اقتباس
في ظل التغيرات التي تشهدها البشرية بقوة، في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي ظل المواقف المتغيرة، والأحداث المتسارعة، فإن الخطيب الفاعل أصبح في بؤرة هذه الأحداث جميعها، يرصدها ويحللها، يوصفها، ويؤصلها، ويضع لها الضوابط والحلول الشرعية، فديننا يصلح به الزمان متى كان، والمكان أينما كان " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" (الملك:14 ).
فالتغيرات تطال البناء الاجتماعي وتهزه بقوة، تفضي إلي إحداث تغيرات في كافة أنظمته أخلاقية واقتصادية وتعليمية، وسياسية، ولعلها تكون من الخطورة بمكان في مجتمعاتنا الإسلامية التي يفترض أن تدور أفرادا وجماعات وحكاماً، مع شرع الله، أمراً ونهياً، حلالاً وحراماً، مما يثقل كاهل الداعية بمسئوليات ومهام دعوية طارئة، لم يعهدها من قبل، وعليه هو قيامًا بمسئولية البلاغ أن يبادر إلى بيان أحكام هذه الإفرازات والمستجدات في كافة المجالات الحياتية، إنطلاقاً من قوله تعالى:
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب:39]
إن مثل هذه الأمور تنقلنا إلى الحديث عن إستراتيجية التفكير الناقد لدي الخطيب
ونقتصر خلال هذه المقالة على العناصر التالية:
أولاً: تعريف التفكير الناقد.
ثانياً: أهمية التفكير الناقد للخطيب.
ثالثاً: خصائص الخطيب الناقد.
رابعاً: تطبيقات من القرآن والسنة على التفكير الناقد.
أولاً: تعريف التفكير الناقد:
يبدو للوهلة الأولى لمن أراد مراجعة تعريفات التفكير الناقد، أن هناك كثرة تراكمية تتسم بالتنوع والتعدد والتكامل والمنهجية، مما يثرى حقل المعرفة، ويساهم في دفع عملية البحث حول موضوع التفكير الناقد وتطبيقاته المختلفة، فبمراجعة التراث العلمي الذي خلفته أجيال العلماء السابقة، يجد أن موضوع التفكير الناقد كان محل اهتمام ودراسة منذ قرون طوال.
فسقراط أسماه ب "الحياة المتفحصة" وكانت هذه مرحلة غلبت فيها نزعة التفكير الفلسفي، وتعد محاولة جون ديوي (John Dewey) في عام (1938) من المحاولات الأولى في تعريف التفكير الناقد حيث عرّفه بأنه: تفكير انعكاسي (Reflective) يرتبط بالنشاط والمثابرة، وهو تفكير حذر بالمعتقدات أو بالمتوقع من المعرفة بوجود أرضية حقيقية تدعمها بالاستنتاج. كما يرى جون ديوي أن التفكير الناقد بشكل عام يشمل التقييم للقيم، ومدى الثقة بالقضايا أو الفرضيات، ويقود إلى حكم أو اتجاه مدعوم بالعمل.
فيما يعرفه نورس (Norris, 1985) في تعريفه للتفكير الناقد على أنه مجموعة من الاعتبارات المتعددة التي توجه المتعلم لأخذ وجهات نظر لآخرين بعين الاعتبار، وتوجهه للبحث عن وجهات نظر بديلة، بهدف تكوين وجهة نظر خاصة به.
فيما يرى باير (Bayer, 1998) أن التفكير الناقد يتضمن مجموعة من العمليات التي تستعمل منفردة أو مجتمعة، أو بأي تنظيم آخر، لكنه أكثر تعقيداً من مهارات التفكير الأساسية، فالتفكير الناقد من وجهة نظره، يبدأ بادعاء أو نتيجة معينة، حيث يسأل عن مدى صدقها، أو جدارتها، أو أهميتها أو دقتها، كما يتضمن طرقاً للتفكير تدعم حكمه، ويؤكد باير أن التفكير الناقد ليس مرادفاً لصنع القرارات أو حل المشكلات أمّا "أنيس"
1998) (Ennis, فيرى أن التفكير الناقد هو التفكير التأملي والاستدلالي الذي يركز على اتخاذ القرارات. في حين أشار بول (Paul, 1995) إلى التفكير الناقد على أنه
يعني تصحيح التفكير في مسعى المعرفة المعنية والموثوقة حول العالم.
أمّا الباحث المعرفي ستيرنبريج (Sternberg, 2004) فيشير إلى أن التفكير الناقد يتضمن مجموعة من العمليات العقلية (الذهنيـة) والاستراتيجيات والتمثيلات التي يوظفها المتعلمون لحـل المشكلات، والعمل على صُنع القرارات، وتعلم مفاهيم جديدة.
وخروجا من هذا الخلاف حول مفهم التعريف الناقد قام مجموعة من الخبراء والباحثين المهتمين بموضوع التفكير الناقد، من مختلف التخصصات بمحاولة لوضع تعريف جامع ينهي الخلاف حول مفهوم التفكير الناقد، برعاية الجمعية الفلسفية الأمريكية، وقد توصلت هيئة الخبراء على مدار سنتين من البحث إلى تعريف شامل لمفهوم التفكير الناقد على النحو الآتي (Facione, 1998):
نحن نفهم التفكير الناقد على أنه حكم منظم ذاتياً يهدف إلى التفسير، والتحليل والتقييم، والاستنتاج، وإلى جانب ذلك فإنه يهتم بشرح الاعتبارات المتعلقة بالأدلة والبراهين، والمفاهيم، والطرق والمقاييس والتي يستند إليها الحكم الذي تم التوصل إليه. ويعد التفكير الناقد أداة أساسية للاستقصاء، وضمن هذا المفهوم فإن التفكير الناقد يعد قوة تحريرية في مجال التربية، ومصدراً غنياً في حياة المرء الشخصية.
يكون المفكر الناقد في الغالب شخصاً محباً للمعرفة، ويتمتع بسعة الاطلاع، ويستند ويثق بالمنطق، ويتصف بالمرونة، وسعة الأفق، ولديه الرغبة في إعادة النظر، واضح الرؤية للقضايا المطروحة عليه، يلتزم بالنظام في معالجة المسائل والقضايا المتعددة، ويبذل جهداً في البحث عن المعلومات ذات الصلة بالموضوع المطروح للبحث، ويتبع المنطق في اختيار المعايير، ويبدي تركيزاً عالياً في عملية الاستقصاء، إذ يكون مثابراً في عملية البحث عن نتائج دقيقة بما تسمح به ظروف البحث. إنّ العمل على تعليم وإيجاد مفكرين نقديين يقتضي بالضرورة العمل باتجاه المثل العليا، وهذه العملية تجمع بين تطوير مهارات التفكير الناقد ومن ثم تغذية تلك الميول التي تعد أساس المجتمعات المتقدمة.(1)
ثانياً: أهمية التفكير الناقد للخطيب:.
يُساعد الخطيب على إنجاز برامج ومواد دعوية( إلقاء- جمع وتأليف – تدريب) بصورة منهجية موثقة وخالية من التناقض.
يُنمي من الحس الاجتماعي للخطيب فتتكون لديه ملكة ومهارات الإحساس بمشكلات الأفراد والجماعات والمجتمع عامة.
يكتسب الخطيب من خلال التفكير الناقد مجموعة من المهارات الأخرى مثل: التحليل والمناقشة، والاستنتاج والاستدلال، والاستنباط ومثل هذه المهارات لازمة لإصدار الفتاوى واستنباط الأحكام التي قد تعرض على الخطيب.
وعلى مستوى العلاقات مع الآخرين يكتسب الخطيب اتخاذ القرارات الآمنة، والتنظيم، والمرونة والتواصل، والتفاوض الذكي مع الذات ومع الآخرين.
يساعد الخطيب على ممارسة النقد الذاتي لنفسه وتقييم منجزاته.
يساعد الخطيب على خلق بيئة دعوية ملائمة لرسالته الدعوية داخل المسجد وخارجه
ينمي مهارة التعلم الذاتي والتواصل مع مصادر المعلومات.
ثالثاً: خصائص الخطيب الناقد:
لدية رؤية واضحة مستقاة أولا من علوم الشريعة وثانيا من مجموعة العلوم الإنسانية والطبيعية يحكم من خلالها على مختلف الأفكار.
يستطيع تكوين مجموعة من الأسئلة حول موضوع ما تكون نواة لدرسه وتحليله.
لدرية القدرة على الحكم والفصل فيما يعرض عليه من مناقشات أو مجادلات أو خصومات دون أن يتفاعل معها.
الثقة بالنفس والثبات والتآزر النفسي, والقدرة على التحكم في الانفعالات.
لا يخجل من الاعتراف بالجهل أو الخطأ.
تقبل النقد من الآخرين
عدم شخصنة القضايا المثارة.
لا يصدر حكما دون دليل.
رابعاً: تطبيقات من القرآن والسنة على التفكير الناقد:
التفكير بصفة من السلوكيات التي دعا القرآن الكريم إلى ممارستها، وحث عليها وجعلها من الوسائل التي تهدي إلى الحق، وقد حوت آيات الذكر الحكيم الكثير من مثل هذه الدعوات، وصورت لنا الكثير من المواقف منها على سبيل المثال لا الحصر.
موقف سيدنا إبراهيم عليه السلام مع النمرود وجاء في سورة البقرة
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:258]
وموقفه مع قومه:
(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ *قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء]
موقف سيدنا يوسف عليه السلام مع صاحبي السجن:
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف]
رد النبي – صلى الله عليه وسلم - على موقف منكري البعث بعد الموت، من خلال موقفه ورده على أبي بن خلف:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)
قال المفسرون: إن أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائِل [قد بلي] فقال: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم؟ فقال: نعم ويبعثك ويدخلك النار، فأنزل الله تعالى هذه الآيات:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)
أخبرنا سعيد بن محمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن الجنيد، قال: حدَّثنا زياد بن أيوب، قال: حدَّثنا هشيم قال: حدثنا حصين عن أبي مالك: أن أُبيّ بن خَلَف الجُمْحِيّ جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم حائل فَفَتَّهُ بين يديه وقال: يا محمد يبعث الله هذا بعد ما أَرَمَّ؟ فقال: نعم يبعث الله هذا ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم. فنزلت هذه الآية.(2)
ومن أمثلة التفكير الناقد التي جاءت في السنة المطهرة:
عن النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا".البخاري: 2493
------------
(1) مستوى مهارات التفكير الناقد لدى طلبة كلية العلوم التربوية الجامعية (الأونروا) ، توفيق مرعي، محمد بكر نوفل.
بحث منشور بمجلة المنارة، المجلد 13، العدد 4.
(2) أسباب النزول للسيوطي.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم