في الأهواء والميول

علي محفوظ

2022-10-07 - 1444/03/11

 

 

قد عرفت أن مقصد الخطيب: استمالة النفوس إلى ما يريد منها بإثارة عواطفها، وأن ذلك يكون بمعرفة الأهواء، وطرق تهييجها أو تسكينها، ولما كان الإنسان مركبًا من روح وجسم - لم يكفِ الخطيب أن يوجه كلامه إلى القوى العقلية فقط؛ بل عليه أيضًا أن يثير من السامع عواطفه وميوله التي تدفع الإنسان إلى طلب ما يرغبه، أو النفور والإعراض عما يرهبه.
والميول الغريزية هي المسماة بالأهواء، وأهواء النفس الشهوية هي: المحبة والبغض، والرغبة والنفور، والفرح والحزن، وأهواء النفس الغضبية: الرجاء والقنوط، والشجاعة والخوف، والحلم والغضب.
فالمحبة: حركة في النفس تميل بها إلى الشيء بمقدار شعورها بما فيه من خير ولذة، وضدها البغض، ويتمكن الخطيب من تحريك عاطفة المحبة في القلوب بأمرين:
1 - بيان محاسن المحبوب الجميلة وسجاياه الكريمة.
2 - أن يذكر أعماله الجليلة ومآثره الحميدة، هذا إن كان إنسانًا وإلا ذكر ما فيه من خير ونفع وفائدة ومزية، ومثيرات البغض أضداد مثيرات الحب.
والرغبة: حركة في النفس تحملها على إرادة لذة مأمولة حسية؛ كلذات الحواس، وعقلية كلذة العلم والفضيلة، ويتوسل الخطيب إلى إثارة الرغبة في النفوس بتعظيم المرغب فيه، وتزيينه في عيون السامعين، ببيان الفوائد التي تترتب عليه وحاجة الناس إليه، وذكر قرب مناله، وسهولة دركه؛ فالذي يرغب في مثل الزواج لا بد له من بيان فوائده الدينية والاجتماعية، وحاجة البشر إليه، وسهولته على كل مقتصد معتدل في أمره، والذي يرغب في الصيام يجب عليه أن يذكر آثاره في تهذيب النفس، وصحة البدن والرحمة بالضعفاء.
وللخطيب في مقام الترغيب أن يسلك طريق المقابلة بين المنافع المترتبة على عمل الأمر المرغب فيه، والمضار الناتجة عن إهماله، أو تفضيل بعض الأمور المرغوب فيها على غيرها كالأمور العقلية على الحسية من الكمالات النفسية والبدنيَّة مثلاً.
والنفور: حركة في النفس تحمل الإنسان على العدول عن شر يضره، والسعي في الفرار منه والإعراض عنه، وما يثير النفور ضد ما يثير الرغبة بأن يقبح للنفوس ما أراد التنفير منه بذكر المضار التي تنجم عنه مع الاستغناء عنه، وعدم الحاجة إليه.
والفرح: لذة في القلب لنيل المشتهى، وأصدق وسيلة لتحريك شاعرة الفرح في القلوب أمور ثلاثة:
الأول: صفة الفرح الناشئ عن إصابة الخير المقصود كالظفر بالعدو.
الثاني: ذكر ما لحق النفوس من الشدائد والآلام قبل إدراكه.
الثالث: الإطناب في ذكر النعمة وبيان نتائجها الحسنة وعواقبها الجميلة بعد طول انتظارها، أو اليأس من الحصول عليها.
والحزن: ألم النفس لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي، ومن أقوى مثيرات الحزن - إن دعت إليها حاجة - بسط الكلام في هول الخطب، وعظم المصاب، وشدة المحنة في نحو حريق أو غرق نزل بقوم، ثم تعديد مزايا المفقود وبيان جدارته بالجزع والحزن عليه، مع ظهور مَخايل الانفعال في قوله، وملامح وجهه حتى ينتقل تأثره إلى قلوب السامعين.
والرجاء في اللغة: الأمل، وفي الاصطلاح: تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل مع الأخذ في الأسباب، والذي يبعث الرجاء في القلوب أمران:
الأول: أن يصف الخطيب عظم الخير المبتغى كي يحببه إلى النفوس ويحملها على طلبه بالسعي في أسبابه المشروعة المعقولة.
الثاني: أن يبين أن الأمر المرجو ليس عزيز المطلب، ولا بعيد المنال؛ لتوفر الوسائل الصادقة والأسباب المشروعة المؤدية إلى إدراكه؛ كالإيمان الصحيح، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة في الظفر بحسن الخاتمة، وكالجنود المخلصين والعدة التامة، والأقوات الموفورة، وحسن القيادة، وضعف العدو، والثقة بحول الله ونصره، وما إلى ذلك في مثل الجهاد.
ومِمَّا يُثيرُ القنوط في النفوس إذا أراد أن يَصْرِفَهُم عن أمر يُريدونَه أن يبيِّنَ الخطيب صعوبةَ الأَمْرِ الَّذِي يتطلَّعونَ إلَيْهِ، وأنه معجز الدرك، تحول دونه مخاطر ومشاقُّ لا يقتحمها إلا الغبي الجاهل الباحث عن حتفه بظلفه؛ وبذلك يحلُّ اليأس محلَّ الرجاء.
والشجاعة: هيئة للنفس تحصل لها عند اعتدال القُوَّة الغضبيَّة، بِها يقدم الإنسان على ما يجب الإقدام عليه مع التعرُّض للمكاره الحائلة دون المرغوب، فمِنْ أخصِّ مظاهر الشجاعة الإقدام على الأمور التي يَحتاج الإنسان أن يعرض نفسه لها لدفع المكاره والآلام الواصلة إليه، مع ثبات الجأش عند المخاوف، والاستهانة بالموت، وهي بالأشراف والملوك أليق؛ بل لا يستحقون الملك مع عدم هذه الخلة، وهي وسط بين التهور والجبن.
وبواعث الشجاعة لا تختلف كثيرًا عن بواعث الرجاء؛ بأن يرغِّب السامعين بوصف الأمر العظيم، ويشهِّيه إلى القلوب ليبعثها على طلبه، مع ذكر الإمدادات الإلهية، والثقة بالله تعالى في صدق ما وعد.
والفرق بين الرجاء والشجاعة: أنَّ الرَّجاء لا يقتضي الإقدام على الأمر بخلاف الشجاعة التي تهيجها المكاره فتبعثها على اقتحام المخاطر، ومقاومة من يحول بين الشجاع ومطلوبه.
والخوف: هيئة للنفس، بها يحجم المرء عن مباشرة أمر، لما يتوهم به من المخاوف والأهوال.
ويتمكن الخطيب من إلقاء الخوف في القلوب بأمور:
منها: إنذارُ القوم بخطب عظيم، وطامة كبرى، وسوء الطالع، ووخيم العواقب، وما إلى ذلك من الأهوال التي تلقي الرعب في القلوب.
ومنها: أن يتوعد السامعين بحلول البلايا وانقضاء الآجال على أسوأ الأحوال، إذا هم تمادوا في غيهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم.
والغضب: هيئة للنفس تتوجَّهُ إلى دفع المُؤْذِيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد الوقوع، وقوت هذه القوة الغضبيَّة وشهوتُها الانتقام، وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به، واعتدال هذه القوة أن تنبعث حيث يجب، وتسكن حيث يحسن الحلم، والكلام هنا في هذه القوة المعتدلة، والذي يهيج الغضب أمران:
الأول: ذكر الإهانة التي لحقته وتعظيم الأذى في عينه، وأن مثل ذلك لا يليق السكوت عليه، وما إلى هذا مِما يثير الغضب في النفوس، كما فعلت عفيرة بنت غفار، وكان طسم قد انتهكوا حرمتها:

أَيَجْمُلُ أَنْ يُؤْتَى إِلَى فَتَيَاتِكُمْ   *** وَأَنْتُمْ رِجَالٌ فِيكُمُ عَدَدُ الرَّمْلِ
أَيَجْمُلُ تَمْشِي فِي الدِّمَاءِ فَتَاتُكُمْ *** صَبِيحَةَ زُفَّتْ فِي العِشَاءِ إِلَى بَعْلِ
فَإِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَغْضَبُوا بَعْدَ هَذِهِ  *** فَكُونُوا نَسَاءً لاَ تُعَابُ مِنَ الكُحْلِ
وَدُونَكُمُ ثَوْبُ العَرُوسِ فَإِنَّمَا *** خُلِقْتُمْ لأَثْوَابِ العَرُوسِ وَلِلنَّسْلِ
فَلَوْ أَنَّنَا كُنَّا رِجَالاً وَكُنْتُمُ *** نِسَاءً لَكُنَّا لاَ نُقِرُّ عَلَى الذُّلِّ
فَمُوتُوا كِرَامًا أَوْ أَمِيتُوا عَدُوَّكُمْ *** وَكُونُوا كَنَارٍ شَبَّ بِالْحَطَبِ الجَزْلِ
وَإِلاَّ فَخَلُّوا بَطْنَهَا وَتَحَمَّلُوا    *** إِلَى بَلَدٍ قَفْرٍ وَمُوتُوا مِنَ الهزْلِ
فَلَلمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ مُقَامٍ عَلَى أَذًى *** وَلَلهُزْلُ خَيْرٌ مِنْ مُقَامٍ عَلَى نَكْلِ
فَدِبُّوا إِلَيْهِمُ بِالصَّوَارِمِ وَالقَنَا   *** وَكُلِّ حُسَامٍ مُحْدَثِ العَهْدِ بِالصَّقْلِ
وَلاَ تَجْزَعُوا لِلْحَرْبِ قَوْمِي فَإِنَّمَا *** تَقُومُ بِأَقْوَامٍ كِرَامٍ عَلَى رِجْلِ
فَيَهْلِكُ فِيهَا كُلُّ وَغْدٍ مُوَاكِلٍ  *** وَيَسْلَمُ فِيهَا ذُو الجَلاَدَةِ وَالفَضْلِ

الثاني: بيان ضرورة التشفي بالانتقام من الظالم حتَّى لا يتمادى في باطله وغيه، ويلحق بِهذا المقام المنافسة والحياء؛ فالمنافسة: مُنازَعَةُ النَّفْسِ إلى التَّشَبُّه بِالغَيْرِ فيما يراه المرء حسنًا ويرغب فيه لنفسه، والاجتهاد في الترقي إلى درجة أعلى من درجته، وهي مَحمودةٌ في معالي الأمور، وكل ما يكسب مجدًا بشرط أن تكون من طريق شريف مشروع، وتُثارُ المُنافسة بِذِكْرِ مَحاسِنِ مَن يُقْتَدَى بِهم، وبيان العار الذي يلحق بالسامعين إذا لم يسلكوا سبيلهم.
أمَّا الحياءُ فهو: انقباض النفس من شيء، وتركه حذرًا من اللَّوْمِ فيه، وإن شئت فقل: هو أن يحسن المرء ارتداع النفس عمَّا يقبُحُ تعاطيه، والإقدام عليه لملاحظته من ذلك قبح الأحدوثة، فهو كمالٌ لا نَقْصٌ، وإنَّما النَّقْصُ الإفراد في هذه الصفة بحيث تضعف عن الإقدام على الحسن النافع، واتِّقاء لذم من لا يعرف حسنه أو لا يعترف به، وتحريكه في القلوب بوصف سماجة الأمر الذي يراد الصد عنه، مع بيان قبح الأحدوثة بمزاولته، وهو أعمل في قلوب الأشراف منه في غيرهم.
والحلم: سكون النفس عند هيجان الغضب، وحدَّه ابن سينا بأنه: الإمساك عن المبادرة إلى قضاء الغضب فيمن يجنى عليه جناية يصل مكروهها إليه، وقال يحيى بن عدي: "إنه ترك الانتقام عند شدة الغضب مع القدرة على ذلك"، ويسمى هذا كرمًا، وصفحًا، وعفوًا، وتجاوزًا، واحتمالا،ً وكظم غيظ.
والحلم محمود ما لم يؤد إلى ثلم جاه، أو فساد سياسة، وهو بالملوك والرؤساء أحسن؛ لأنهم أقدر على الانتقام، وأقرب الوسائل لإطفاء نار الغضب وكظم الغيظ أمور:
الأول: الإقرار بالذنب، فإنه كما قيل: الاعتراف يزول به الاقتراف، قال ابن حازم:
إِذَا مَا امْرُؤٌ مِنْ ذَنْبِهِ جَاءَ تَائِبًا *** إِلَيْكَ فَلَمْ تَغْفِرْ لَهُ فَلَكَ الذَّنْبُ
الثاني: الإخبات والخضوع إذا كان الجاني دون المستضعف رتبة وقدرًا، أو كان ذنبه عظيمًا، فعليه أن يتذلل ويستكين لذوي القدرة؛ كقول إبراهيم بن المهدي للمأمون بعد عصيانه عليه:
أَذْنَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا *** وَأَنْتَ لِلْعَفْوِ أَهْلُ
فَإِنْ عَفَوْتَ فَمَنٌّ *** وَإِنْ جَزَيْتَ فَعَدْلُ
الثالث: ذكر الحلم وفضل كظم الغيظ على التشفي والانتقام بما جاء في ذلك من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح وأقوال الحكماء.
الرابع: وصف ما يجنيه الحليم من الشكر، والثناء والذكرى الخالدة.
الخامس: حسن تبرؤ الجاني من ذنبه؛ كأن يذكر خلوص مودته وحسن نيته في صنيعه، وأنه لم يأت ما يأتي إلا سهوًا، ويقرن كل ذلك بالأسف على تغيظ المعاتب، وإبداء صادق الرغبة في الرجوع عما ساءه.
السادس: تحري الظروف المناسبة والأحوال الملائمة كيوم عيد ووقت سرور، ومجلس أنس مع الاستعانة بمن يشفعون له من ذوي المنزلة بهذه الوسائل يخمد الخطيب نار الغضب، ويحرك عاطفة الحلم، ويدعو إلى الصفح والعفو.
ومن قبيل الحلم الرحمة، وهي: رقة في القلب تقتضي العطف على من حل به شيء من المكاره والآلام، ويتوسَّل الخطيب إلى تحريك عاطفة الرحمة في القلوب بأمور منها:
بسط الكلام فيما لحق المصاب من البلايا والخطوب، مع ذكر الأحوال التي تزيدها فجعة وتأثيرًا كشدتها وفظاعتها، ولا سيما إذا كان المبتلى من ذوي الحسب والنسب، أو سيد قومه فأخنى عليه الدهر.
ومنها: أن يأتِي بشخص المصاب أمام السامعين، أو يحضر بعض آثاره يعرضها على المسترحمين فتعمل رؤية ذلك في قلوبِهم، كما لو أراد حمل القلوب على الرحمة بمسكين بائس أو يتيم ضائع فيحضره، أو يظهر ثيابه البالية، وضعفه وعجزه.
ومنها: أن يبين أن من طرأت عليه المحن من ذوي الأخلاق الكريمة، والأعمال النافعة.
ومما يفيد كثيرًا في تحريك الأهواء وإثارة العواطف على الإطلاق، بعد تمام الإحاطة بأطراف الموضوع: أن يكون الخطيب عند التأدية متأثرًا بما يقول تأثرًا صحيحًا باديًا ذلك في لهجته وملامح وجهه، فإن الغاية من الخطابة أن ينتقل ما في قلبه من الإحساسات إلى قلوب السامعين، وبذلك يبلغ منها ما يريد، وهذا معنَى قَوْلِ أحَدِ الأدباء: "إن الأهواء والعواطف هي الخطيب في الجماهير"، وقوله: "السر كل السر أن يكون الإنسانُ مُلْتَهِبًا بالعواطف".
سَمِع الحُسَيْن متكلِّمًا يَعِظُ النَّاس، فلم تقع موعظته من قلبه بمكان؛ فقال: "يا هذا إن بقلبك لشرًّا، أو بقلبي"؛ يريد أن الكلام الخالي من العاطفة والشعور قد يكون مفعمًا بالحقائق متين الأسلوب، ولا يجد مع ذلك إلى النفوس سبيلاً؛ فالكلام لا يكون أسرع نفاذًا في القلوب إلا إذا كان صادرًا عن شعور صحيح، وإحساس صادق.
وبالله تعالى التوفيق.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات