وكيعُ بن الجرَّاح .. عابدُ العراق ومحدِّثُها

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

المحنة التي تعرَّض لها وكيع بن الجرَّاح، محنةٌ غريبة، تورَّط فيها، بمخالفته من حيث لا يدري للأصل المعروف عند أهل العلم، ألا وهو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وما يفهمون، وإن كان لم يُرِدْ إلا الخير، وأصلُ هذه المحنة يرجعُ إلى السنة التي حجَّ فيها وكيعُ بن الجرَّاح، فلمَّا علم الناس في مكة بمجيئه وهو حافظُ العراق، اجتمعوا عليه وعقدوا له مجلسًا في الحديث، فأخذ وكيعٌ في تحديثهم، فلمَّا وصل إلى الحديث الذي رواه..

 

 

 

 

اسمه ومولده وصفته

 

 

اسمه: وكيعُ بن الجرَّاح بن مليح الرؤاسيُّ، أبو سفيان الكوفيُّ, من قيس عيلان.

 

 

مولده: وُلد سنةَ تسع وعشرين ومائة, قال أحمد بن حنبل: "وقال خليفة, وهارون بن حاتم: وُلد سنة ثمان وعشرين. ورُوي عنه أنه قال: وُلدت بـ "أبة", قرية من قرى أصبهان.

 

 

صفته: قال الشَّاذكونيُّ: "قال لنا أبو نُعيم يوماً: ما دام هذا التِّنِّين حيَّاً؛ ما يُفلح أحدٌ معه".

 

قال الذَّهبيُّ: "كان وكيع أسمرَ, ضخماً سميناً".

 

 

وقال أبو داود: "كان أعور، وقال سعيد بن منصور: قدم وكيعٌ مكة, وكان سميناً فقال له الفضيل بن عياض: ما هذا السِّمَن, وأنت راهبُ العراق؟ قال: هذا من فرحي بالإسلام".

 

 

وعن أبي جعفر الجمَّال, قال: "أتينا وكيعاً فخرج بعد ساعة, وعليه ثيابٌ مغسولة, فلما بصرنا به؛ فزعنا من النُّور الذي رأيناه يتلألأ من وجهه, فقال رجلٌ بجنبي: أهذا ملك؟ فتعجَّبنا من ذلك النور".

 

 

وكان والده ناظراً على بيت المال بالكوفة, وله هيبة وجلالة.

 

 

ورُوي عن يحيى بن أيوب المقابُريِّ, قال: "ورثَ وكيع من أمِّه مائة ألف درهم".

 

 

ثناء العلماء عليه

 

 

قال محمد بن سعد: "كان ثقةً, مأموناً عالماً رفيعاً كثير الحديث, حجَّة عن يحيى بن يمان, قال: نظر سفيان إلى عيني وكيع, فقال: ترون هذا الرؤاسيَّ؟ لا يموت حتى يكون له شأن".

 

 

قال يحيى بن يمان: "مات سفيان الثوريُّ؛ فجلس وكيع بن الجرَّاح في موضعه".

 

 

وعن القعنبيِّ قال: "كنَّا عند حماد بن زيد, سنة سبعين, وكان عنده وكيع, فلمَّا قام قال: هذا راوية سفيان, فقال: هذا –إن شئتم– أرجحُ من سفيان".

 

 

عن أحمد بن أبي الحواريِّ، قال: "سمعتُ مروان, يقولُ: ما وُصف لي أيُّ أحدٍ, إلا رأيتُه دون الصفة, إلا وكيع؛ فإنَّه فوق ما وُصف لي".

 

وعن يحيى بن معين, قال: "واللهِ ما رأيتُ أحداً يُحدِّث لله غيرَ وكيع, وما رأيتُ رجلاً أحفظ من وكيع, ووكيعٌ في زمانه كالأوزاعيِّ في زمانه".

 

 

وعن جرير الرَّازيّ، قال: "قدمَ ابنُ المبارك, فقلت له: يا أبا عبدالرحمن مَن خلَّفت بالعراق؟ قال: وكيع, قلتُ: ثم من, قال: وكيع".

 

 

وقال محمد بن عامر المصيصيُّ: "سألتُ أحمد: وكيعٌ أحبُّ إليك، أو يحيى بن سعيد؟ فقال: وكيع. فقلت: كيف فضَّلته على يحيى؛ ويحيى ومكانه من العلم والحفظ, والإتقان, ما قد علمت؟ قال: وكيعٌ كان صديقاً لحفص بن غياث, فلمَّا ولي القضاء هجره, وإنَّ يحيى كان صديقاً لمعاذ بن معاذ, فلمَّا ولي القضاء, لم يهجره يحيى".

 

 

وعن عبد الرازق، قال: "رأيت الثَّوريَّ وابنَ عيينة ومعمراً ومالكاً، ورأيت ورأيت؛ فما رأت عيناي مثل وكيع".

 

 

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سمعت أبي يقول: كان وكيعٌ حافظاً حافظاً، ما رأيت مثله".

 

 

وقال بشر بن موسى: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما رأيتُ قطُّ مثل وكيع: في العلم, والحفظ, والإسناد, والأبواب, مع خشوع وورع".

 

 

قال الذهبيُّ: "يقولُ هذا أحمد مع تحرِّيه, وورعه, قد شاهدَ الكبار مثل هيثم, وابن عيينة, ويحيى القطان, وأبي يوسف القاضي, وأمثالهم".

 

 

وقال التِّرمذيُّ: "سمعت أحمد بن الحسن: سُئل أحمد بن حنبل عن وكيعٍ, وابن مهدي, فقال: وكيعٌ أكبر في القلب, وعبدالرحمن إمام".

 

 

وعن جرير قال: "جاءني ابن المبارك, فقلت له: يا أبا عبدالرحمن, من رجلُ الكوفة اليوم, فسكت عنِّي, ثم قال: رجُل المِصرَين وكيع".

 

 

وقال عبَّاس الدوري: "ذاكرت أحمد بن حنبل, بحديثٍ من حديث شعبة, فقال لي: من حدَّثك بهذا؟ فقلت: شبابة بن سوار. قال: لكن حدَّثني, من لم تر عيناك مثله؛ وكيع بن الجرَّاح".

 

 

وقال عليُّ بن عثمان النّفيليّ: "قلت لأحمد بن حنبل: إنَّ أبا قتادة يتكلم, في وكيع بن الجرَّاح , وعيسى بن يونس, وابن المبارك! فقال: من كذَّب أهلَ الصدق, فهو الكذاب".

 

 

وقال أحمد بن العجليِّ: "وكيعٌ كوفيٌّ, ثقةٌ, عابدٌ, صالح, أديب, من حفَّاظ الحديث, وكان مُفتياً".

 

 

قال أحمد بن خيثمة: "حدَّثنا محمد بن يزيد, حدَّثني حسين أخو زيدان، قال: كنتُ مع وكيع, فأقبلنا جميعاً من المصيصة أو طَرَسوس, فأتينا الشام, فما أتينا بلداً إلا استقبلنا واليها, وشهدنا الجمعة بدمشق, فلما سَلَّم الإمام, أطافوا بوكيع, فما انصرف إلى أهله يعني إلى الليل. قال: فحدَّث به مليحاً ابنه, فقال: رأيتُ في جسد أبي آثارَ خضرة مما زُحم ذلك اليوم".

 

 

سمعتُ عبد الصَّمد بن سليمان البلخيُّ: "سألتُ أحمد ابن حنبل, عن يحيى بن سعيد, وعبدالرحمن, ووكيع, وأبي نُعيم, فقال: وما رأيت رجلاً أروى بقوم من غير محاباة, ولا أشدَّ تثبُّتاً في أمور الرجال من يحيى بن سعيد, وأبو نعيم أقلُّ الأربعة خطأ, وهو عندي ثقةٌ موضع الحجة في الحديث".

 

 

وقال صالح بن أحمد: "قلت لأبي: أيُّهما أثبتُ عندك, وكيع أو يزيد؟ فقال: ما منهما بحمد اله إلا ثبت, وما رأيت أوعى للعلم من وكيع, ولا أشبهَ من أهل النُّسك منه, ولم يختلط بالسلطان".

 

 

عبادته 

 

عن يحيى بن أكثم، قال: "صحبتُ وكيعاً في الحضر والسفر، وكان يصومُ الدهر, ويختم القرآن كل ليلة".

 

 

قال الذَّهبيُّ: "هذه عبادةٌ يُخضعُ لها، و لكنَّها من مثل إمامٍ من الأئمَّة الأثريَّة مفضولةٌ, فقد صحَّ نهيُه –صلّى الله عليه وسلّم- عن صوم الدَّهر, وصحَّ أنَّه نهى أن يُقرأ القرآن في أقلِّ من ثلاث, والدِّين يسر, ومتابعةُ السنة أولى؛ فرضي الله عن وكيع, وأين مثل وكيع!"

 

 

وعن يحيى بن أيوب: "حدَّثني بعضُ أصحاب وكيع؛ الذين كانوا يلازمونه: أنَّ وكيعاً كان لا ينام حتى يقرأ جزأه من كلِّ ليلة, ثُلث القرآن, ثم يقومُ في آخر الليل, فيقرأ المفصَّل, ثم يجلس؛ فيأخذ في الاستغفار, حتى يطلع الفجر".

 

 

وعن أحمد بن سنان، قال: "رأيتُ وكيعاً؛ إذا قام في الصَّلاة, ليس يتحرَّك منه شيء, لا يزول, ولا يميلُ عن رِجلٍ دون الأخرى".

 

وعن سفيان بن وكيع, قال: "كان أبي يجلسُ لأصحاب الحديث من بكرة إلى ارتفاع النهار, ثم ينصرف, فيقيل, ثم يصلي الظهر, ويقصد الطريق منها إلى المشرعة؛ التي يصعد منها أصحاب الرَّوايا؛ فيريحون نواضحهم, فيُعلِّمهم من القرآن؛ ما يؤدُّون به الفرائض, إلى حدود العصر, ثم يرجعُ إلى مسجده؛ فيُصلِّي العصر, ثم يجلسُ يدرس القرآن, ويذكر الله إلى آخر النَّهار, ثم يدخل منزله؛ فيُقدَّم إليه إفطار؛ وكان يُفطر على عشرة أرطال من الطعام, ثم تُقدَّم إليه قربة فيها نحو من عشرة أرطال من نبيذ, فيشرب منها ما طاب له على طعامه, ثم يجعلها بين يديه, ثم يقوم, فيصلِّي ورده من الليل؛ كلَّما صلَّى شيئاً شرب منها, حتى يُنفدها و ثم ينام".

 

 

حفظه

 

 

عن إبراهيم بن الشَّمَّاس، قال: "لو تمنَّيت؛ أتمنىَّ عقل ابن المبارك, وورعه, وزهد ابن فضيل, ورِقَّته, وعبادةَ وكيع, وحفظه, وخشوعَ عيسى بن يونس, وصبرَ حُسين الجعفيِّ؛ لم يتزوَّج, ولم يدخل في شيءٍ من أمر الدنيا. (ترك الزواج مع القدرة عليه مخالف للهدي والفطرة، و لا يُحمد لذاته أبداً).

 

 

وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: "سمعت أبي وذكر وكيعاً, فقال: ما رأيتُ أحداً أوعى للعلم منه ولا أحفظ".

 

 

 

وعن بشر بن موسى، قال: "سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل, يقول: ما رأيت رجلاً قط مثلَ وكيع, في العلم والحفظ والإسناد, والأبواب, مع خشوعٍ وورع".

 

 

وعن عليِّ بن خشرم: "ما رأيتُ بيد وكيعٍ كتاباً قطُّ، إنما هو حفظ, فسألته عن أدوية الحفظ, فقال: إن علمتُك الدواء استعملته؟ قلت: إي والله, قال: تركُ المعاصي؛ ما جرَّبت مثله للحفظ!".

 

 

وعن يحيى بن معين قال: "ما رأيت أحفظَ من وكيع".

 

 

وقال أبو حاتم الرازيُّ: "وكيع أحفظ من ابن المبارك".

 

 

وقال إسحاق بن راهويه: "حفظي, وحفظ ابن المبارك تكلُّف, وحفظُ وكيع أصليٌّ, قام وكيع فاستند, وحدَّث بسبع مائة حديثٍ حفظاً".

 

 

قال ابن عمار: "ما كان بالكوفة في زمان وكيعٍ أفقهُ ولا أعلم بالحديث من وكيع, وكان جِهْبِذاً، سمعته يقول: ما نظرتُ في كتابٍ منذ خمس عشرة سنة إلا في صحيفةٍ يوماً! فقلت له: عدُّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث غلطتَ فيها. قال: وحدَّثتهم بعبادان بنحوٍ من ألفٍ وخمسِ مائة، و أربعةُ أحاديثَ ليست بكثيرة في ذلك".

 

 

قال يحيى بن معين: "سمعت وكيعاً يقول: ما كتبتُ عن الثوريِّ قطُّ، وكنت أحفظ, فإذا رجعتُ إلى المنزل كتبتها".

 

 

أدبه وكرمه

 

 

عن السَّائب سلم بن جنادة, قال: "جالست وكيعَ بن الجرَّاح سبع سنين؛ فما رأيتُه بزق, وما رأيتُه مسَّ والله حصاةً بيده, وما رأيته جلسَ مجلسه فتحرَّك, وما رأيتُه إلا مستقبلَ القبلة, وما رأيتُه يحلف بالله".

 

 

وعن محمد بن أبي الصَّباح، قال: "كان وكيع بن الجرَّاح إذا أراد أن يُحدِّث احتبى, فإذا احتبى سأله أصحابُ الحديث, فإذا نزعَ الحبوة لم يسألوه, وكان إذا حدَّث استقبل القبلة".

 

 

وروي عن وكيع: "أنَّ رجلاً أغلظ له, فدخل بيتاً فعفَّر وجهه, ثم خرج إلى الرجل, فقال: زد وكيعاً بذنبه, فلولاه ما سُلطت عليه".

 

 

عن سعيد بن عفير، قال: "أخبرني رجلٌ من أهل هذا الشَّأن, ثقةٌ, من أهل المروءة والأدب, قال: جاء رجلٌ إلى وكيع بن الجرَّاح, فقال له: إنِّي أمُتُّ إليك بحرمة! قال: ما حرمتك؟ قال: كنتَ تكتب من محبرتي, في مجلس الأعمش! قال: فوثب وكيع, فدخل منزله؛ فأخرج له صُرَّة, فيها دنانير, فقال: اعذرني؛ فإنِّي ما أملك غير هذا".

 

 

حدَّثنا أحمد بن سنان، قال: "كان أحمد بن مهدي لا يتحدَّث في مجلسه, ولا يقومُ أحد, ولا يُبرى فيه قلم, ولا يتبسم أحد, وكان وكيعٌ يكونون في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر من أمرهم شيئاً انتعل ودخل، وكان ابنُ نمير يغضب ويصيح, وإن رأى من يبري قلماً, تغيَّر وجهُه غضباً".

 

 

 اتِّباعه للسنة

 

 

قال أبو حاتم الرازيُّ: "حدَّثنا أحمد بن حنبل, حدَّثنا وكيعٌ بحديثٍ في الكرسيِّ, قال: فاقشعرَّ رجلٌ عند وكيع, فغضبَ وقال: أدركنا الأعمش والثوريَّ, يحدِّثون بهذه الأحاديث, لا يُنكرونها".

 

 

وعن يحيى بن يحيى التَّميميِّ: "سمعتُ وكيعاً يقول: من شكَّ أنَّ القرآن كلام الله –يعني غيرُ مخلوق– فهو كافر, وقال أحمد بن إبراهيم الدورقيُّ: سمعت وكيعاً يقول: نُسلِّم هذه الأحاديث؛ كما جاءت, ولا نقولُ كيف كذا؟ ولا لم كذا"، يعني حديث: "يحمل السَّماوات على إصبع".

 

 

دُررٌ من أقواله 

 

 

عن إبراهيم بن شمَّاس قال: "سمعت وكيع بن الجرَّاح يقول: من لم يأخذْ أُهبة الصلاة قبل وقتها؛ لم يكن وَقَّرَهَا".

 

 

قال وكيع:  "من تهاون بالتكبيرة الأولى؛ فاغسل يديك منه".

 

 

عن الفضل بن محمد البيهقيِّ، قال: "سمعت وكيعاً يقول –وقد جاء رجل يُناظره؛ في شيء من أمر المعاش, أو الورع- فقال له وكيع: من أين تأكل؟ قال: ميراثاً ورثته عن أبي, قال: من أين هو لأبيك؟ قال: ورثه عن أبيه. قال: من أين هو كان لجدك؟ قال: لا أدري, فقال له وكيع: لو أنَّ رجلاً نذر لا يأكل إلا حلالاً، ولا يلبس إلا حلالاً، ولا يمشي إلا في حلال؛ لقلنا له: اخلع ثيابك, وارمِ نفسَكَ بالفرات, لكن لا تجدُ إلا السَّعة".

 

 

 

ثم قال وكيع: "لو أنَّ رجلاً بلغ في ترك الدنيا, مثلَ سلمان وأبي ذرِّ وأبي الدَّرداء، وما قلنا له زاهداً؛ لأن الزهد لا يكونُ إلا على ترك الحلال المحض؛ والحلالُ المحض لا نعرفه اليوم؛ فالدُّنيا عندنا حلالٌ وحرام وشُبُهات, فالحلال حساب, والشُّبهات عتاب, فأنزلِ الدنيا بمنزلة الميتة, وخذ منها ما يُقيمك؛ فإن كانت حلالاً كنت قد زهدت فيها, وإن كانت حراماً كنت قد أخذت منها ما يُقيمُك؛ لأنَّه لا حِلَّ من الميتة, إلا قدرَ ما يُقيمُك, وإن كانت شُبُهات؛ كان فيها عتابٌ يسير".

 

 

وعن أحمد بن أبي الحواريِّ, قال: "سمعتُ وكيعاً يقول: إنما العاقلُ من عقل عن الله أمره, وليسَ من عقل أمر دنياه".

 

 

وعن عبدِ الله بن أحمد, قال: "قال وكيع: هذه بضاعة؛ لا يرتفعُ فيها إلا صادق".

 

 

وعن عليِّ بن خشرم, قال: "سمعتُ وكيعاً يقول: لا يكمُل الرجل حتى يَكتب عمَّن هو فوقه, وعمَّن هو مثله, وعمَّن هو دونه".

 

 

محنته

 

 

المحنة التي تعرَّض لها وكيع بن الجرَّاح، محنةٌ غريبة، تورَّط فيها، بمخالفته من حيث لا يدري للأصل المعروف عند أهل العلم، ألا وهو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وما يفهمون، وإن كان لم يُرِدْ إلا الخير، وأصلُ هذه المحنة يرجعُ إلى السنة التي حجَّ فيها وكيعُ بن الجرَّاح، فلمَّا علم الناس في مكة بمجيئه وهو حافظُ العراق، اجتمعوا عليه وعقدوا له مجلسًا في الحديث، فأخذ وكيعٌ في تحديثهم، فلمَّا وصل إلى الحديث الذي رواه عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهيِّ عن أبي بكر الصديق، أنه جاء إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فأكبَّ عليه، فقبَّله، وقال: "بأبي أنت وأمِّي، ما أطيبَ حياتك وميتتك" ثم قال عبد الله البهيّ: "وكان تُرِك يومًا وليلةً حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه" وهذا الحديث قد حُكم عليه بأنه منقطع ومنكر، وعِلَّته عبدُ الله البهيُّ، وهو مصعب بن الزبير، وهو لم يدرك أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-.

 

 

فلما سمعت قريشٌ هذا الحديث، هاجت وماجت، وظنَّ أهلُها أنَّ الحديث ينتقصُ من قدر النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- واجتمع رجالاتُ قريش عند واليها -وهو العثمانيُّ- وقرَّروا صلبَ وكيع بن الجرَّاح وقتله، وقد حبسوه استعدادًا لذلك، وقيل: إنَّ الخليفة هارون الرشيد كان حاجًا هذا العام، فلما علم بالخبر استفتى العلماء في شأنه، فأفتى ابن أبي روَّاد بقتله، واتَّهم وكيعًا بالنفاق والغشِّ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الإمام سفيان بن عيينة قال: "لا قتل عليه، رجلٌ سمع حديثًا فرواه" فتركوا وكيعًا وخلَّوا سبيله.

 

 

خرج وكيعٌ من مكة متجهًا إلى المدينة، وندم العثمانيُّ والي مكة على تركه بشدة، وقرَّر أن يقتل وكيعًا بأيِّ سبيل، فأرسل أهلُ مكة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع، وقالوا: إذا قدم عليكم، فلا تتَّكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه، فلمَّا عرف بعضُ علماء المدينة مثل سعيد بن منصور هذا الخبر، وعزم  أهل المدينة على قتل وكيع، أرسل إليه بريدًا عاجلاً أن لا يأتي المدينة، ويُغير مساره إلى طريق الرَّبذة، فلما وصل البريدُ إلى وكيع، وكان على مشارف المدينة عاد إلى الكوفة.

 

 

بعد هذه الحادثةِ لم يستطع وكيعُ بن الجرَّاح أن يذهب إلى الحجِّ مرَّةً أخرى، وحِيل بينه وبين مكة والمدينة، وخاض بعضُ الجهَّال في حقه، واتَّهموه بالتَّشيُّع والرفض، لكنه تجاسر سنة 197هـ وحجَّ بيت الله الحرام، فقدر الله -عزَّ وجلَّ- وفاته بعد رجوعه من الحجِّ مباشرة، فمات ودُفن بفيد على طريق الحج بين مكة والكوفة.

 

 

هذه المحنة التي تعرَّض لها وكيع بن الجرَّاح، وكادت أن تودي بحياته، وأثرت على سمعته، وأدَّت لمنعه من إتيان مكة والمدينة سنوات طويلة، إنَّما حدثت بسبب زَلَّة الإمام العالم نفسه، فما كان لوكيع بن الجرَّاح أن يروي هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، والقائمون عليه معذورون، ولرُبَّما كانوا مأجورين؛ لأنَّهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود انتقاصًا لقدر النبي -صلَّى الله عليه وسلم_، ولقد كان وكيع يتأوَّل هذا الخبر قائلاً: "إنَّ عدَّةً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم عمر بن الخطاب قالوا: لم يمت رسول الله، فأرادَ اللهُ أن يُريَهم آية الموت" ولو على فرض صحة الخبر، فليس فيه قدح في مقام النبوة، فعند التأمل فيه نجد أن الحيَّ قد يربو جوفُه وتسترخي مفاصلُه تحت تأثير الأمراض، والرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يُوعك كرجلين من الناس، وكانت الشَّقيقة تأخذ رأسه فيمكث اليوم واليومين لا يخرج للناس من شدة الوجع، وكما جاء في الخبر الصحيح: "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ"، والمحذورُ والممنوع في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء تغيُّر أجسادهم ورائحتهم وأكل الأرض لأجسادهم بعد موتهم، بل هم في أطيب ريحٍ من المسك، هو وسائرُ إخوانه الأنبياء أحياء في قبورهم.

وما سقناه من دفاع في الاعتذار عن إمام من أئمَّة المسلمين، إنما نقلناه بتصرُّف من دفاع إمام الحجاز سفيان بن عيينة، والحافظ الذهبي في سيره، وهذا لا يُغيِّر من حقيقة ثابتة يتعين على كل إمام وداعية وعالم أن يُراعيَها عند احتكاكه مع الناس، وتصدِّيه للدعوة والإرشاد والإفتاء والتعليم، لذلك كره أهلُ العلم رواية الآثار والأحاديث التي تؤدي إلى سوء فهمٍ أو تكريسِ بدعةٍ عند أصحابها، فكرهوا روايةَ أحاديثِ الكبائر وسلبِ الإيمان عن مرتكبها عند الخوارج، لأنهم يفهمون الأحاديث على وجه الخطأ، ولا يَعرفون مراد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيتَّخذون تلك الأحاديث ذريعةً ودليلاً على تكفيرهم للمسلمين، وكذا الأمرُ مع أحاديث الرجاء والمغفرة وفضل كلمة التوحيد عند المرجئة، والأمثلة على تلك القاعدة كثيرة، والعالم عندما لا يلتزم بتلك القاعدة، فإنه يجرُّ على نفسه وعلى غيره الكثير من المحن والبلايا.

 

 

وفاته 

 

 

قال عليُّ بن عثام: "مرض وكيعٌ فدخلنا عليه, فقال: إنَّ سفيان أتاني, فبشَّرني بجواره, فأنا مُبادر إليه".

 

 

قال أبو هشام الرُّفاعيُّ: "مات وكيع سنة سبع وتسعين ومائة, يوم عاشوراء, فدُفن بـ (فيد)؛ يعني راجعاً من الحج.

 

 

قال أحمد بن حنبل: "حجَّ وكيع سنة سبع وتسعين, ومات بـ (فيد)".

قال الذَّهبيُّ: "عاش ثماني وستين سنة سوى شهر أو شهرين". 

 

 

المراجع والمصادر

 

 

سير أعلام النبلاء.

الطبقات.

حلية الأولياء.

تاريخ بغداد.

تذكرة الحفاظ.

صفة الصفوة.

تهذيب الكمال.

تهذيب الأسماء واللغات.

البداية والنهاية.

المنتظم.

وفيات الأعيان.

شذرات الذهب.

من أعلام السلف.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات