اقتباس
مرور دعوة الإمام عثمان بنفس المحطات والمشاق والمواجهات التي مرت بالدعوة السلفية في نجد، فقد بدأت بالموعظة الحسنة، ثم تدرجت شيئا فشيئا حتى وصلت لمرحلة الكفاح المسلح في مواجهة خصوم الدعوة، من الأمراء وشيوخ القبائل وزعماء العشائر، ثم قيام دولة الدعوة في نجد بالمشرق العربي وفي الهاوسا بالمغرب الأفريقي.
تكلمنا في الجزء الأول من سيرة الإمام عثمان بن فودي عن ظروف دخول الإسلام إلى الغرب الأفريقي، وجهود العظماء والمجاهدين والعلماء في نشر الإسلام، وعن أهم الممالك الإسلامية التي قامت هناك، كما تكلمنا عن نشأة الإمام من مولده وأسرته ونسبه، والأجواء الدينية التي نشأ فيها، وأثرها على تكوينه واتجاهاته العلمية والفكرية، كما تكلمنا عن رحلته نحو إقامة أول إمارة إسلامية على غرار الخلافة العثمانية، والصعوبات والمشاق التي واجهها في رحلته من أجل ذلك. وسوف نتكلم هذه المرة عن أصول دعوته وجهاده وأهم أعماله، وآثار دعوته على المنطقة بأسرها.
أولا: دعوة الإمام
الإمام عثمان بن فودي قد نذر نفسه منذ البداية لخدمة الإسلام تعليما وتعلما، وكان لهذا التوجه الديني الخالص في حياته وسلوكه أثر بالغ في مسيرته الدعوية، فقد امتلأ قلبه بحب الدين والرغبة في نشره وتعليمه والذود عن حياضه والدفاع عن جنابه. فتولى تدريس الدين في موطنه بأرض " جوبير "، إحدى إمارات الهوسا، ولم تكن جوبير كلها يومئذ إمارة إسلامية تماما مع أنه كان بها جماعات إسلامية قبل ذلك بسبعمائة عام. وكان الشيخ عثمان يجيد التحدث باللغات العربية والفلانية والهوساوية وغيرها من اللغات. ولذا تهيأ له أن يجوب معظم بلاد الهوسا، وأن يجول بين الجماعات المختلفة، وأن يقف على أحوالها الاجتماعية والاقتصادية والدينية. وكان يخاطب كل جماعة بلغتها، وكان يدعو بين الرجال والنساء وعلي اختلاف قطاعات المجتمع، البدو وأهل الريف والحضر، والرعاة والزراع والطلبة والعلماء والتجار ورجال الدولة.
هذه الرحلة الدعوية والاختلاط مع شرائح متعددة من البشر، وأنماط مختلفة من القبائل والتجمعات السكانية، مكنته من الوقوف على موطن الداء وراء تخلف المسلمين وتسلط الأعداء عليهم. فقد هاله أثناء تجواله ما رآه ولمسه من ابتعاد الناس عن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن طغيان البدع في حياتهم، وتغطية الجهل والضلال والعادات السيئة، على جوهر عقيدتهم، وتسربت العقائد الوثنية والأفكار الخرافية إلى عقول المسلمين هناك، وحدث مزج خطير بين صحيح الإسلام وأساطير الأفارقة. فصار المسلمون يذبحون للأرواح ويقدسون الحيوانات والحيات، وينذرون للأنصاب والمشاهد والأحجار والأشجار، هذا غير البدع الأخرى التي تقل غلظة مثل بدع المعاملات والاحتفالات والعبادات، وأخيرا رأى الإمام منكرات راسخة أصبح مثل العادات الجاهلية التي لا ينكر على فاعلها مثل شرب الخمر والتعامل بالربا والغش في البيع والشراء وهكذا.
لذلك قرر الشيخ بناء ما تحصل له من معارف وعلوم بطبيعة أن تكون دعوته دعوة إصلاحية وثورة شاملة علي البدع والخرافات والشركيات وكل زيف ودخيل لحق بالدين، والدين منه براء .ولذا فقد قاد الشيخ عثمان حركة إصلاح سلفية عمدت إلى تعليم الناس أصول الدين الصحيح، وإحياء السنة، وإصلاح العقيدة الإسلامية، وتنقيتها مما شابها من بدع وتقاليد ارتبطت بالديانة الوثنية، والتي كانت سائدة في منطقة بلاد الهوسا وأعلن ثورة دينية ضد أولئك الحكام المسلمين، الذين بدئوا يخلطون الإسلام بالوثنية، من خلال تلك المظاهر وغيرها، وقد بنا الشيخ دعوته الإصلاحية علي خمسة أقسام:
القسم الأول: ما فرضت به الشريعة وهي الأصول والفروع الظاهرة والباطنة .
القسم الثاني: في الحث علي إتباع سنة رسول الله - صلي الله عليه وسلم -.
القسم الثالث: في رد الأوهام التي توهمها طلبة وعلماء الزمان نتيجة دراسة العلوم المنطقية والفلسفية، فشاع عند الناس أن من لم يشتغل بالتوحيد علي النمط المتبع في علوم الكلام فهو كافر وأشاعوا أن عوام المسلمين لا تؤكل ذبائحهم، ولا يناكحون مخافة أن يكونوا لم يعرفوا التوحيد، وابتلاهم الله بانتهاك حرمة خاصة أيضا فتناولوا فقهاء وقتهم من أهل العلم والدين ومن هم علي سبيل المهتدين.
القسم الرابع: في ردع البدع الشيطانية ورد العوائد الرديئة.
القسم الخامس: في بث العلوم الشرعية وتحديد المشكلات فيها والإفادة بالغرائب النوادر في العلوم.
ثانيا: أثر الدعوة السلفية في دعوة الإمام.
شاع بين كثير من القارئين لسيرة الشيخ المجدد أنه قد تأثر بدعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب النجدي بسبب زيارته للأراضي المقدسة وأدائه لمناسك الحج مع أبيه، واجتماعه مع تلاميذ الشيخ بن عبد الوهاب، لكن الصحيح الذي لا شك فيه أن الإمام لم يتشرف بأداء مناسك الحج لانشغاله طوال حياته بالجهاد والدعوة والتأليف والتعليم. وتأثره بمنهج الدعوة السلفية في الإصلاح، وعزو الناس نسبته لهذه المدرسة الدعوية والإصلاحية، كان نتيجة عدة أمور منها:
1 ـ تتلمذه على يد عدة علماء ومشايخ تأثروا بهذه الدعوة وكانوا من أنصارها في الغرب الأفريقي. مثل الشيخ جبريل بن عمر الأقدسي النيجيري، والشيخ محمد تنبو، وكلاهما كانا من المتأثرين بالدعوة السلفية العاملين بمنهجها في غرب أفريقيا. وكان الشيخ جبريل على وجه الخصوص ذا تأثير كبير على الإمام عثمان خاصة في باب محاربة البدع وتنقية الدين من شوائبه والدخائل التي لحقت به.
2 ـ اتفاق دعوة الإمام عثمان مع الدعوة السلفية في الأصول والأهداف والمضامين، مما جعل سبل مواجهة المنكرات القائمة وتوصيفها شبه متفق عليه بني الجانبين، فكلاهما دعوة لإحياء السنة ومواجهة البدعة، والعمل بالكتاب والسنة، فلا عجب إذا أن تتفق رؤى الإصلاح وسبل الدعوة بينهما، وقد ظهر هذا جليا في مؤلفات الشيخ عثمان الكثيرة مثل " إتباع السنة وترك البدعة "، " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، " الأمر بموالاة المؤمنين والنهي عن موالاة الكافرين "، " بيان وجوب الهجرة " وهو من أهم ما كتب الإمام عثمان.
3 ـ تشابه البيئة النجدية وقت ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مع البيئة الهاوساية وقت ظهور دعوة الشيخ عثمان بن فودي من شيوع البدع والخرافات والمنكرات ومزج العقائد الإسلامية بالشعائر والأفكار الوثنية والجاهلية.
4 ـ تأثير الدعوة السلفية على مؤلفات وكتابات تلاميذ الشيخ عثمان وأبنائه، ومنهم أخوه عبد الله وابنه محمد بللو، وكلاهما ألف في العقائد ونقل وشرح، وظهر المنهج واضحاً في كتاب تذكرة الشيبان الذي تناول سيرة الإمام عثمان وتلاميذه وأبنائه، وقد جاء فيه: "وقد قام الشيخ بتثبيت التوحيد الخالص بمحاربة كل ما يؤدي إلى الشرك، كالاعتقاد في قدسية بعض الأرواح أو الأشجار أو الأحجار أو الآثار أو الأنهار، وتقديم القرابين إلى الجن لإبعاد أذاه، وزيارة قبور الأولياء بقصد نيل شفاعتهم والتبرك بهم ".
5 ـ مرور دعوة الإمام عثمان بنفس المحطات والمشاق والمواجهات التي مرت بالدعوة السلفية في نجد، فقد بدأت بالموعظة الحسنة، ثم تدرجت شيئا فشيئا حتى وصلت لمرحلة الكفاح المسلح في مواجهة خصوم الدعوة، من الأمراء وشيوخ القبائل وزعماء العشائر، ثم قيام دولة الدعوة في نجد بالمشرق العربي وفي الهاوسا بالمغرب الأفريقي.
ثالثا: جهود الشيخ الإصلاحية
كانت دعوة الشّيخ عُثمان بن فُودي - رحمه الله - دعوة شاملة ومتنوِّعة، لامَست كل الجوانب الحياتيّة للمسلم الإفريقي، بناها على الأُسس القويّة لنهضة الإصلاح وتأسيس الدولة الإسلاميّة، لذلك كان من الطبيعي أن يواجه الشيخ في دعوته كثيرا من المواقف والاختلافات والتباينات بين الناس في سماع دعوته والتفاعل معها قبولا وردا. وكان محور محاربة البدع والتصدي للدخيل هو اللب الأساسي لدعوة الإمام عثمان، شغل حيزا كبيرا من إنتاجه العلمي والدعوي، فقد كان الإمام حريصا على العودة بالدين إلى ينابيعه النقية ومصادره الأصلية.فلقد كان الشيخ مهتما بمحاربة بدع العبادات المنتشرة في بيئته، وقام بتأليف رسائلَ دعا فيها إلى وجوب التّمسُّك بالسنّة وتَركِ ما خالفها من البدع والعوائد، من ذلك: كتابُه: (إحياءُ السنّة وإخماد البِدعة) و( بيانُ البدع الشّيطانية الّتي أحدثها النّاس في أبواب الملّة المحمّديّة)، وكتابُه: (سَوْقُ الأمّة إلى إتّباع السنّة)، وكتابُه (وثيقة الإخوان لتبيين دليلات وجوب إتّباع الكتاب والسنّة والإجماع).
وفي كتابه: (مصباح لأهل هذه الأزمان من أهل بلاد السّودان) عَقَد فَصْلاً بعنوان: (ترغيبُ النّاس على إتّباع السنّة واجتنابِ البِدعة)، استَفْتَحه بقوله: " اعْلَموا يا إخواني أنّ الصّحابة والتّابعين وتابعيهم قد بلغوا الغايَةَ في إتّباع السنّة واجتناب البدعة، فاتّبِعوا آثارَهم تَفُوزوا بخير الدّارين". ثم ساق آثار الصّحابة والتّابعين الدّالة على هذا المعنى قولاً وفعلاً، فيها التّأكيد على لزوم السنّة النّبويّة والتّمسك بها، والدّعوة إليها، وترك كلّ ما يجانبها ويُعارضها من البدع والمخترعات الدينيّة.
مع مراعاة التنبيه على أن الإمام - رحمه الله - قد وقع في ثناياه بعض كتبه توسع في اعتبار بعض المباحات من جملة البدع تقليدا منه للعلامة ابن الحاج صاحب المدخل، وهو كتابٌ رغم كون مؤلِّفه قد شَنَّ هجوماً شديداً على كثيرٍ من البدع المنتشرة بين المسلمين إلاّ أنّه لم يَخْلُ من إثباتِ بعض البدع وإقرارها، ومن ثَمَّ تأثَّر الشّيخ رحمه الله بذلك من خلال نُقوله الكثيرة عنه.وقد عدّ أموراً لا تُعدّ من البدع، تابع فيها ابن الحاجّ في (المدخل) كَجَعْلِه نَتْر الذَكَر بقوّة بعد البول بدْعةً محرَّمةً إجماعاً، وجعلِه الاستنجاءَ من الرِّيح، والتَّغوُّط عُرياناً وصبِّ الماء في الأذن حالَ الغسل، وصوتِ مجِّ الماء من المضمضة أثناءَ الوضوء، وبَسط الفُرش في المسجد، واتخاذ المراوح فيها، ونَسخ القرآن وكَتْب العلم، وتعليم الصّبيان فيها، كلّ ذلك وغيره جَعَلَه بدعةً.
وكما وقف الإمام عثمان موقفا حازما وقويا من البدع والخرافات وواجهها ببيانه ولسانه وسنانه، فقد وقف موقفا قويا حازما من آفة الجمود الفقهي والتعصب المذهبي، فالشَّيخ عثمان بن فودي - رحمه الله - رغم كونه مالكيا إلاّ أنه كان يكن إجلالاً واحتراماً لبقية المذاهب كلِّها، ولا يتعصَّب لمذهب دون آخر، ولا يجيز مخالفة نص ثابت من الكتاب والسنّة بدعوى وجُوب إتّباع مذهب بعينه، كما لا يرى للعالم أن يحصر نفسه في مذهبٍ واحد لا يخرج عنه ولو مع قيام الدّليل خلافه، كما يرى أن العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه.
وقد بين ذلك كله وفصله في كتابه "هداية الطّلاب". وله عدة رسائل بخصوص التمذهب والتقليد، مثل رسالة " نجم الإخوان "، و " تنبيه الحكام "، و" ترويح الأمة " وقد أفاض في هذه الرسائل في الحديث عن موقف العامي من إتباع مذهب بعينه، وتقليد العلماء، وما يباح منه وما لا يباح.
بالجملة كان الإمام عثمان بن فودي - رحمه الله - زعيما إسلاميا، ومجددا دعويا، وفقيها مجيدا، وعالما نحريرا، ومؤلفا موسوعيا، ومجاهدا صادقا، استطاع أن يبني أسس دولة دامت مدة قرن كامل (1804 ـ 1903 م)، عاما داعيا مجاهدا تشبعت نفسه بثقافة إسلامية واسعة، ومُنح من الصفات الخلقية، والمواهب العقلية، والشجاعة في الرأي، والصدق في الإيمان، والإخلاص في العمل، وحسن الموعظة، ما هيأه الله تعالى به ليقوم بدور المصلح الديني المجاهد في سبيل نشر الدين ومقاومة الكفر والوثنية، وقمع البدع والخرافات، وتخليص المسلمين من بني قومه مما كانوا عليه من الانحطاط في الأخلاق والسلوك وسوء الاعتقاد والجهل بحقائق الشرع، وشدة الفرقة والانقسام ، فكان مجدد الإسلام ودرة الزمان في الغرب الأفريقي.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم