استراتيجية التغلب على عوائق التغيير(2-2) الكبر

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: مقالات

اقتباس

وإذا تكبر المستمع على الخطيب، فهل يبادله الخطيب كبرًا بكبر (فالكبر على أهل الكبر صدقة) ؟! الجواب الحاسم: كلا؛ فإن الكبر كله مذموم، وما تكبر أنبياء الله على من عاندوهم من عتاة المستكبرين، بل رأفوا بهم وعالجوهم، وقد حرم الله -تعالى- الجنة على من في قلبه مثقال ذرة من كبر..

 

 

 

الخطيب المخلص البارع حياة لمدينته، حياة لحيه، حياة لمسجده، حياة لمن يستمعون إليه؛ يقف مكان النبي  -صلى الله عليه وسلم-  فيتكلم فينهلون من علمه، وينظرون إليه فيقتدون بسمته، ثم يسألونه فيستنقذهم الله به من ضلالة أو يصونهم به من غواية، أو يعرِّفهم به طريق هداية.

 

فالخطيب - إن أخلص - نعمة من الله على من حوله، كلما أخذتهم طرقات الدنيا وأسرتهم أهواؤها وألهاهم تكاثرها... ثم جاءوا فجلسوا أمامه أخرجهم - بتوفيق الله - مما حل بهم، وطهرهم الله به مما علق بقلوبهم من قذارات الدنيا، يذكِّرهم إذا نسوا، ويدعوهم إذا ابتعدوا، يأسوا جراحهم بكلمه، ويطبب أدواءهم بعلمه... هكذا يجب أن يكون الخطيب الحق.

 

لكن شرط انتفاع الناس بالخطيب: أن يسلِّموه القلوب والعقول، مُكْبِرين له متواضعين، لكن للأسف ليس كل الناس تفعل ذلك؛ بل منهم من هو ممتلئٌ عجبًا وكبرًا، منهم من يحرد ويعاند، منهم من يجادل بباطل، منهم من يترفع - جهلًا - ويتعالى... فهل يسلِمهم الخطيب وينفض يده منهم؛ لأنهم أعرضوا عنه؟

 

الجواب: لا، بل هو مسئول عمن تواضع وعمن تكبر، مسئول عمن وقَّره وعمن حقَّره، فقدوته نبي من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"([1])، يكره أن يكون عونًا للشيطان على إخوانه([2]).

 

وفيما يلي نقدم استراتيجية واضحة مؤصلة للتغلب على (الكبْر عند المتلقين) كعائق يحول بين الخطيب وبين مهمته الأساسية من الإصلاح والتغيير، وذلك استكمالًا لما بدأنا من تقديم استراتيجيات للتغلب على عوائق أخرى، وكان الأول:

 

العادة والتقليد.

 

والثاني: الجبن والقعود.

 

العائق الثالث: الكِبْر واحتقار الخطيب:

 

وهذا عائق خطير من عوائق التغيير، بل ربما هو أعقد وأشد العوائق التي تعترض طريق الخطيب، فإننا نلجأ إلى الخطيب لعلاج أدواء مستمعيه لما يكِنُّون له من احترام وتوقير وإجلال وحب يمكِّنه من النفوذ إلى قلوبهم والتأثير فيهم، لكن المصاب بهذا الداء من المتلقين مفتقد لهذا، فهو يحتقر الخطيب ويتكبر أن ينصت له! ويرد الحق ويأبى أن ينصاع له! فكيف يتصرف الخطيب حيال ذلك؟

 

بداية: لقد عانى الأنبياء والرسل من هذا العائق كثيرًا، فمما قال فرعون وقومه لموسى: (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) [المؤمنون: 47]، وقال فرعون مرة: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 52]، وقوم نوح قالوا: (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء: 111]، ولخطيب الأنبياء قالوا: (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) [هود: 91]، بل لسيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]...، وفي الجملة يقول الله –تعالى-: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [يس: 30].

 

فكلهم منعهم الكبر من قبول الحق! وكلهم يرفضون التغيير؛ لأن من جاءهم به -في نظرهم- دون المستوى!

 

وإذا تكبر المستمع على الخطيب، فهل يبادله الخطيب كبرًا بكبر (فالكبر على أهل الكبر صدقة) ؟! الجواب الحاسم: كلا؛ فإن الكبر كله مذموم، وما تكبر أنبياء الله على من عاندوهم من عتاة المستكبرين، بل رأفوا بهم وعالجوهم، وقد حرم الله -تعالى- الجنة على من في قلبه مثقال ذرة من كبر.

 

والآن لنرى أي استراتيجية تجدي في علاج هذا الداء الدوي، وتخطي هذا العائق العصي.

 

أولًا: تذكيره بأصله ومناتنه:

 

إنما يتكبر الإنسان إذا نسي أصل خلقته، وإذا غفل عما يحمل بين جنبيه من نتن، وأنجع علاج لذلك هو علاج استخدمه القرآن واستخدمته السنة؛ أن يُذكَّر المتكبر بأصل خلقه وبمناتنه، فإن ذلك يقتلع كبره.

 

فأما القرآن فيخاطب المتكبر من البشر قائلًا: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [المرسلات: 20]، ومرة أخرى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [يس: 77]، أي: مجادل بالباطل كبرًا، وقد "خلقه من نطفة قذرة ليكون منقادًا متذللًا، فطغى وتكبر وخاصم"([3])، "والمعنى: العجب من جهل هذا المخاصم مع مهانة أصله... كيف لا يتفكر في بدء خلقه وأنه من نطفة قذرة ويدع الخصومة"([4])، و"فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان، وفي ذلك أعظم ردع، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم"([5]).

 

ونفس الأسلوب استخدمه النبي  -صلى الله عليه وسلم- فعن بسر بن جحاش القرشي، أن رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-  بصق يومًا في كفه فوضع عليها أصبعه، ثم قال: "قال الله: بني آدم، أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد!"([6]).

 

وهو منهج اتبعه الخطباء والحكماء في كل عصر، فهذا الأحنف بن قيس وكان يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره، فجاء يومًا ومصعب مادٌ رجليه فلم يقبضهما، وقعد الأحنف فزحمه بعض الزحمة فرأى أثر ذلك في وجهه، فقال: "عجبًا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين!".

 

وقال الحسن: "العجب من ابن آدم يغسل الخرء بيده كل يوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار السموات"! ...

ويروى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب وهو يتبختر في جبة خز فقال: "يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله، فقال له المهلب: "أما تعرفني!" فقال: "بلى أعرفك؛ أولك نطفة مذرة، وآخرتك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة"، فمضى المهلب وترك مشيته تلك ([7])".

 

لو فكر الناس فيما في بطونهم***ما استشعر الكبر شبان ولا شيب

 

يا ابن التراب ومأكول التراب غدًا***أقصر فإنك مأكول ومشروب

 

وهكذا ينبغي للخطيب أن يفعل مع كل متكبر، أن يعالجه بتذكيره مما خُلق، وإلى ما يصير، فإن ذلك كفيل أن يطرد عنه الكبر، إن امتلك شيئًا من عقل.

 

ثانيًا: تصحيح نظرة الناس إليه؛ لتتعدل معاملتهم له:

 

إن السبب الأكثر شيوعًا للتكبر هو: (توقير الناس المبالغ فيه للمتكبر)؛ بسبب سلطانه أو ماله أو علمه أو عبادته أو حسبه... مما ينشئ في صدر الغافل انطباعًا يقول: "لولا استحقاقي لهذا؛ لفضلٍ عظيم أحوزه، ما احتفوا بي كل هذا الاحتفاء"، وهذا ما خافه الصالحون على أنفسهم، فعن الحسن أن أناسًا مشوا خلفه فالتفت إليهم قائلًا: "رحمكم الله ما يُبقي هذا من مؤمن ضعيف!"([8]).

 

وهذا هو ما دفع الفضيل أن يقول: "إن استطعت ألا تكون محدثًا، ولا قارئًا، ولا متكلمًا فافعل؛ فإنك كنت بليغًا، قالوا: ما أبلغه، وأحسن حديثه، وأحسن صوته! فيعجبك ذلك، فتنتفخ"([9]).

ولذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-  قائلًا: "إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب"([10]).

 

والمشكلة: أن الناس دائمًا وأبدًا ما ينبهرون بالمظاهر ويغترون بها، فيمتدحون صاحبها فيردونه المهالك، لذلك صحح النبي  -صلى الله عليه وسلم-  ذلك الخطأ الذي يؤدي إلى البلاء، فعن سهل بن سعد قال: "مر رجل على رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-  فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"([11]).

 

نعم، هكذا قلب النبي  -صلى الله عليه وسلم-  موازينهم رأسًا على عقب، "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره"([12]).

 

فعلى الخطيب أن يعدِّل للناس مقاييسهم ومعاييرهم التي يزنون بها أقدار الرجال؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، وعليه أن يعلِّمهم الاعتدال في التعبير عن إعجابهم، فلا يبالغون ولا يجزمون بصلاح، وينبههم أن ذلك يضر الممدوح..."من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه"([13]).

 

فإذا نجح الخطيب في ذلك، فكوَّن بيئة واعية حول المتكبر تنزله منزلته ولا ترفعه فوقها، فقد نجح في واحدة من أهم خطوات علاجه.

 

ثالثًا: التنبيه إلى المعاملة بخلاف المقصود:

 

إنما يتكبر المتكبر؛ لنيل الشرف والمكانة وإعزاز نفسه بتعاظمه... هكذا يظن، وعلاجه أن نوقظه من غفلته على حقيقة الأمر، وهي: أن الجزاء من جنس العمل، وأنه يُعامل بخلاف مقصوده، فإن علا بنفسه انحط عند الله وعند الناس، وإن تواضع ارتفع.

 

ودليل الثانية قوله  -صلى الله عليه وسلم- : "وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"([14]).

 

وأما الأولى: فالمتكبر يُعامل بخلاف مقصوده في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيسقط من أعين الفضلاء ويتصاغر في قلوبهم، وقد قالوا: "إن المتكبر مثل رجل فوق جبل يرى الناس صغارًا، ويرونه صغيرًا"، وقالوا: "المتكبر كالطائر، كلما ارتفع صغر في عيون الناس"، ولقد أدرك ذلك الشاعر الذي قال:

 

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر***على صفحات الماء وهو رفيع

 

ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه***على طبقات الجو وهو وضيع

 

وإن احتفى به أناس من الجهلاء، فهم من المنتفعين بسلطانه أو ماله... فما إن يزول عنه ذلك أو ييأسوا من نواله، حتى ينفضوا عنه ويلعنوه!

 

بل لقد عُذب أحد المعجبين المتكبرين عذابًا دنيويًا خاصًا، يخبرنا به -صلى الله عليه وسلم-  فيقول: "بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة"([15]).

 

هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فجزاؤه أيضًا من جنس عمله، وسيلقى نقيض مراده، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  ينقل إلينا شيئًا من جزائه الأخروي قائلًا: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال"([16]).

 

فإن أبرز الخطيب ذلك، وقرره بوسائل التكرار المتنوع الهادف، حتى عرف طريقه إلى قلب المتكبر، فتلك خطوة جديدة مهمة على طريق العلاج.

 

رابعًا: تجاهل المتكبر والإعراض عنه:

 

تتفاوت درجات التكبر، وتختلف طبائع المتكبرين، فمنهم من تجدي معه إحدى الوسائل التي مرت، لكن منهم من لا يتأثر إلا بالإعراض والتجاهل حينًا، وقد قال الله –تعالى-: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، والمتكبر من الجاهلين.

 

وهذا التجاهل والإعراض دواء، ولكل دواء جرعة محددة تختلف حسب شدة المرض، فإن زادت بلا داع أضرت.

وقد قرأنا في كتاب الله -عز وجل-  تلميحات عديدة إلى هذا الدواء؛ من المعاملة بالمثل، منها ما حكاه الله -عز وجل-  عن نوح وقومه: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود: 38]، قال القرطبي: "ومعناه: إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا"([17]).

 

(والتكبر حرام) على كل أحد؛ لأنه عظيم الآفات ومنبع أكثر البليات... (إلا على المتكبر) من الناس؛ فالتواضع على المتكبر ليس بجائز"([18]).

 

قال المناوي: "إذا أغضبك أحد لغير شيء فلا تبدأه بالصلح؛ لأنك تذل نفسك في غير محل، وتكبر نفسه بغير حق، ومن ثم قيل: الإفراط في التواضع يورث الذلة"...

 

وفي أثر: "الكبر على المتكبر صدقة"؛ لأن المتكبر إذا تواضعت له تمادى في تيهه، وإذا تُكُبِّر عليه يمكن أن ينبه"([19]).

وقد سئل ابن المبارك عن التواضع ما هو؟ فأجاب: "التكبر على المتكبرين"([20]).

 

إذا تاه الصديق عليك كبرًا *** فته كبرًا على ذاك الصديق

 

فإيجاب الحقوق لغير راع ***حقوقك، رأس تضييع الحقوق([21])

 

ومعلوم أن المقصود بالكبر هنا ليس: "بطر الحق، وغمط الناس"(22) ، كما عرَّفه  -صلى الله عليه وسلم-، وإنما المراد: مجرد الإعراض والتجاهل لفترةٍ ما، بنية التقويم والعلاج، وإنما سمي كبرًا من باب المشاكلة، كما قال الله -عز وجل-: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: 40]، وإلا فقد اتفقنا أن الكبر كله مذموم.

 

وليكن التجاهل والإعراض من الخطيب على من تكبر عليه تجاهلًا مدروسًا مخططًا له؛ فيتجاهله طالما شمخ بأنفه وصعَّر له وجهه، ويستجيب له في تحفظ إن لمس منه بادرة تراجع وتواضع، فإن من المتكبرين من يُكْبِرون ويجلُّون من أعرض عنهم ويحاولون تملقه والتودد إليه! ولا عجب فإن المتكبر غير سوي النفس.

 

وحتى وإن لم يتودد أو يتملق، فكفى أن يشعر أن من الناس من لا يأبه به ولا بما يتكبر به من مالٍ أو جاهٍ أو سواهما، ولقد جاء ابن لسليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاووس فلم يلتفت إليه، فقيل له، جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه! قال: "أردت أن يعلم أن لله عبادًا يزهدون فيما في يديه"([22]).

 

خامسًا: التحذير والتهديد والتشديد:

 

لقد قالوا: "آخر الدواء الكي"، فبعد أن تستنفذ كل وسائل الإصلاح والعلاج ثم لا تجدي، يبقى التوبيخ والتقريع والشدة والوعيد والتهديد، ذلك أن المصاب بهذا المرض العضال قد يحتاج إلى من يهزه هزًا أو يقرعه تقريعًا أو يعنفه تعنيفًا؛ ليفيق من غفلته ويُنتزع من سكرته.

 

وليس أدل على جدوى ذلك من أن استخدمه النبي -صلى الله عليه وسلم- فعن سلمة بن الأكوع أن رجلًا أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  بشماله، فقال: "كل بيمينك"، قال: لا أستطيع، قال: "لا استطعت"، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه([23])، "ودعاؤه على الرجل إنما هو؛ لكبره الحامل له على ترك الامتثال"([24]).

 

ونتساءل: لما دعا عليه الرحمة المهداة -صلى الله عليه وسلم-  فشلت يده، مع أنه لم يكن منافقًا كما قرر النووي([25])؟ والجواب: أن في ذلك غاية الرحمة بذلك الرجل؛ فما جرى ليده ما هو إلا هزة وزلزلة له؛ ليتوب من كبره الذي تجاوز حده حتى تكبر على أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وإنه لو استمر عليه؛ لتكبر على أوامر الله -عز وجل- فكفر! والعياذ بالله.

 

وإن لم يصل إلى الكفر أليس قد توعد الله المتكبر بالنار: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدًا منهما، ألقيته في جهنم"([26])، أليس قد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر"([27])، ففي الدرس الذي لقنه النبي -صلى الله عليه وسلم-  للرجل إنقاذًا له من عذاب جهنم ومن الحرمان من الجنة، وهذي غاية الرحمة، وإن كان في الوسيلة شيء (لازم) من الشدة أوجبه تمادي الرجل في كبره.

 

ولا نطلب من الخطيب أن يدعو على المتكبر كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-  فإن ذلك كان -كما وضحنا توًا- زلزلةٍ وعقوبةٍ لدفع خطر عظيم؛ فإن التكبر على أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-  ليس كالتكبر على أمر خطيب من الخطباء!

 

وإنما للخطيب أن يخوِّف ويتهدد ويتوعد بمثل ما مر من أحاديث ترهِّب من شؤم الكبر وعقوبته، ثم بتحقير لشأن المتكبرين وتشبيههم بكل دنيء... فينزل كل هذا كالصواعق تزلزل الكبر داخل قلب المتكبر حتى تقتلعه، وكما قلنا: (آخر الدواء الكي).

 

-----

([1]) البخاري (3477)، ومسلم (1792).

([2]) انظر ما صنع الفاروق عمر مع من شرد، حلية الأولياء لأبي نعيم (4/97)، الناشر: السعادة مصر، 1394هـ.

([3]) تفسير القاسمي (8/195)، بتصرف يسير، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ.

([4]) تفسير الخازن (4/13)، بتصرف يسير، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الأولى، 1415هـ.

([5]) أضواء البيان للشنقيطي (2/331)، الناشر: دار الفكر لبنان، 1415هـ.

([6]) رواه أحمد (17844)، وابن ماجه (2707)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 1099).

([7]) الإحياء للغزالي (3/338 و340)، الناشر: دار المعرفة بيروت.

([8]) الزهد الكبير للبيهقي (148)، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الثالثة، 1996.

([9]) سير أعلام النبلاء (8/433) بتصرف، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1405 هـ.

([10]) رواه مسلم (3002).

([11]) رواه البخاري (5091).

 ([12]) رواه الترمذي (3854) ، والبزار (6459) ، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي: 3854).

 ([13]) رواه البخاري (2662) ، ومسلم (3000).

([14]) رواه مسلم (2588).

([15]) رواه البخاري واللفظ له (5789) ، ومسلم (2088).

([16]) رواه الترمذي (2492) ، والبخاري في الأدب المفرد (557) ، وحسنه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي: 2492).

([17]) تفسير القرطبي (9/33)، الناشر: دار الكتب المصرية، الطبعة الثانية، 1384هـ.

([18]) بريقه محمودية لمحمد الخادمي (2/186)، الناشر: مطبعة الحلبي، الطبعة: بدون طبعة، 1348هـ.

([19]) فيض القدير للمناوي (4/277)، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى مصر، الطبعة الأولى 1356هـ.

([20]) قوت القلوب لأبي طالب المكي (2/88)، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الثانية، 1426ه.

([21]) محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (1/325).

([22]) سير أعلام النبلاء للذهبي (5/42)، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1405هـ.

([23]) رواه مسلم (2021).

([24]) فيض القدير للمناوي (1/298)، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى مصر، الطبعة: الأولى، 1356هـ.

([25]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (13/192)، دار إحياء التراث العربي بيروت، الطبعة الثانية 1392هـ، وقد خالف في ذلك الفضيل بن عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/487)، دار الوفاء مصر، الطبعة الأولى 1419هـ.

([26]) رواه ابن ماجه (4174)، وأبو داود (4090)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن ابن ماجه: 4174).

([27]) رواه مسلم (91).

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات