سلسلة معالم الشخصية الربانية (4) إحسان العبادة لله تعالى

عصام خضر - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مع ذلك، متواضع، يقول إذا قام يتهجد من الليل، يناجي ربه: اللهم قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى، ترده إلى القيامة، إنك لا تخلف المعياد (5). فجمع رضي الله عنه بين...

 

 

 

 

لقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحرص على إعداد أصحابه إعداداً ربانياً وكانت خطواته تتم بكل هدوء وتدرج، وانصبت أهدافه التربوية على تعليم الكتاب والسنة وتلاوة القرآن وذكر الله والدعاء له وتعلق القلب به في كل أمر من أمور حياتهم مع غرس أهمية الدعوة إلي الله والاهتمام بأمر المسلمين والسعي في قضاء حوائجهم، وقد قل ذلك اليوم سواء فيما يتعلق باهتمام المربين بأنفسهم وتعهدها دائماً بالقرآن تلاوة وحفظاً أو بالعبادة إحساناً وتجويداً.

ولا شك أن هذه النوعية من المربين تفتقد العطاء في مرحلة مهمة من مراحل أدائها التربوي وإن لم يظهر ذلك في البداية، ويصبح المربي أداؤه مجرد أداء أجوف خالي من المعاني والروحانيات، وفرق كبير بين أداء الأعمال بحب ورغبة وبين أدائها لمجرد أنها واجب يجب أن تسقطه عن كاهلك.

لقد كان الصحابة، من المهاجرين والأنصار، على مراتبهم في الأولية، والسبق، والفضل، يتصدر التعريف بكل واحد منهم، بعد ذكر إسلامه، أنه شهد المشاهد، والغزوات كلها، مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، أو يُذكر في ترجمته مقدار ما شهد من هذه المشاهد، وشارك في تلك الغزوات، مع ذكر جمعه للقرآن، أو ما حفظه منه، وذكر عبادته، وزهده، وتهجده، وصيامه، وإنفاقه، وبذله، ودعوته، وتعليمه للناس.

وهكذا كانت سيرة الخلفاء الراشدين، إلى تمام العشرة المبشرين، بل قد زادوا فوق ذلك، تحمل أعباء الخلافة، والإمارة، والقيادة، وغير هؤلاء كثير من القرون المفضلة بل مازال التاريخ يسطر إلي يومنا هذا علماء جمعوا بين حسن الصلة بالله والدعوة إليه سبحانه والجهاد في سبيله.

لقد سطر التاريخ لجيل الصحابة ومن بعدهم، من المعروفين بالقراء والعلماء، الذين كانوا من أهل التقوى، والمغفرة، والعبادة، والتهجد، والصوم، وسلامة الصدر، ولزوم الذكر وكانوا أيضاً من أهل الجهاد، والبذل والتضحية في سبيل الله، الأمثلة الكثيرة فمن ذلك:

1- مصعب بن عمير

أول من يهاجر إلى المدينة، داعية إلى الإسلام، يمضي شهيداً يوم أحد، وهو يتلو القرآن في الميدان، لقد ظل مصعب بن عمير يعلِّم القرآن، ويدعو الناس للإسلام، واستشهد يوم أحد وهو يحمل الراية، وهو يقرأ القرآن في الميدان، يثبت به المؤمنين، وكان آخر ما قرأ: (وما مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].

فلم تمنعه الدعوة إلي الله وهو الذي نجح نجاحاً منقطع النظير في الدعوة للإسلام بالمدينة فهو الذي غرس فيها شجرة الإسلام وتعهدها بالعناية والتربية إلي هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يمنعه الجهاد في سبيله فهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى استشهد على يد ابن قميئة، لم يمنعه ذلك كله أن يكون مكثراً لقراءة القرآن حسن الصلة بالله حتى في أحلك الظروف وهو يرفع راية الجهاد يتلو القرآن فقد كان رضي الله عنه يدعى المقرئ.

2- سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه:

يحمل اللواء يوم اليمامة، على درب مصعب بن عمير ولقد اعتنق الراية وجعل يدعو الناس للاجتماع والقتال: يا أهل سورة البقرة، يا أهل سورة آل عمران، وأنكر على من ظن به أن الراية تسقط من يده فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً. وقطعت يده اليمنى ثم حمله بشماله فقطعت، ثم اعتنق اللواء بصدره، بين يديه، وهو يقرأ بين يدي استشهاده، تماماً مثلما صنع مصعب بن عمير(1).وكان مع جهاده وبسالته وشجاعته من المعدودين في عهد الصحابة الحافظين المتقنين لكتاب الله فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استقرءوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود ، و سالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل» (2). وكان رضي الله عنه يؤم المهاجرين والأنصار في مسجد قباء حين أقبلوا من مكة؛ لأنه كان أكثرهم قرآنًا، وفيهم أبو سلمة بن عبد الأسود، وعمر بن الخطاب (3). قال أبو نعيم عنه: الحافظ القاري والإمام الجاري كان صبا وامقا وبمودع الكتاب ناطقا وفي العبادة مخلصا واثقا (4).

3- معاذ بن جبل أنموذج فريد، في حب الله، ولقائه:

لقد كان الصحابة سادة الذاكرين، لقد كانوا يذكرون الله تعالى ذكراً كثيراً، فزكت نفوسهم، واشتاقوا للقاء الله، إن كانوا في ميدان الجهاد، فهم يرجون الشهادة، وإلا فحسن الختام، وهم في سبيل ذلك يلبون النداء، فيخرجون عن المدينة، التي يحبونها، ويحتملون ألم فراق سيد الأنبياء والمرسلين.

لقد خص الله معاذ بن جبل رضي الله عنه، بجملة فضائل، من السبق في الإسلام، والبيعة، والعلم، والعمل والزهد، والورع، والكرم، والتعبد، والاجتهاد. شهد العقبة وبدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها وبعثه صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن يعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مع ذلك، متواضع، يقول إذا قام يتهجد من الليل، يناجي ربه: اللهم قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى، ترده إلى القيامة، إنك لا تخلف المعياد (5). فجمع رضي الله عنه بين خصال كثيرة فلم يمنعه الجهاد وهو الذي فتح العراق في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولا الدعوة إلي الله تعالى وقد أرسله صلى الله عليه وسلم إلي اليمن معلماً وهادياً عن أن يكون عالما عابداً ذاكراً لله وقد كان رضي الله عنه أعلم الأمة بالحلال والحرام (6).

4- أبو طلحة الأنصاري

شهد العقبة مع السبعين، وبدراً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الرماة المذكورين، يقي بصدره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قوي التأثير على العدو، حتى قال صلى الله عليه وسلم «لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» (7). وفي رواية: «لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة» (8).

وكان من أكثر الأنصار مالاً، ولما نزل قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92]، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقف أمواله إليه، وجعلها صدقة في سبيل الله على الأقربين، وبني عمه، قلبه متعلق بالله تعالى فما أفطر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا في مرض، أو سفر، حتى لقي الله.

5- عبدالله بن رواحة

أحد النقباء الاثني عشر، شهد العقبة مع السبعين، وبدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء.

استخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، على المدينة في غزوة بدر الآخرة، وبعثه في سرية في ثلاثين مجاهداً، إلى أسير بن رزام اليهودي، بخيبر، فقتله، وأرسله إلى خيبر خارصاً.

فعن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره، في اليوم الحار، الشديد الحر، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم صائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن رواحة. وكان رضي الله عنه واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال ما يبكيك فقالت رأيتك تبكي فبكيت قال إني ذكرت قول الله عز وجل: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) [مريم: 71]، فلا أدري أأنجو منه أم لا.

6- إبراهيم بن أدهم

نشأ في بيت شرف، وعز، ومال، وانصرف عنه إلي العبادة، والزهد، وانشرح صدره بما أتاه الله من فضله، وما ذاقه من لذة العبودية لله، والافتقار إليه.

عن محمد بن الحسين، قال: ما انتبهت من الليل، إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله، فأغتم، ثم أتعزى بهذه الآية: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [المائدة:45]. وظل إبراهيم بن أدهم، بين الذكر والجهاد، حتى قال عشية موته: أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض عليه، فمات، وهو قابض عليه، يريد الرمي على العدو.

فالربانيون يجتهدون، حتى تنشرح صدورهم وتطمئن قلوبهم، فهم في جهاد متصل الحلقات ليسوا بمعزل عن واقع حياتهم، وإنها لمجاهدة متصلة بالله وتزكية للنفس ولا ريب في أن مستقبل الإسلام، يصنعه، أهل الذكر والجهاد.

7- شيخ الإسلام ابن تيمية

العالم الرباني قبل أن يموت عكف على قراءة القرآن وهو في السجن. وحينما مات ودخلوا عليه كان قد وضع علامة عند قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 54-55] (9).

يقول عنه ابن عبد الهادي: والأحوال التي عاش فيها شيخ الإسلام ابن تيميه تشهد بأنه كان متحلياً باليقين والمشاهدة التي بعثت فيه صفة الافتقار والاضطرار والعبودية والإنابة وقد روي أنه إذا أشكلت عليه مسألة أو صعب عليه فهم آية التجأ إلى جامع في مكان موحش ووضع جبهته على التراب و ردد قوله: يا معلم إبراهيم فهمني.

ويقول الذهبي: لم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه. ويقول ابن تيمية: إنه ليقف خاطري في المسألة أو الشيء أو الحالة التي تشكل علىّ فاستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينجلي إشكال ما أشكل.

ولا يحول دون هذه الحالة نوع من الجلوة والمجالس وصخب الأسواق يقول: وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدروب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي.

وكان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النهار جداً يقول هذه غدوتي لو لم أتغد هذه الغدوة سقطت قواي.

ومع عبادته ومكانته العلمية كان متواضعاً هاضماً لنفسه منكراً لذاته يقول ابن القيم: كان كثيراً ما يقول ما لي شيء ولا مني شيء ولا فيّ شيء. وإن مدحه أحد في وجهه قال: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت وما أسلمت بعد إسلاما جيداً.

يقول ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : العارف لا يرى له على أحد حقاً ، ولا يشهد له على غيره فضلاً ولذلك لا يعاتب ولا يطالب ولا يضارب.

كما كان شيخ الإسلام ابن تيمية زاهداً في الدنيا مقبلاً على الآخرة يقول زميله في الدراسة ومعاصره الشيخ علم الدين البرازلي: وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر والتقلل من الدنيا ورد ما يفتح عليه.

ويقول عنه الحافظ ابن فضل الله: كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه فيصل به الفقراء.

وغير هؤلاء كثير ما رأينا من يشتغل بالعلم لا ينتفع به ولا من يرفع راية الجهاد غليظ القلب مكفهر الوجه ولا من يتقلد منصبا أو ينشغل بأحوال المسلمين قاسي القلب بل كلهم قوي الصلة بالله فلم يكن فصل أبداً بين الانشغال بالدعوة والجهاد والإمارة وبين حسن العبادة والذكر والدعاء والبكاء من خشية الله.

ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمروا أبا بكر للصلاة في الناس في مرضه صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبك فلا يقدر على القراءة (10).

لكن انظر إلى حزمه وقوته وصلابته أيام الردة يوم أن تصدى للمرتدين، فلم تمنعه رقة قلبه أن يكون قوياً في الحق كما لم يمنعه قيامه بأمر الخلافة وما بها من مشاكل وأعباء أن يكون قريب الدمعة قوي الصلة بالله.

أما الفاروق عمر- رضي الله عنه - فمعروف أنه شديد القوة شديد البأس ومع هذا كان حاضر الدمعة، رقيق القلب فعن عبد الله بن شداد قال : سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ) [ يوسف: 86] (11).

قالت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز : إنه قد يكون في النَّاس من هو أكثر صلاة وصياماً من عمر بن عبد العزيز , وما رأيت أحدا أشد فرقا من ربه منه , كان إذا صلى العشاء قعد في مسجده ؛ ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه , ثم يتنبه فلا يزال يدعو رافعاً يديه يبكي حتى تغلبه عينه , يفعل ذلك ليله أجمع.

وحدث من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة : أن رجلاً قرأ عنده : (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) [ الفرقان : 13]، فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرَّق الناس .

لقد كانوا رضي الله عنهم في صلاتهم وحرصهم وإقبالهم على الله تبارك وتعالى في شيء عجيب، فهؤلاء مع عبادتهم وإقبالهم اشتغلوا بطلب العلم والدعوة إلي الله وتعليم الناس فلم يكونوا رحمهم الله بمعزل عن الناس بل كانوا من أعظم الناس قياما بواجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيله.

ولقد كان قيام ليلهم مما يذهل العقول كأنهم ما يفعلون شيئا في حياتهم إلا عبادة الله وقيام الليل وهم المجاهدون الدعاة الأمرون بالمعروف الناهون عن المنكر ولهم في سيد الخلق الأسوة الحسنة الذي قام حتى تفطرت قدماه، فحين ينصرف الناس إلى محبوبيهم من أهل الدنيا يتوسطون لهم لقضاء حاجاتهم ، يثوب المؤمن إلى ربه مخبتا يصلي من الليل ما شاء الله له أن يصلي ويدعو ما شاء الله له أن يدعو عله أن يقضي له حوائجه ويغفر له ذنوبه أو يدخرها له إلى أن يلقاه ، ويدعو الله بأن يؤتي نفسه تقواها ويزكيها ويخلصها من شرورها وآثامها ، وقد كان سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ من رواد مدرسة الليل وكانوا بحق رهباناً بالليل فرساناً بالنهار وعلى أيديهم انتشر النور وعم الضياء فزكوا أنفسهم وزكوا غيرهم.

كما ينبغي لمن يريد أن يتصف بالربانية أن يكون على فقه بمقصد طلب العلم، فإذا جلس يطلب العلم أو رحل في تحصيله والجلوس بين يدي العلماء فينبغي له أن يعلم أن طلب العلم ليس غاية لذاته مع فضله، بل هو وسيلة للعمل وتربية النفس وحسن الصلة بالله، وإلا فما معنى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» (12) ؟! وما معنى أن يُسأل المرء عن علمه: ماذا عمل به؟! فاسأل نفسك هل نفعك علمك أم لا؟! هل عملت بعلمك أم لا؟! وانظر إلى قلبك ولسانك فأنت أعلم بحالك.

قيل لـمالك : ما تقول في طلب العلم؟ قال: حسن جميل، ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي فالزمه.

ومن صور الإحسان في العبادة التي يظهر فيها تعلق القلب بالله تعالى الدعاء بحرقة وانكسار وذلة فيجيب الله دعوتنا.

به كان يتنزل النصر فما نُصر المسلمون بعدة وعتاد وإنما بحسن الصلة به سبحانه وقد أمر الله بالذكر والدعاء عند لقاء العدو، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45].

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه في معاركه ويستغيث به، فينصره ويمده بجنوده، ومن ذلك أنه نصر صلى الله عليه وسلم يوم بدر في حربه مع المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه واستغاث بالله، وما زال يطلب المدد من الله وحده مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9].

فالدعاء من أقوى أسباب النصر ومن أكبر العلامات على تعلق القلب بالله تعالى، ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه وكان أعظم جنده وكان يقول للصحابة لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء وكان يقول إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء معه فإن الإجابة معه.

فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات، فلابد من التربية على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء، لأن ذلك من أعظم وأقوى عوامل النصر.

وقد نقل أهل السير عن الأصمعي قوله: "لما صافَّ قتيبةُ بن مسلم للتُرْك وهَالَهُ أمرُهم؛ سأل عن محمد ابن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء. قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير.

فما أحوجنا إلى مثل أصبع محمد بن واسع رحمه الله تستنزل نصره ومدده. وما أحوجنا إلى ذاك الخفي النقي التقي الضعيف المتضعف الذي لو أقسم على الله لأبره.

فحق على كل مكلف عموماً، وعلى من أراد أن يخدم الدين من هذا الباب خصوصا، أن يتعلم أحكام الدعاء وآدابه وأوقاته، وأسباب الإجابة وموانعها، وما يجوز من الدعاء وما يحرم؛ وأن يجتهد أن يحصل في نفسه الإيمان والتقوى والطاعة لله رب العالمين، وأن يحقق المتطلبات القلبية بتطهير القلب من أوضار المخالفات، وتنقية النفس وتزكيتها من أدران الموبقات، وألا يطعم إلا من الحلال الطيب، وأن يتحرى المكان والزمان الأنسب ليكون أدعى للقبول وأرجى لتحقيق المأمول.

كما أن من صفات الرباني ألا ينشغل بالدعوة وينسى نفسه ومن أعظم ما تزكوا به النفوس الصيام فلقد كان السلف الصالح صفوة الصائمين ونُخبة القائمين ، وقد بات الصوم شعارهم وأنيسهم وحلاوتهم ، كانوا في صيامهم أهل الذكر والقرآن ، وأصحاب الشكر والامتنان ، صاموا بخشوعٍ وإخبات لمّا سمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قول الله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) [البقرة : 148] ، وقوله سبحانه: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الحديد: 21]. فَهِموا من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم ، أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة والمُسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية.

وكان رأس السابقين إلى الخيرات من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال عمر بن الخطاب: ما استبقنا إلى شيءٍ من الخير إلا سبَقَنا أبو بكر وكان سبّاقاً بالخيرات. ثم كان السابق بعده إلى الخيرات عمر رضي الله عنه.

يسارعون في أبواب الخير ، ويطلبون كل فضيلة ويلتمسون كل أجر وثواب ، هم في الذكر والقرآن أهله وخاصته ، وفي الصلاة عُبّادها ورُهبانها ، والصدَقة أقطابها وصُناعها .

عظُمَت نفوسهم لما وطّنوها على طاعة الله وذكره، وعزّت هممهم لما رغبت في لقاء الله وجنّته ، فطرحوا الدنيا الفانية للدرجات الباقية ، وهم مع ذلك خلفاء لرسوله صلى الله عليه وسلم يقومون بأعباء الأمة كلها ويحملون همها ليل نهار.

وعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ حظّه من النهار الجود والصيام ومن الليل السجود والقيام ، مُبشَّرٌ بالبلوى ، ومُنعَّمٌ بالنجوى، وقد قُتل عثمان رضي الله عنه وهو صائم وعمره ثمانين سنة.

 

فمما سبق يتبين لنا أن الصادق مع الله عز وجل لا يُرى إلا متأهبا للقاء ربه مستعدا لذلك بالأعمال الصالحة والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه ، يريد بذلك وجه الله عز وجل متبعا في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وهؤلاء هم من تنصلح الأمة بهم أما إن كان القائمون على أمر الله منشغلون بالدنيا وكان الذي يجمعهم مصالح دنيوية وإن قاموا بأمر الدعوة إلي الله نسوا أنفسهم وأدوا الطاعات على كسل وبقلوب قاسية فأولى بهؤلاء أن يتركوا الانشغال بالدعوة لغيرهم حتى يتنزل نصر الله، وهذا الإخفاق الشديد والفشل المتكرر من أن تنهض الأمة من كبوتها إنما بسبب سوء أحوال من يقوم عليها، فانظروا رحمكم الله في سير من قبلكم فبالتأمل في الآيات نجد أن الرباني هو عالم واعٍ، وعابد طائع، وداعية مربٍّ، يجتهد لربه ويخلص في ذلك كما يجتهد في مجتمعه.

يتبع

د
هامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الثبات عند الممات لابن الجوزي ص (104).
(2) قال الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم )950) في صحيح الجامع.
(3) انظر أسد الغابة لابن الأثير (1 /409)
(4) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (1/176).
(5) المعجم الكبير للطبراني(20/34) حديث رقم (48) تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي.
(6) انظر سير أعلام النبلاء (1/449)، (2/381،382).
(7) المستدرك على الصحيحين (3/397) حديث رقم (5503) وقال الذهبي رواته ثقات على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5081).
(8) مسند أحمد (3/203) حديث رقم (13127) وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
(9) أوردها ابن رجب - رحمه الله تعالى - في الذيل على طبقات الحنابلة (2/406).
(10) صحيح البخاري بتعليق مصطفى ديب البغا رقم (650، 680، 684).
(11) أخرجه البخاري باب إذا بكى الإمام في الصلاة (1/253) ونشج الباكي إذا غص بالبكاء في حلقه أو تردد في صدره ولم ينتحب أي لم يخرج صوتا وقيل النشيج أشد البكاء.
(12) رواه ابن ماجه حديث رقم (2796) وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه.
 

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات