عند الخوف من فتن الحياة.. توفني مسلمًا

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إنه لمن دواعي الذكر عند فرصة لقائه بهم الالتفات إلى سماحة تلك النفس الكريمة في مقام القدرة على الثأر، لتعلم أنه ما كان للنفوس الكريمة العفيفة ولا للأرواح السماوية العلوية أن تلبد طهر نفسها وتعكر صفو مروءتها بأخذ الثأر والرد بالمثل، وتكيل بمكيال الإجرام...

 

 

 

 

عاش قريبًا من أبيه حبيبًا إلى قلبه محاطًا في كنفه متوسمًا فيه نشأة طيبة وآملاً فيه مستقبل حياة مباركة؛ لكن وا أسفاه لقد واجه مكرًا خفيًا وتآمرًا جليًا ومنقلبًا سيئًا، تنقل فيه من بلاء إلى أشد، ومن فتنة إلى أخرى ومن مر إلى أمر؛ ابتلاءات كبيرة وتمحيصات عديدة، كانت بذرتها غربة عن الأهل والوطن، وبعد عن حنان الوالدين وعطفهما، ثم في غيابة الجب ملقى لم يفكر المدبرون لهذه العملية الإجرامية حينها أن يومًا سينبئهم: (بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [يوسف: 15]. 

تصاعدت المعاناة وزاد الغياب ليصبح الغلام سلعة بثمن زهيد يباع، يتحول إثرها إلى مملوك عند الذي اشتراه -ملك مصر-، وتأتي الطامة الكبرى افتتان من هو في بيتها به -زوجة العزيز- ومراودتها إياه، إذ لم تكن لتصبر على شاب لا يحمل جمال البشر الطبيعي؛ بل يملك جمالاً آخر لا تصبر عليه النفوس؛ لكنه ترفع متذكرًا جميل فضل الله عليه وتحسبًا لنهاية الظالمين عليه (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف: 23].

لقد حدثنا ربنا الكريم أنه ما كان ليترك المخلصين من عباده فريسة تجترهم شهوات النفس وتستهويهم دواعي الرذيلة، وها هو النبي الكريم ينجو من محاولة اغتيال لشرفه وإجهاض لإيمانه برعاية الله له، فصرف الله عنه كيدها، إلا أنّ استهدافها له باقٍ؛ حيث ألصقت به تهمةَ أنه من راودها عن نفسها، ومحاولة الإغواء لا زالت مستمرة، ومشهد المحاولة لم يحسم بعد تتوعده: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف: 32]، لكن دون جدوى، فمن استعصم بالله ولاذ به فقد هدي إلى صراط مستقيم، وآوى إلى ركن شديد.

نار شهوتها له لم تنطفئ، وشرارة حقدها عليه لم تندمل، وحتى تطفئ حرّ ما في نفسها حرضت عليه العزيز لتنزل بالغريب البريء الحكم الجائر في بلد هم فيه حكامه: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [يوسف: 25]، وتخيل كيف أنها راودته وطاردته، ناهيك عن دعواها أنه من راودها، ثم هي من حكمت عليه بالسجن أو العذاب الأليم؛ فجمعت في هذا كله إقدامًا على المعصية والافتراء عليه ثم تقرير الحكم.

ويدخل السجن ليمكث فيه بضع سنين إيثارًا بنفسه على المعصية، وصونًا لها عن الخطيئة، كل ذلك اختيارًا منه: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33]، ولقد كان بإمكانه السلامة من كل ذلك.

ويأتي بلاء من نوع آخر؛ هو جهْره بالحق من داخل سجنه لمن سألاه عن رؤياهما من السجناء، فلم تنسه قضيته المؤرقة دعوته إلى الله؛ حيث صرف الجواب عن سؤالهما وصدع بما هو لله أحق وعليهما أوجب؛ دعوته للتوحيد وبطلان الشرك ليصل أمره بعدها إلى الملك... فلعل شمس الحرية تشرق عليه من جديد ويلوح له فجر نهاية المعاناة.

تعاظم الملِك أمره وبهره خبره وتفسيره رؤياه فطلبه، فمن يملك تأويل تلك الرؤيا على نحو ما بينها يوسف لا يستهان به، وبقاؤه في السجن هو تكديس لتلك العقليات وكبح لتلك القدرات؛ إلا أنه لما جاء أمر الإفراج عنه أبى السجين أن يخرج، يا للعجب!! أحبًا أيها البريء في السجن أم توقعت استحالة الأمر؟! كلا، بل سلامة العرض أولى وأبقى من راحة البدن، فأصحاب المروءات والشرف لا يرضون أن تكون راحة البدن على حساب ذهاب شرفهم وتدنيس أعراضهم، والمسلم مطالب بأن ينأى عن كل ما يخدش عرضه، وفي الحديث: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه". [البخاري (1/20)، مسلم (261) عن النعمان بن بشير].

الصديق الكريم بين أمرين أحلاهما مر؛ فخروجه من السجن بعد عقود طويلة فالٌ يتطلع إليه؛ لكنّ خروجه دون أي تحقيق في قضية اتهامه أو براءة معلنة تكشف متهميه، أمر لا يستساغ له ولو كلف في السجن بقاءه.

دبر الله أمره وأجرى المهيمن حكمه فهيج قلوب من قذفوه للإعلان ببراءته دون إجبار من أحد أو إلزام عليهم، فنطقت بذلك ألسنتهم: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف: 51]، ليتوج بعدها بـ(إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف: 54]، هذا الخروج المشرف وهذا التأهيل السريع الذي قاده للتمكين، كل ذلك لم يكن تفضلاً من عزيز مصر ولا من قاضٍ نصره أو محامٍ وكّله، بل (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) [يوسف: 56]، إكرامًا له على عفته وتقواه وجزاءً له على صبره وإحسانه.

تولى سيدنا خزائن مصر ليصيب برحمة ربه من يشاء، الله أكبر!! يا لها من تحولات جسيمة، ولولا أن القرآن سطرها لما قبلها عقل ولا توارت في حسبان، ولصارت ضربًا من الخيال، إذ كيف صار من كان بالأمس في حالة إقصاء مدلى بحبال النكث بالوعد في بئر الغدر بالأمانة، هو اليوم من يعطف من خزائنه على الذين كادوا به ويوسع عليهم في مملكته وهم لا يعرفونه، فيسمع (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا) [يوسف: 88]، أرجع الفكر، لتلحظ الفرق واسعًا والمسافة بعيدة بين قولهم، وهم ينزلونه على دلو في البئر: "هذه الأحد عشر كوكبًا" تهكمًا منهم وسخرية وبين قولهم: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا)، لينقلب إليك الفكر خاشعًا معترفًا: إنه تدبير من في السماء.

إنه لمن دواعي الذكر عند فرصة لقائه بهم الالتفات إلى سماحة تلك النفس الكريمة في مقام القدرة على الثأر، لتعلم أنه ما كان للنفوس الكريمة العفيفة ولا للأرواح السماوية العلوية أن تلبد طهر نفسها وتعكر صفو مروءتها بأخذ الثأر والرد بالمثل، وتكيل بمكيال الإجرام لمن أساؤوا وجاروا.

وفي نهاية عاصفة من الذكريات عشناها كأنها رأي العين مع آيات القرآن، آن الآن لرحالنا أن تحط، وسفينتنا أن ترسو، فبعد كل هذه المعاناة التي توالت تباعًا وتواردت أصنافًا، أجرى الحكيم فيها أمره، وأمضى العليم فيها تدبيره، لم تستدع كل تلك المراحل العصيبة والابتلاءات الشديدة يوسفَ الصديق أن يسأل ربه الموت مسلمًا؛ لكنه حين وجد الملك أناخ له أمره، وفتحت الدنيا له ذراعيها، ووفد الناس إليه وتحققت رؤياه واجتمع له أبواه وأهله بعد انقطاع دام عقودًا، فاستوفى له حينها مال وأهل وجاه وملك، عندئذ خشي على نفسه فتنة الدنيا وخاف على دينه زخرفها، فرفع يديه وأغمض عينيه وحرك شفتيه راجيًا مستكينًا: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101]، تمناه مسلمًا وراجيًا أن يلحقه بالصالحين في حين أنه لم يتمنه من قبل رغم ما لاقاه من البلاء وكابده من اللأواء.

نعم، لقد تمنى التقي النقي الموت؛ لأن الدنيا يوم تبسط ويوهب الملك ويتوفر المال ويكثر الأتباع يصبح الدين على خطر، وربما صار أرخص ما يملك العبد وأهون ما لديه، ألم يقل محمد -صلى الله عليه وسلم-: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم". [صحيح البخاري (4/1473)].

وكم رأيت من أناس كانوا على قدر كبير من الخير ونسبة عالية من الصلاح، ومستوى يغبط عليه من التدين يوم كانت حالتهم المادية متواضعة، ومكانتهم الاجتماعية قريبة، فلما بسطت لهم الدنيا ومكن الله لهم في أرضه انقلبوا على أدبارهم، وارتكسوا على أعقابهم، وانغمسوا في دنياهم. والله المستعان.

نسألك اللهم الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، اللهم جمل أمرنا ما أحييتنا، وعافنا ما أبقيتنا، وبارك لنا فيما خولتنا، واحفظ علينا ما أوليتنا، ولا تسلبنا الإيمان وقد عرفتنا، وارحمنا إذا توفيتنا، وتفضل علينا إذا حاسبتنا.
 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات