اقتباس
إن الإسلام وهو يشرع فرضية صلاة الجمعة ويجعل الخطبة فيها فعلا ضروريا ومركزيا، قد عول -ولا شك- على أهمية الكلمة الواعية والهادفة الجامعة بين متانة المنطق وقوة الحجة، وبين رقة الخطاب وإشراق الكلمة الكفيلة باختراق القلوب والوجدان، وقد أراد الإسلام أن تكون روحانية الصلاة وإيحاءات المكان وجلال الموقف عوامل مساعدة لإرهاف الإحساس، وتليين الوجدان لاستيعاب مضمون الخطاب ..
تشترك الديانات السماوية والنحل الدينية الوضعية في حاجتها الدائمة إلى الإبقاء على أتباعها موصولين بمصدر التنظير والتوجيه، الذي يغذي وجدانهم الجمعي بدفقات روحية متتالية تحافظ على قوة الارتباط، ويتم ذلك من خلال استدعاء الأتباع إلى مواعد التوعية والتذكير التي تعقد أسبوعيا وفي مناسبات استثنائية تخلد أحداثا وذكريات ذات دلالات ومضامين دينية.
إن الإسلام باعتباره وضعا إلهيا أخيرا وصيغة نهائية للوحي، جاء ليخاطب الإنسان في مرحلة اكتمال تطوره الفكري وارتقائه المعرفي، قد اعتمد هو أيضا أسلوب التجميع الأسبوعي لأتباعه. فأوجب حضور صلاة الجمعة لتكون ظرفا مناسبا، وموعدا روحيا صالحا لإلقاء خطبة تؤدي وظائف إعلامية تستهدف غايات ثقافية وتربوية واجتماعية وسياسية محددة.
إن الإسلام وهو يشرع فرضية صلاة الجمعة ويجعل الخطبة فيها فعلا ضروريا ومركزيا، قد عول -ولا شك- على أهمية الكلمة الواعية والهادفة الجامعة بين متانة المنطق وقوة الحجة، وبين رقة الخطاب وإشراق الكلمة الكفيلة باختراق القلوب والوجدان، وقد أراد الإسلام أن تكون روحانية الصلاة وإيحاءات المكان وجلال الموقف عوامل مساعدة لإرهاف الإحساس، وتليين الوجدان لاستيعاب مضمون الخطاب.
لقد أراد الإسلام لصلاة الجمعة وما يتم فيها من خطابة وتوجيه أن تكون فعلا تعبويا إسلاميا يتواصل فيه الخطيب باعتباره الرائد الذي لا يكذب أهله مع مجموعته التي تأتيه واثقة بصدق خطابه، وهي ترى فيه الناصح الأمين المتجرد لإبلاغ رؤية شرعية لما يطرأ من الوقائع والمستجدات ولمسيرة المجتمع عموما.
ولما أراد الإسلام أن تكون الخطبة قادرة على التوجيه الإسلامي، وعلى الإبقاء على القيم الإسلامية حاضرة في وعي وفي سلوك أفراد المجتمع، فقد وفر لها شروطا موضوعية كفيلة بضمان نجاحها، فاختار لإقامتها أنسب الأوقات من النهار فكانت صلاة الظهر أوفق بمن يأتي إليها من بعيد ليتأتى له الرجوع إلى أهله في واضحة النهار، وقد فرغ الإسلام الإنسان المسلم لأداء الصلاة فجاء الخطاب القرآني مانعا من شغل وقت الظهر من يوم الجمعة بأي شغل دنيوي حتى ولو كان بيعا مربحا فقال الحق سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) (الجمعة:9)
وقد فرع الفقه الإسلامي عن هذا الخطاب القرآني أن العقود والإجارات التي تبرم وقت النداء لصلاة الجمعة تفسخ ولو كان أحد طرفيها ممن لا تلزمه الجمعة، وهو قول مالك في المدونة (1).
ومن تمام التهيئة للاستفادة من الخطبة أن يمنع الإسلام كل خطاب سوى خطاب الإمام، حتى ولو كان القصد منه هو إسكات متكلم أو إجلاس قائم، ومن مأثورات النقول التي رأى ابن عبد البر أنها لا تصدر إلا عن توقيف شرعي قول ابن شهاب إن خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام (2).
ومن التهيئة أيضا إسباغ صفة الجمال على فضاء الالتقاء، إذ رغب الإسلام في الاغتسال لشهود الجمعة كما رغب في التطيب وفي لبس أحسن الثياب، ورغب في لبس البياض خاصة وأعفى ذوي الروائح المزعجة من حضور الجمعة إلا أن يتنظفوا. وبرعاية هذه الآداب يصير المسجد قطعة فنية جميلة يؤثثها عبق الريح ورواء المنظر ووحدة اللون وسكون المكان ووحدة الخطاب، وكل ذلك يسهل على المتلقي أن يتوحد مع موضوع الخطبة.
مقاصد خطبة الجمعة
من سنة الإسلام في كل تشريعاته انبناؤها على حكم آيلة إلى تحقيق مصالح الإنسان. وتشريع وجوب حضور الجمعة بما يتطلبه من انقطاع عن كل ما سواها من نشاط لا بد أن يتضمن من الحكم والمقاصد ما تفوق عوائده ما فوته الإنسان على نفسه من مكاسب مادية، وما بذله من جهد من أجل الحضور. وهي حكم راجعة إلى معنى صياغة شخصية الجماعة المسلمة عن طريق تثبيت كل القيم التي يقتضيها التجمع الإسلامي.
وغايات الخطاب الذي يلقى يوم الجمعة تتحقق حينما يتمثل الخطيب ما أراد الإسلام تحقيقه من غايات أبرزها:
- أن تكون الخطبة عملا إعلاميا تواصليا دائما ينشر المعرفة ويوحد المفاهيم ويضبط التصورات بأيسر الوسائل.
- أن تكون الخطبة عملا اجتماعيا يتوخى تخليق الحياة الاجتماعية وصونها من عوامل التآكل الداخلي.
- أن تكون الخطبة عملا سياسيا يعلن به المجتمع عن انضوائه تحت نظام سياسي شرعي موحد.
وبنا الآن أن نفحص هذه الأهداف والمقاصد بالقدر الذي يسمح به المقام.
1. الخطبة فعل إعلامي تواصلي دائم يوحد المفاهيم.
في عصرنا الذي يوسم بأنه عصر تقاربت فيه المسافات تقاربا يوحي بأن العالم اصبح قرية عالمية صغيرة، لا تحرص المجتمعات المتقدمة على شيء مثلما تحرص على نقل المعلومة وتداولها في أسرع وقت وإلى أقصى مكان وعلى أوسع نطاق، مستعملة في ذلك كل وسائط الاتصال ووسائله المتطورة، لكن تحقيق هذا المطمح يستعصي بفعل إكراه موضوعي يتمثل في عدم امتلاك الكثير من الناس لآليات التواصل المتطورة، وفي افتقارهم للخبرة التقنية المناسبة التي تمكنهم من استخدام وسائل الاتصال المعقدة، وهذا يفضي في نهاية المطاف إلى أن تكون وسائل التواصل وسائل نخبوية لا تستفيد منها مجتمعات معينة.
أما المجتمعات التي تقف على حدود الفقر فأنها قلما تستفيد من آليات الإعلام المتطورة.
لكن الإسلام الذي هو دين تحتل فيه الكلمة الهادئة موقعا مركزيا من حركة البناء والتغيير، فإنه قد تبنى أيسر الوسائل وأقلها كلفة في مجال الإبلاغ فكانت خطبة الجمعة موعد التوجيه والإرشاد والبيان.
وفضاء الجمعة الضروري ليس أكثر من مكان يتسع لاجتماع يضم اثني عشر فردا مقيما، وتتسع المساحة بعد ذلك تبعا لوفرة العدد. وعقد هذا الاجتماع أمر يتيسر على مستوى أصغر التجمعات السكانية وأبعد البقاع عن المدن الكبرى، وشروطه شروط عملية يتوقف عليها الإبلاغ لا غير، ولذلك ينعقد هذا الاجتماع عبر كل بقاع الأرض أسبوعيا ليكون خطاب الإسلام شاملا بالغا ما لم تبلغه وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمنظورة المتوقفة على شروط مادية قد لا تتوفر لبعض الناس في جهات نائية من الأرض.
2. الخطبة عمل تقويمي اجتماعي
لقد أراد الله لخطبة الجمعة أن تكون وسيلة منضبطة لممارسة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق شروط متطلبة في الآمر بالمعروف وفي كيفية ممارسة هذه الفريضة.
إن المجتمعات تتطور دوما وقد يتجه ذلك التطور نحو الأفضل، وقد ينحدر نحو الارتكاس في سلبيات سلوكية تحمل عليها الغفلة وعدم القدرة على تحليل طبيعة الممارسات التي تنشأ في المجتمع.
ومن أجل أن يظل المجتمع المسلم على مستوى ضروري من الأخلاق، فإن الإسلام قد ألزم بإقامة الجمعة ليكون ما يبث فيها رؤية جديدة تمتح من معرفة الخطيب بالإسلام ومن إدراكه لمآلات الأفعال التي تطرأ في المجتمع، ومن قبل أن تصير تلك الممارسات الخاطئة تقاليد اجتماعية وظواهر غالبة، فقد نصب الإسلام منبر الجمعة ليتولى اقتلاع تلك السلوكات في مرحلة بروزها المبكر ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهرع إلى المنبر إثر ملاحظته لسلوك غير إسلامي فيعالجه معالجة فورية قبل أن تتعوده النفوس، وقد فعل عليه السلام ذلك لما قال أحد من أوفدهم لجمع الزكاة هذا لكم وهذا أهدي إلي، وأسرع عليه السلام إلى المنبر لما علم أن رجلا دخل على امرأة مغيبة ذهب زوجها في سفر.
إن قيام المنبر بواجب المتابعة وضبط حركة المجتمع هو ما يجعل المجتمعات الإسلامية في مأمن من الانحدار إلى الانهيار الأخلاقي الشامل، الذي تعرفه مجتمعات تطرف فيها الناس ومارسوا من الحماقات الأخلاقية ما أصبح يمثل انتحارا اجتماعيا على المدى المنظور، من غير أن يجدوا أمامهم جهة مخولة لتصحيح مسارهم الذي انبنى على اعتبار قيمة وحيدة ومطلقة هي قيمة الحرية.
إن رسالة المنبر عند المسلمين قد قامت بما تقوم به مؤسسات اجتماعية تأخذ على نفسها تخليق الحياة العامة. وقد كان المنبر في رسالته ناجحا وتأكد نجاحه في ظروف الأزمة التي قام فيها المنبر بالتعبئة الشاملة.
3. خطبة الجمعة تعبير عن انتماء لنظام سياسي
يقترن مفهوما الإمامة والسياسة في الثقافة الإسلامية اقترانا وثيقا يوحي بتلازم الديني والدنيوي، وبطبيعة الدولة في الإسلام وأنها حارسة الدين وراعية الدنيا، ولذلك كان اسم الإمام إطلاقا مشتركا بين رئيس الدولة وإمام الصلاة، واعتبر الفقه الإسلامي أن إمامة الصلاة هي عمل أصيل من أعمال رئيس الدولة، وأن الإمام الذي يمارس الإمامة فعلا إنما يمارسها نيابة عن الإمام رئيس الدولة ، ومن أجل ذلك وضع المسلمون كتبا تلازمت في عناوينها كلمتا الإمامة والسياسة.
ويعتبر كتاب ابن قتيبة الدينوري من المصنفات التي برز في عنوانها تلازم الإمامة والسياسة وبصرف النظر عن تشكيك المستشرق دوزي والمحقق أحمد صقر في صحة نسبة كتاب الإمامة والسياسة إلى ابن قتيبة. فإن ذلك لا يلغي وجود هذا العنوان في التراث الإسلامي، ويؤكد توجه المسلمين إلى اعتبار رئيس الدولة إماما أن عبد الملك ابن صاحب الصلاة سمى كتابه في التاريخ تاريخ المن بالإمامة (3).
اعتبار الولاية العظمى إمامة مستمد من قول الله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5).
ولقد كانت إنابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس.
من أبرز الحجج التي أدلى بها عمر بن الخطاب وأبو عبيدة لترجيح اختيار أبي بكر لتولي الخلافة (4).
ورعيا لهذه العلاقة كان الخلفاء يرتقون المنبر بعد المبايعة فيلقون أولى خطبهم التي يحددون فيها سياستهم ومنهجهم في الحكم، وقد حفظت مصادر التاريخ خطب كثير من الخلفاء ومنها خطبة أبي بكر وعلي ، ومن أجل تلك العلاقة أن كان من شرط الخليفة كثير من شروط الإمامة كالذكورة مثلا.
ومن أجل ذلك كان ارتقاء الخليفة المنبر إعلانا عن تمام البيعة وعن خروج الأمة من حال الشغور السياسي.
ومن أجل ذلك كانت الخطبة إعلانا عن انضواء ضمن نظام سياسي فكان بعض الولاة الذين لا يرون أنفسهم مستقلين عن المركز السياسي لا يتسمون باسم الخلفاء أو أمراء المومنين ولا يدعى لهم على المنابر، وإنما يدعى لمن هم في حكم التبع له. فقد تسمى يوسف بن تاشفين بلقب أمير المسلمين وإن كان قد ضرب السكة باسمه (5).
وظل المرينيون أول أمرهم يدعون على المنابر لأبي زكرياء الحفصي اعتبارا، لعلاقة الحفصيين بالموحدين فلما لم يدع المرينيون للموحدين باعتبار أنهم كانوا ينازعونهم فقد اقتصروا على الدعاء للحفصيين لقربهم من الموحدين، ولم يزل الأمر على ذلك حتى ترك يعقوب بن عبد الحق الدعاء فكان ذلك إعلانا عن انفصال المرينيين عن الحفصيين واستقلالهم عنهم.
الخطبة وخطها الخطابي
يعرف من واقع الإعلام أن لكل وسيلة إعلامية سمعية أو بصرية خطا تحريريا تحافظ عليه، وهو في واقعه عبارة عن سياسة تتبناها تلك الوسيلة الإعلامية، وتحاول أن تكون وفية لها.
ويحدد ذلك الخط التحريري جملة عوامل ومحددات تراعي انتماء الوسيلة والتزامها السياسي والفكري ومساحات حرية التعبير المتاحة، واعتبارات أخرى مادية ومعنوية.
وجدوى تمثل الخط التحريري أنه يؤطر الوسيلة الإعلامية ضمن نسق خاص يمنحها معنى الالتزام.
وحين نحيل هذا المعطى على خطبة الجمعة باعتبارها خطابا إعلاميا بامتياز يؤدي ما تؤديه صحافة الرأي خصوصا، فإننا ندرك أن بعض الخطب لا تخضع لخط خطابي معين وأن بعض الخطباء لا ينطلق إلا من إلزامية إلقاء خطبة بصرف النظر عن أهمية موضوعها أو حاجة الناس إلى مثله، كما أن بعض الخطب لا تخضع إلا لاختيارات آنية واستدعاءات ظرفية لا يمكن أن تندرج ضمن رؤية شاملة لرسالة الخطبة، ومن ثم يفتقد المتتبع ذلك الخيط الناظم الذي يمكن أن يوحد الخطب رساليا، ومن ثم تغيض في تلك الخطب ثقافة المشروع الباني والهادف إلى ضبط حركة المجتمع وفق مراد الشرع، فتتحول الخطب على مستوى المدينة الواحدة إلى نثار من الأحاديث التي يصعب أن توضع تحت عنوان معين، ومن ثم تجد بعض الخطب مغرقة في الغرائبية والعجائبية التي تتصيدها من واهي النقول، وهي تجد جمهورها في البسطاء والأميين، وتجد خطبا أخرى مغرمة بالنقد اللاذع وبالوقوع على سوءات المجتمع وتدقيق النظر إليها تدقيقا يعطي انطباعا بموت الحس الإسلامي لدى كل فئات المجتمع. وكنت تجد إلى جانب هذه وتلك خطبا يلوذ أصحابها بما يحقق لهم السلامة ويعفيهم من مسؤولية الانتصار لأية قضية مهما تكن وجيهة أو مصيرية،فيكون الفراغ واللامعنى والسلبية هي سمات تلك الخطب وتكون تلك الخطب برمتها خارج الزمن.
إنه حين يكون الخطيب أهلا لإنتاج الخطاب وممارسة الخطابة فعليا على المنبر، فإنه لا بد أن يستبطن إحساسا عميقا بجسامة أمانة الخطابة وبموقعه من عملية التغيير، ويدرك أنه الرائد الصادق والناقد البصير والمفكر الحصيف الذي يعي جيدا وضع أمته واحتياجاتها المستقبلية،وما توجد فيه من ظرف دولي ومن موقع خاص ضمن جدلية التدافع الحضارين، فيؤسس على ضوء ذلك كله رؤيته لنموذج الخطبة الصالحة.
لقد توقف أحد المفكرين المعاصرين عند ظاهرة هزال مضامين بعض الخطب، وغياب المعنى الجاد فيها، فصور كيف أن خطيبا حلا له أن يصرف كثيرا من الجهد والوقت في إسماع المصلين موازنة بين غارين هما غار حراء وغار ثور ليستعرض ما اتفقا فيه من دخول النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي فيهما وما تميز به غار ثور من تفوق بسبب إيوائه أبا بكر يوم الهجرة، إن هذه الموازنة ليست أكثر من تقعر بارد وموازنة لا طائل تحتها بل هي على العكس من ذلك مزجاة للوقت وتعويد للإنسان المسلم على الاشتغال بغير المجدي.
إن المفترض في خطبة الجمعة أن تكون قادرة على مقاربة قضايا العصر والمجتمع مقاربة علمية نزيهة تهدي إلى الأقوم وتقوم المعوج وتحذر من السيء المتوقع وتطوق بؤر الفساد.
طبيعة الخط الخطابي المأمول
إن الاهتمامات التي يمكن أن تنشغل بها الخطبة كثيرة ومتنوعة تنوع انشغالات المجتمع، لكن الخطبة التي تخضع لوعي قبلي وبرنامج عمل مرصود تتوخى به تحقيق هدف بنائي محدد، لا يمكن أن تظل موضوعاتها باستمرار رهينة كل الاستدراجات والاستدعاءات التي تصير هي المصممة لأسلوب عمل الخطيب والمتحكمة فيه، فتصرفه بتواليها وتتابعها عما حدده من أهداف ضمن رؤية شاملة.
ولذا وجب تحديد وضبط منحى مدروس للخطاب والمحافظة عليه حتى في حال معالجة الطوارئ والمستجدات.
إن من الواجب أن يكون التوجه العام للخطبة مستقى من احتياجات شرائح الناس الذين يحرص الخطيب على أن يوجه إليهم رسالته، وهم أعم من أن يكونوا فئة المصلين الذين يقع بصره عليهم وهو يلقي خطبته، إذ يعلم أن الخطبة قد اكتسبت بعدا خاصا وقيمة مضافة فأصبح أكثرها يعتمد وثائق مادية في قراءة فكر المسلمين وتصورهم لقضايا عديدة، منها موقفهم من المخالف في الدين، ومن المرأة، ومن قيم حقوق الإنسان، ومن الإرهاب وغير ذلك من القضايا، وقد أصبحت بعض تلك الخطب تحلل على أصعدة كثيرة، فمن ثم وجب على الخطيب استحضار كل من تصلهم رسالته سواء منهم حضر ومن لم يحضر ويمكن تصنيف من توجه إليهم رسالة الخطيب ويتعين وضعهم في الاعتبار إلى أربع فئات هي:
- فئة المسلمين المشتركين مع الخطيب فكريا.
- فئة من المسلمين لهم توجهات وضعية.
- فئة المخالفين في الدين من أتباع الديانات.
- فئة المخالفين غير المنتمين لأي دين.
- لكل فئة من هذه الفئات، رسالة يجب أن تصلها.
* انشغالات الخطبة الموجهة إلى المسلمين المشتركين مع الخطيب فكريا.
أ. إن المطلوب من الخطبة أن تكون ساعية إلى استئصال السلبيات الجماعية قبل السلبيات الفردية، فتعمل على مقاومة كل تفكير جماعي أو فئوى مريض يؤثل ثقافة التفرد والتشرذم والكراهية للمخالف في جزئيات من الدين.
واسئصال النزوع إلى التشرذم والتمزق لا يتم بموعظة واعظ ولا بزجر زاجر، وإنما يتم بتصحيح التصورات والأفكار التي حببت إلى بعض الناس منزع التفرد ومنابذة المجتمع وصورته على أنه ضرب من إخلاص العبادة لله.
لقد اتكأ كثير من مستنبتي الفرقة على فهم غير سليم لنصوص إسلامية من أبرزها ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وأحمد بصيغ مختلفة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. على أن بعض روايات الحديث يقتصر نصه على قوله عليه السلام: افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعن فرقة.
وقد كان كثير من العلماء في شك من إضافة كلها في النار إلا واحدة، فقال ابن الوزير: إياك والاغترار بكلها هالكة إلا واحدة فإنها زيادة فاسدة غير صحيحة القاعدة ولا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة. وكان ابن حزم أكثر جرأة ، وقال عن هذا الحديث وحديث القدرية مجوس هذه الأمة أنهما لا يصحان أصلا من طريق الإسناد وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف من لا يقول به. وقال: والحق أن لكل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزال عنه إلا بنفي أو إجماع (6).
ومهما تكن درجة الحديث وحظه من الصحة، فإن الغريب هو استمساك البعض به على أنه دليل قطعي على حتمية هذا النوع من التفرق الذي يفضي إلى جعل غالبية أفراد الأمة الإسلامية من أهل النار، ونجاة فرقة واحدة بالنسبة للجموع نسبة ضئيلة لا تزيد على الواحدة على الثلاثة وسبعين، والعجب كذلك من اتخاذه نصا في الاختصاص باستحقاق الجنة وإحالة الباقين على النار.
لقد كان يكفي من قراءة الحديث التقاط إشارته بوجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من غير حاجة إلى تحديد الفئات الأخرى التي توصف بأنها من أهل النار.
إن التركيز المستمر على فهم قاصر للحديث هو الذي دفع دفعا قويا إلى تأصيل الخصومة وإلى الدخول في خصومة مع تاريخ الأمة العلمي والحضاري ومع حاضرها ومستقبلها، خصومات يروعك منها أن تعرف أن كثيرا من علماء هذه الأمة ومن صالحيها هم معدودون في الفرق غير الناجية، فإذا دفع البعض إلى القول بان طوائف الأشاعرة والماتريدية مثلا ليسوا من الفرقة الناجية فإن المرء يحق له أن يتساءل عن طبيعة النظرة التي يمكن أن تكون للناس إلى أعلام أمثال الطبري وابن حجر والنووي وابن دقيق والقرطبي والسيوطي والجويني والباقلاني وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم ممن أسدوا للأمة أيادي ناصعة على أنهم كانوا أشاعرة.
وإذا دفع البعض إلى القول بأن الماتريدية ليسوا من الفرقة الناجية، فإن هذا يشمل ولا شك جماهير من العلماء من أمثال أبي اليسر البزدوي الحنفي وأبي المعين النسفي ونجم الدين النسفي والكمال بن الهمام صاحب فتح القدير وملا علي القاري شارح البخاري (7). وغيرهم.
إن واجب الخطيب أن يعنى بضرورة اجتثاث ثقافة التفرقة، كما أن عليه أن يتبين خطورة سحب منطق الخصومة على تاريخ الأمة التي كانت أكثر نضجا حين تعاونت على إيصال كلمة الإسلام إلى أرجاء المعمور وحين خدمت العلم، وحين وصلت بين أطراف العالم الإسلامي بما كتب من رحلات وكنانيش وفهارس يلمس قارئها أن الأمة لم تكن تعاني مثل هذا النوع من التمزق المؤصل حاليا.
أ. الخطيب وتحقيق أسباب النهوض.
إن خطيب اليوم يستمد خطابه من عطاء الوحي ويؤدي واجبه في وسط ثقافي سمته الكبرى ارتفاع نسبة الأمية، وبعد الكثير من أفراده عن عالم المعرفة، وعزوفهم عن القراءة والكتابة عزوفا يشخصه أن الإنتاج العربي من الكتاب لا يمثل إلا نسبة 1,1% من الإنتاج العالمي بينما يشكل العرب نسبة 5% من سكان العالم ويمثل ما يترجمه العرب من الكتب 320 عنوانا وهو ما يعادل5/1 ما تترجمه دولة أوروبية واحدة هي اليونان ، إلى غير ما هنالك من المؤشرات التي أصبحت تقارير التنمية البشرية تفصح عنها.
إن المطلوب من الخطيب أن يوجه وبإصرار كبير إلى ضرورة اعتماد كل الوسائل الكفيلة بانتشال الأمة من حال الأمية المخجلة.
وللخطيب في هذا الشأن إسوة حسنة في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقف على المنبر فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال: ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، والله ليُعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة.
وقد أدرك الأشعريون أنهم هم المعنيون بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمهلوه أن يعلموا جيرانهم وكانوا أناسا حفاة من أهل المياه فأمهلهم عليه السلام سنة فعلموهم وأدخلوهم عالم المعرفة (8).
هذه خطبة واحدة محت جهالة وأسست منهجا في التكافل الثقافي.
وحين يريد الخطيب أن يكون في عمق عملية البناء والتغيير الاجتماعيين فإن بإمكانه أن يخصص إحدى خطبه للتعبئة من أجل إنجاح الدخول المدرسي مثلا، ومن أجل دعم مؤسسات التعليم، ومن أجل توفير الكتاب وتقريبه على أوسع نطاق.
وأمام الخطيب أن ينشر معاني الإسلام وحرصه على التزام الأخلاق المؤسسة للجماعة ومنها أخلاق الجدية والوفاء، والمشاركة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان واحترام الرأي المخالف، واحترام مكونات البيئة، كما أن عليه أن يصحح للناس جملة المفاهيم الإسلامية التي تعاني تشوهات خطيرة ومنها مفهوم الحرية المسؤولة، والعدل والتكافل والمساوا ة والوسطية والتجديد، والذمة والمواطنة والاتباع والابتداع، وغيرها من المفاهيم التي أصبحت المجتمعات الإسلامية تعاني جراء ما يلحقها من تشوهات وتحريفات.
----------------------
1. المدونة رواية سحنون عن ابن القاسم 1/ 234 دار الكتب العلمية بيروت.
2. الاستذكر لابن عبد البر 5/49 مؤسة الرسالة 1993
3. تاريخ المن بالإمامة لعبد الملك بن صاحب الصلاة، تحقيق د. عبد الهادي التازي دار الغرب الإسلامي ط3. 1987.
4. الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص. 23.
5. كتاب الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى أحمد بن خالد الناصري 2/200 ط. وزارة الثقافة والاتصال.
6. الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 3/293 دار الجيل بيروت.
7. الماتريدية دراسة وتقويما. د. أحمد بن عوض الله. ص: 115 دار الصميعي.
8. مجمع الزوائد للحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي. كتاب العلم. باب في تعلم من لا يعلم 1/164 دار الكتاب العربي بيروت ط.3. 1982.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم