خطبة الجمعة.. بين التأسيس والتسييس

باب أحمد بن محمد بن القصري

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

إن الموقف من تسييس خطبة الجمعة يحتاج بعض الإيضاح والتفصيل، فإن كان المقصود منه مجرد التعاطي مع همومنا وقضايانا السياسية، والإحساس بالتحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون، والتبصير بالمعروف والمنكر السياسيين، فهذا من صميم دور الخطيب، بل إن محاولة تفريغ الخطبة من هذا المضمون هو حشر للإسلام في الجوانب التعبدية المحضة، وهي علمانية تأباها عقيدة المسلم ..

 

 

 

 

 

بين الحين والحين يثور الجدل ويحتد الخلاف بشأن خطبة الجمعة، حيث يشتكي البعض من تسييسها، بل وتحولها -أحيانا- إلى مجرد برامج إعلامية رتيبة ، ويطالبون بحصرها في الجانب الوعظي والإرشادي لما لذلك من أهمية في حياة المسلم.. وآخرون يرفضون هذا المنحى، ويصفون دعاته بالعداء للدين، والسعي في الخراب المعنوي لبيوت الله عز وجل... ولهؤلاء وأولئك أكتب هذه الكلمات.

إن الموقف من تسييس خطبة الجمعة يحتاج بعض الإيضاح والتفصيل، فإن كان المقصود منه مجرد التعاطي مع همومنا وقضايانا السياسية، والإحساس بالتحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون، والتبصير بالمعروف والمنكر السياسيين، فهذا من صميم دور الخطيب، بل إن محاولة تفريغ الخطبة من هذا المضمون هو حشر للإسلام في الجوانب التعبدية المحضة، وهي علمانية تأباها عقيدة المسلم، الذي جاءه الأمر بقول الله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين".

أما إن كان المقصود بتسييس الخطبة هو الإغراق في جزئيات السياسة والأخبار اليومية الرتيبة، على حساب الجوانب الأخرى فإنه يجانب الصواب، خاصة إن كان يجعل مضمون الخطبة لا يكسب السامعين علما ولا يورثهم خشية... فعلى الخطباء أن يتيقظوا لضرورة مناسبة المقال للمقام، وأن يخاطبوا الناس بما يفهمون، وأن لا يقتحم الخطيب مجالا لا يحسنه؛ فمن حكمة الله عز وجل أن قسم أفضاله بين الخلائق، فوهب العلم لأقوام، وأكرم بتحريك المشاعر والوعظ آخرين، ورزق رجالا قوة الإدراك ومنطق التحليل والمجادلة بالتي هي أحسن، فليستخدم كل موهبته... ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

إن الناظر في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم -الذي هو قدوتنا وأسوتنا-؛ ليدرك -دون كبير عناء- شمولها وجمعها للهداية والبيان من جهة، ولمصالح الجماعة المسلمة وهمومها من جهة ثانية، كما يدرك آداب خطبة الجمعة التي يجب أن يحرص عليها كل خطيب، من حمد لله بما هو له أهل، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتحذير من البدع ومن مضلات الفتن، وترقيق للنفوس بقوارع الآيات.

ولأجل أداء الخطيب لرسالته النبيلة يلزم تقديم الإسلام مع استشعار أمانة البلاغ، وهو ما يتطلب نزولا إلى الميدان، ومعرفة عميقة بالواقع المعاصر بتداخلاته، لا أن يعتكف الخطيب متبتلا في محرابه... إنها ثنائية يتفاعل فيها المنهج والواقع ليولدا حراكا يكسر الرتابة ويترك التأثير.

فالخطبة تهدف باختصار للتأسيس والبناء السليم للفرد والمجتمع المسلم..." أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان...".. ومن بين جوانب هذا التأسيس الشامل يأتي الجانب السياسي... فالتسييس إذن جزء من التأسيس.. يقدر بقدره حسب الظروف والأحوال... وبغياب التوازن يكون الخلل.

وبغض النظر عن دعاوى التسييس فإن منظومة الخطابة لا تؤدي رسالتها بفاعلية، بل يكتنفها بعض القصور، إلا أنها لا تصل إلى مستوى التردي الذي نلحظه في قطاعات أخرى ذات تأثير جماهيري، وقد حملني على هذا التوضيح أن كثيرين يريدون من القائمين على الوظائف الشرعية من خطابة وإمامة ودعوة أن يكونوا فوق منزلة البشر، منزهين عن الخطأ والتقصير، ونسي هؤلاء أن الكمال المطلق لله جل وعز وحده، وأنه لا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأذكر أني لقيت أحد الاخوة الكتاب ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور لأن خطيب الحي أساء كثيرا، بنصبه الفاعل وجره المفعول، وكأن صاحبنا هذا معلم في النحاة ومخول، فقلت: لماذا لا تصلى في الجامع الكبير ففيه الشيخ فلان وقد كانت خطبته آية في البلاغة والفصاحة؟!، فقال: استيقظت متأخرا، فقلت: بدل أن تلوم نفسك، أو تتحمل قليلا من العناء، ها أنت تصب جام غضبك على خطيب جامع صغير، أليس في الكتاب من يلحن وفي الشعراء أيضا؟ قال بلى: قلت: وهل الخطباء استثناء؟!!....

ومع ذلك يجب أن تحرص الجهات المعنية على الارتقاء بهذا الفرض الكفائي وتطوير كوادره باستمرار لأداء مهمتها على الوجه الأكمل، وأول خطوة هي استقطاب الكفاءات التي تتوفر فيها المؤهلات اللازمة، من علم شرعي، ولغة سليمة، ومهارات في فن الخطابة والإلقاء، ومستوى من الاطلاع على اهتمامات ومشكلات الناس المختلفة، من خلقية، واجتماعية، واقتصادية، وتربوية؛ ليكون الخطباء أقدر على معالجة المشاكل والتحديات برؤية شرعية، مع تعليم المسلمين ما لا يسع جهله من عقيدة وشريعة، كل ذلك في إطار من تربية الوازع وتعبيد العباد لله عز وجل.

كما يلزم وضع خطط للتدريب والتأهيل المستمر، مع الاستعانة بباحثين ميدانيين؛ لتحديد مستوى ونوع المخاطبين في كل جامع، وتوزيع الخطباء على هذا الأساس، وهي خطوة بالغة الأهمية والتأثير، وكمثال على غياب هذا النوع من التخطيط والتوجيه، أذكر أني صليت بأحد الجوامع، وكان على مقربة من مجمع سكني يقطنه أكاديميون وأساتذة جامعيون، ومع أن مستوى الخطيب كان مقبولا، إلا أنه لم يرق لمستوى المخاطبين، وعلى العكس من ذلك نجد خطيبا مصقعا يهز أعواد المنابر، جميل الترسل، يتهادى صوته العذب، وتتدفق ألفاظه منسابة لا تنافر بينها، في أسلوب أدبي رفيع، لكنه يقف أمام حشود من عوام الناس، لا يتبينون من كلامه إلا القليل، فيذهب جهده سدى.

كما أن على الخطيب مسؤولية كبرى في التطوير الذاتي المستمر، واكتساب المعارف والخبرات اللازمة، والأهم من ذلك خلق قنوات اتصال مع جماعة المسجد، ليتفهم مشكلاتها واهتماماتها، وقبل كل ذلك يجب التحضير للخطبة بما يكفي، لا أن يكون الخطيب مهملا متكاسلا متشاغلا بشؤون حياته، فإذا كان قبل الجمعة بساعة فكر في موضوع يخطب فيه، فلم يعد أمامه من خيار غير فتح كتاب يستل منه موضوعا دون تمحيص أو روية، فإذا وقف على المنبر كان ذلك باديا في أسلوبه، هو في عالم والمصلون في عالم آخر، وفرق كبير بين من يقدم خطبة مرتجلة متناسقة مترابطة الأرجاء تبدو عليها آثار الجدة، ومن يخلط ويخبط كمحتطب ليل، يظن أنه يهدي وهو في الواقع يهذي.

إن من الخطأ الجسيم جعل فريضة الخطابة مجرد وظيفة للتكسب، وقيام الإدارات المسؤولة باكتتاب "الموظفين" لمجرد ملء الوظائف الشاغرة دون التيقظ إلى أن مخاطبة الجماهير علم وفن ورسالة، وليس من السهل الاضطلاع بها، إلا لمن آتاه الله نعمة الجمع بين العلم والايمان والبيان، وقليل ما هم.. ومن طريف الخطباء ما حصل في إحدى دولنا الاسلامية قريبا من اكتتاب لمجموعة من الأئمة كان منهم من لم يتقن مرحلة التهجي، فلما وصلته الخطبة مكتوبة من الوزارة وجد عناء كبيرا في مجرد قراءتها، فجلس أثناء الخطبة مرات عديدة، وفي كل مرة يعتذر عن نفسه بوصول نصها متأخرا، فيضج المسجد وتتعالى أصوات الاستنكار؛ ليتحول هذا المسجد إلى سيرك أوصالة تهريج، فالله المستعان!!!.

وغني عن القول بأنه كلما ارتفع سقف الحريات في بلد وغاب مقص الرقيب كان ذلك أدعى للرقي بهذه الشعيرة والانطلاق بها نحو آفاق الابداع والتميز، ففي الدول التي يتم فيها اغتيال الإبداع بتعميم خطب مكتوبة تراجع دور المنبر، وذوى تأثيره فاسحا المجال لمؤسسات أخرى، تملك من الجاذبية والقدرة على الحركة ما لا يملك.

يوم الجمعة عيد المسلمين... به يحتفلون كل أسبوع... وفوق كل ذلك هو نهر الحياة الجاري.. والموقظ للأمة من كل غفلة... يحفظ عليها دينها فلا تضيع، ويذكرها فلا تنسى.. ألا ترى معي كيف استطاع هذا اليوم العظيم أن يحشد الجماهير في وجه الطغيان... فأصبحنا أمام جمعات لا جمعة: جمعة للنصر وأخرى للتمكين وثالثة للحرائر، ولشامنا ويمننا جمعة... وكأني بالطغاة الحاكمين بأمرهم يتمنون أن لو كان الأسبوع بلا جمعة ، بعد أن قصمهم "سلاح الجمعة الفتاك"، وهل يفل الحديد إلا الحديد.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات