان من مدخل آخر ليبرر له التقاعد عن الدعوة ، فيقول للداعية : أنت كثير الذنوب والخطايا ، وترتكب آثاما عظيمة ستكون سببا في تعويق العمل ونزول البلاء عليه ، وخير لك وللعمل أن تخرج منه ، وأن تبعد عن طريق البررة الأتقياء ، لتحل عليهم السلامة والنجاح ، فإن الشيطان لا يترك سبيلا لإحالة الداعية إلى التقاعد إلا سلكها ولو كانت في ثياب الناصحين .
تقاعد الداعية له آثار في غاية الخطورة على الداعية والدعوة والمجتمع الإسلامي ككل ، فالداعية عندما يتقاعد يستفرد به الشيطان ، فمن عاش وحده بعيدا عن أقرناه ، بعيدا عن الأجواء الإيمانية للدعوة ، يكون عرضة لغارات الشيطان ، وما يلبث حتى يقع صريعا في حبائل الشيطان ، وهذا ظاهر ومشاهد بكثرة في صفوف تاركي العمل الدعوي ، لذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم " فمن أحب منكم بحبوحة الجنة ، فليزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد " ، ومن آثار التقاعد أيضا إضعاف العمل الدعوي ، وتعرضه للإجهاض خاصة إذا كان المتقاعد ممن يحمل مهام كثيرة في العمل ، أيضا مرض القعود واعتزال الدعوة ، مرض معدي تنتشر آثاره بسرعة في صفوف العاملين ، خاصة إذا كان المتقاعد ممن يقتدى بهم ، فعندها تكون الفتنة أشد وأعظم ، في أحيان كثيرة يتحول المتقاعد عن الدعوة إلى سهم في كنانة أعداء الإسلام ، يصوبونه على صدور العاملين لدين الله ، فليتق الله كل متقاعد عن الدعوة ، وليفكر مئات المرات قبل أن يأخذ هذا القرار الخطير الذي ضرره يعم الجميع ، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم