اقتباس
قد يُحسِن الخطيب تحديد أهدافه ثم ينجح في ترتيب أولوياته، لكنه قد يأتي ليعرض فكرته -التي حدَّدها وقدَّمها على غيرها- فيسيء العرض والطرح، فقد يُجْمِل ما حقه أن يُفصَّل أو العكس، ويُقدِّم ما حقه أن يؤخَّر أو العكس، أو يخلط ما بين الأفكار ويبعثرها وينثرها نثرًا، أو يؤاخيها بلا نسب ولا رابط بينها! حتى لا يدري السامع إلى ما يرمي خطيبه أو ما الذي يريد أن يوصله؟!
كم عدد الخطباء الذي يعتلون المنابر كل جمعة، ويخطبون ويعظون، ويرفعون الصوت ويخفضون، ويمدحون أو يذمون ثم ينزلون؟ إنهم كثير قد لا يُحصَون ولا يُعدُّون، لكن: كم من هؤلاء الخطباء هم المؤثرون الذين يقودون الجموع فتستسلم لهم في خضوع؟ إنهم قليل جد قليل!
وما السبب؟! فإن جميعهم يحضِّرون الخطب ويدبجون، وكلهم على المنابر يصولون ويجولون! فما السبب أن القليل منهم فقط هم المؤثرون المقنعون؟!
السبب: أن من الخطباء من يأخذ بأسباب الإقناع ويتقن أساليبه، ويسير وفق خطة إقناعية مدروسة، تدربوا عليها حتى تمرسوا فيها، أخذوا بالأسباب وجدُّوا وتعبوا ونصبوا، حتى جنوا الثمار تميزًا ونجاحًا وبراعة وإتقانًا وتأثيرًا.
أما البعض الآخر من الخطباء -وهم الأكثر عددًا- فلا يأخذون لذلك بأسباب ولا يسلكون له طرقًا ولا يتقنون له أساليب، بل يسيرون في خطاباتهم -لا أقول بعفوية وارتجالية- بل بعبثية وفوضوية! فيتكلمون كما اتفق، ويجمعون مواد الخطبة كما اتفق، ويستخدمون من الأساليب ما سنح! فلا على خطة يمضون ولا وفق منهجية يدعون، فتخيل؛ إن كان هذا هو البذر فكيف تكون الثمار؟!
درجنا على فوضى أضاعت جهودنا***وغالوا بترتيب الجهود وأقدموا
وقد يرجع الحق المشوش خائبًا***وينتصر البطلان وهو منظم
ولئن سألتني: وكيف نطرد عن أنفسنا الفوضوية ونخطو خطوات عملية مدروسة علميًا؟ أجبتك: لا بشيء أهم -بعد تحضيرك لقلبك([1])- من تجهيزك لعقلك؛ بتنظيمه وترتيبه، وهذا نوع من أنواع التخطيط.
ولو أعدت السؤال هنا: وكيف أضع أساسًا لعقلي؟ وأحسن التخطيط لخطبي؟ أجبتك: ذلك بأمور منها: "تحديد الأهداف"، ثم "ترتيب الأولويات"، ثم: "التسلسل المنطقي للأفكار".
أولًا: حدد أهدافك:
ويتلخص ذلك -بالنسبة لنا معاشر الخطباء- في الإجابة على السؤال التالي: ماذا أريد من الناس؟ والإجابة: أستهدف أمرين:
1-الهدف العام: إن قلنا: إن الهدف العام الأشمل لكل خطيب هو: "أن يُقِيْم حال الناس على شرع الله"، فإن طريقة هذه الإقامة على الشرع تختلف من مجتمع إلى مجتمع تبعًا لاختلاف حاله، فإن كان المجتمع الذي يخطب فيه مجتمعًا مترفًا غارقًا في الشهوات وغافلًا بمتاع الدنيا فإقامته على شرع الله بتحقير الدنيا في عينيه والتذكير بزوالها وفنائها وأنها إذا حَلَتْ أوحلت والتنبيه على شؤم عاقبة الشهوات.
وإن كان مجتمعًا متمردًا على شرع الله متأثرًا بالمذاهب الفكرية الضالة، فإقامته على شرع الله -تعالى- بزلزلة أصول تلك المذاهب وبيان فسادها ومحادتها لثوابت الدين، وإن كان مجتمعًا جاهلًا بالدين وأصوله، فإقامته على الشرع بتعليمه وتثقيفه.
وكلما كان هذا الهدف واضحًا في ذهن الخطيب متأصلًا في فؤاده كلما أسهم إسهامًا عظيمًا في قيادة الكلمات وصياغة الجمل وتوجيهها الوجهة التي تخدم الهدف العام، ولعلنا نلحظ ونحس بذلك في كلمات ربعي بن عامر لرستم: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله"، قالوا: وما موعود الله؟ قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي".
فإن ربعيًا يدرك هدفه وغايته وبغيته تمام الإدراك، وقد انطبع ذلك ثقة وثباتًا ورصانة وصدقًا ووضوحًا على كلماته الخطابية الفتية القوية التي وجدت طريقها إلى عقل مخاطبه -وإن كان من أعدائه-؛ فقد اجتمع رستم برءوساء قومه فقال: "هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟" فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: "ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة"([2]).
ووضوح الهدف العام يحمي ويعصم صاحبه من الانحراف عن غايته، ومن الانجراف وراء غيرها من الأمور التي تعارض هذا الهدف وتعرقله، ولنزيد مقصدنا وضوحًا هلما نتدبر هذه القصة التي يرويها علي -رضي الله عنه- فيقول: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية، وأمَّر عليهم رجلًا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبًا، وأوقدتم نارًا، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبًا فأوقدوا نارًا، فلما هموا بالدخول، فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: "إنما تبعنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فرارًا من النار، أفندخلها؟!" فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف"([3])؛ فوضوح الهدف العام أمامهم هو ما عصمهم ونجاهم من دخول تلك النار، وقد صحَّح -صلى الله عليه وسلم- فعلهم.
ولعله نفس ما عصم أبا بكر أن يقع فيما وقع فيه عمر -رضي الله عنهما- عند موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال عمر: "والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم"، فقام أبو بكر خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "ألا من كان يعبد محمدا -صلى الله عليه وسلم- فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"([4]).
وبناءً على الهدف العام للخطيب -الذي حدده وفقًا لحال مجتمعه ومدى قربه أو بعده عن الدين- تتحدد الموضوعات الخطابية التي ينبغي أن يدرجها الخطيب في خطته الخطابية السنوية أو الشهرية.
2-الهدف من هذه الخطبة خاصة: ويختلف باختلاف موضوع الخطبة -الذي سبق أن حدده الخطيب طبقًا لأهدافه العامة-، وعمومًا فالهدف الأساسي من كل خطبة أن يخرج الجمهور مقتنعًا بما دعت إليه أو حذَّرت منه، عازمًا على فعله إن كان من الفضائل، أو على اجتنابه والإقلاع عنه -بل والتحذير منه- إن كان من الرذائل.
ووضع أهداف خاصة لخطبة معينة من أكثر ما يعين الخطيب على التركيز على موضوعه الأساسي ويصونه أن ينزلق ويتشعب في موضوعات فرعية لا تخدم غرضه وهدفه الأصلي أو أن يُضَمِّن خطبته موضوعين.
يظهر هذا التركيز على الهدف في رد النبي -صلى الله عليه وسلم- على من سأله: متى الساعة؟ فأجاب سؤاله بسؤال، قائلًا: "وماذا أعددت لها؟ ([5])، فهو -صلى الله عليه وسلم- يركز على ما ينفع وعلى ما يفيد وعلى المهم؛ فإن من تجهَّز واستعد وتحضَّر بالعمل الصالح لا يضيره متى كانت الساعة، خاصة ألا علم للنبي -صلى الله عليه وسلم- بميعادها.
وبناءً على الهدف الخاص من الخطبة تتحدد الأفكار التي ينبغي على الخطيب تأكيدها والعمل على إيصالها من خلال خطبته.
ثانيًا: رتب الأولويات:
بعد أن حددت -أيها الخطيب- أهدافك العامة والخاصة، عليك أن ترتب هذه الأهداف تبعًا لأهميتها وأولويتها للمجتمع الذي تخطب فيه؛ فإن ما يحتاجه مجتمع قد لا يحتاجه مجتمع آخر، وما يكون ملحًا ضروريًا في مجتمع ما، قد يكون من فضلة القول ومن التكرار الملل في مجتمع سواه.
فإن كنت -أيها الخطيب- تخطب في مجتمع انتشر فيه التبرج والسفور فإن أهم ما تحدثهم عنه هو الحجاب الشرعي ووجوبه وشروطه، لكن نفس هذا الكلام يكون فضلة وتكرارًا مملًا إن قيل في مجتمع محافظ قد التزمت نساؤه الحجاب تعبدًا وامتثالًا لأمر الله، وهكذا؛ فما يصلح لمكان ولمجتمع ما قد لا يصلح لسواه.
وهذا نبي الله يوسف قد سأله صاحباه في السجن أن يفسر لهما الرؤيا قائلين: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 36]، فتجاهل سؤالهما كأنه لم يسمعه، ثم كلَّمَهما عما اكتشف أنهما في أمس الحاجة إليه، ولتتابع بنفسك ما قال يوسف: (يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ*مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 39ـ 40]، ثم أخيرًا -وبعد أن لقنهما أهم ما يحتاجان- قدَّم لهما جواب سؤالهما وفي سطر واحد قائلًا: (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) [يوسف: 41].
ولقد كان يوسف -عليه السلام- ذكيًا حصيفًا حين فعل ذلك؛ فإن تعريفهم بالله -تعالى- وبتوحيده وبخطورة الإشراك به، وإنقاذهم من جهنم، أولى وأهم وأخطر من تأويل رؤياهم، فيا له من فطن ذكي قد رُزِق فقه الأولويات، وهكذا ينبغي أن يكون كل خطيب.
كذلك فقد تنتشر في مجتمع ما الكثير من الأمراض والأسقام والعلل والمخالفات، فليرتبها الخطيب حسب خطورتها، ثم ليبدأ بالأكثر خطورة قبل الأقل خطورة، وهكذا، فإن انتشر في مجتمع أكل الربا والشرك بالله وتضييع الصلاة والاختلاط المحرم؛ فأول الأولويات أن تخطب فيهم عن نواقض التوحيد وتنقيته من الشوائب والبدع، ثم عن ترك الصلاة وخطورته، ثم عن الربا وحرمته، ثم عن الاختلاط وشؤم عاقبته.
هكذا يكون الأمر في المنهيات؛ أن ترتِّبها حسب خطورتها، ونفس الشيء في ترتيب المأمورات؛ فإنه يكون حسب أهميتها، فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدد أولويات المأمورات ويرتِّبها لمعاذ -رضي الله عنه- لما بعثه إلى اليمن قائلًا: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم"([6])، قال النووي: "رتب ذلك في الدعاء إلى الإسلام، وبدأ بالأهم فالأهم"([7]).
والخلاصة أن الخطيب قد يكون مخلصًا مؤمنًا بأهدافه، لكنه لا يدري من أين يبدأ ولا بما يبدأ، فتتزاحم عليه الأفكار والأهداف وتتتابع وتتوالى وتتكاثر حتى لا يستطيع أن يوفي كل هدف وكل فكرة حقها، فتصل إلى مستمعيه رسالة مبعثرة مهلهلة متناثرة.
والحل أن يستحضر الخطيب الأهداف والأفكار التي يريد توصيلها إلى جمهوره، ثم يرتب تلك الأهداف والأفكار تبعًا لأهميتها وأولويتها، ثم يبدأ بالأهم قبل المهم، وبما لا يحتمل تأجيلًا قبل ما يقبل التأجيل.
وقد قيل: "وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور، بل قد يتعين في الإنسان فرضان أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته، فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغرورًا".
ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى، فإن المعصية ظاهرة والطاعة ظاهرة، وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض؛ كتقديم الفرائض كلها على النوافل، وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية، وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره، وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه، وتقديم ما يفوت على مالا يفوت"([8]).
ثالثًا: التسلسل المنطقي للأفكار:
قد يحسن الخطيب تحديد أهدافه ثم ينجح في ترتيب أولوياته، لكنه قد يأتي ليعرض فكرته -التي حدَّدها وقدَّمها على غيرها- فيسيء العرض والطرح، فقد يُجْمِل ما حقه أن يُفصَّل أو العكس، ويُقدِّم ما حقه أن يؤخَّر أو العكس، أو يخلط ما بين الأفكار ويبعثرها وينثرها نثرًا، أو يؤاخيها بلا نسب ولا رابط بينها! حتى لا يدري السامع إلى ما يرمي خطيبه أو ما الذي يريد أن يوصله؟!
والخطيب الحصيف هو من يجعل أفكار خطبته متسلسلة تسلسلًا منطقيًا، بحيث ينتقل ذهن السامع معه من فكرة إلى أخرى ويسلمه من معنى إلى آخر في يسر وسهولة، لا يشعر معها السامع بفجوة بين فكرة وأخرى بل يشعر بالترابط المنطقي بينها، ولا يفاجئ السامع -كذلك- بطرح الخطيب نتيجة معينة يفرضها على السامع فرضًا لا يقتضيها ما قدَّمه من أفكار! بل تكون الأفكار التي يطرحها الخطيب كالمعطيات التي تؤدي -لا محالة عند كل عاقل- إلى نتيجة محددة يصل إليها المستمع قبل أن يقررها الخطيب.
ولعل أروع مثال يحضرني لذلك هو تلك القيادة الحوارية الخطابية التي استخدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الأنصار إذ حزن بعضهم أن حُرموا من الغنائم، فخاطبهم قائلًا: "يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟" قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار!" قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل؟!
قال: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرقنا([9]).
فنجده -صلى الله عليه وسلم- يبدأ بعتابهم وتذكيرهم بنعمة الله عليهم إذ أنقذهم به -صلى الله عليه وسلم- من الضلالة إلى الهدى؛ أما يكفيهم من الإسلام أن أنقذهم من النار وأوجب لهم الجنة، وهل بايعهم -صلى الله عليه وسلم- على غير الجنة؟! ثم يثني بتذكيرهم بسوالف الخير التي عملوها لله وحده؛ فهل يحسن بهم الآن أن يأسوا على دنيا بعد كل ما قدموه للآخرة؟! ثم يتحيز بنفسه -صلى الله عليه وسلم- إليهم ويتمنى أن لو كان منهم ويدعو الله -تعالى-لهم في أسلوب منطقي رائع مقنع متسلسل مؤثر، لم يملك الأنصار -رضي الله عنهم- حياله إلا أن يستسلموا ويسلموا.
وكذا ذلك الحوار العقلي والتسلسل المنطقي الذي خاطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الشاب الذي جاء قائلًا: "ائذن لي بالزنا"، فتسلسل معه النبي -صلى الله عليه وسلم- تسلسلًا منطقيًا قائلًا: "أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم" قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه" فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ([10]).
فدع السامع يقرر النتيجة بنفسه قبل أن تقررها أنت، ودعه يصل إلى الهدف مستقلًا دون أن تسوقه إليه أنت، ودعه يقتنع بما تريد دون أن يشعر بحملك إياه على هذا الاقتناع بل يشعر أنه قد وصل إليه وحده، أعطه طرف السلسلة واتركه يسحبها إليه حلقةً حلقةً حتى يصله ما ربطته أنت في طرفها من نتائج، ولا تحمل تلك النتائج أنت إليه حتى تضعها في حجره فينفر منها.
وبهذا -أيها الخطيب- فقد أصبحت مستعدًا؛ قلبًا وعقلًا، لأنْ تبدأ وتخوض معترك التأثير والإقناع، الذي سنعرض عليك في المقالات القادمة من هذه السلسلة -إن شاء الله- عددًا من أساليبه ووسائله ومهاراته وآلياته.
-----
([1]) تناولنا هذا في المقال الأول من هذه السلسلة تحت عنوان: «ضع حجر الأساس لعقلك»، فراجعه.
([2]) انظر القصة بتمامها في: البداية والنهاية لابن كثير (7/47)، الناشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1408هـ.
([3]) البخاري (7145)، ومسلم (1840).
([4]) البخاري (3667).
([5]) البخاري (3688)، ومسلم (2639).
([6]) البخاري (1395)، ومسلم (19).
([7]) شرح صحيح مسلم للنووي (1/198)، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ.
([8]) انظر: هامش إحياء علوم الدين للغزالي (3/403)، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
([9]) أحمد (11730)، وصححه الألباني (هامش فقه السيرة لمحمد الغزالي ص: 396، دار القلم - دمشق)، والقصة في البخاري (4330)، وفي مسلم (1061).
([10])أحمد (22211)، والطبراني في الكبير (7679)، وصححه الألباني (الصحيحة: 370).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم