مشاهد الحج في الخطاب القرآني

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

والحج من أعظم شعائر الإسلام وأكثرها غنى وثراءً بالدروس والعبر والآيات والمعالم والمنافع. وإن كانت الغاية العظمى منه تحقيق العبودية، فإن تفاصيل أعمال الحج من الطواف، ورمي الجمرات، والوقوف بعرفة، والبيات بمنى والمزدلفة، وحلق أو تقصير وغير ذلك، فيها الكثير من الأسرار والحكم إلى تحتاج إلى النظر والاستدلال والتدبر في الآيات والأحاديث..

لا شك أن أحكام الشريعة في المجمل معللة، وتحفها الحكم والمقاصد، وهذه المقاصد معقولة المعاني يمكن للإنسان إدراكها وتصورها، ولا يتصور أن يقع أمر في الشرع عفويا اعتباطيا دون قصد، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يَعْقلُ معناه مَنْ عَقَله ويخفى على مَنْ خفي عليه". وإنما يتصور ما يخفى معانيه من المأمورات في الشرع من جانب التفصيل، وهذا لا يقدح في أصل كون الأحكام الشرعية معللة. وكان المطلوب على المكلف بحث هذه التفاصيل الجزئية الخفية المعاني والمقاصد.

 

والحج من أعظم شعائر الإسلام وأكثرها غنى وثراءً بالدروس والعبر والآيات والمعالم والمنافع. وإن كانت الغاية العظمى منه تحقيق العبودية، فإن تفاصيل أعمال الحج من الطواف، ورمي الجمرات، والوقوف بعرفة، والبيات بمنى والمزدلفة، وحلق أو تقصير وغير ذلك، فيها الكثير من الأسرار والحكم إلى تحتاج إلى النظر والاستدلال والتدبر في الآيات والأحاديث.

 

قال ابن القيم في تعريف الحج: "هو خاصة الحنيفة، ومعونة الصلاة، وسر قول العبد لا إله إلا الله، فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إلى بيته ومحل كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم لبيك اللهم لبيك إجابة محب لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقع عند الله، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى، فهو لا يملك نفسه أن يقول لبيك لبيك حتى ينقطع نفسه".

 

وإن الخطاب النبوي عن الحج قد ركز على الفضائل والمكارم والدروس المستفادة من شعيرة الحج؛ فإن الخطاب القرآني ركز على المعالم والمشاهد والكليات والأسس في فهم شعيرة الحج والمقاصد العليا منها. والسنة والقرآن يكملان بعضهما بعضا وهما المصدران الرئيسان لتشريع هذه الأمة، وجناحي الطائر لكل من يريد أن يحلق في سماء المعرفة والخير والهداية.

 

وقد ورد ذكر شعيرة الحج وركن الإسلام الأعظم في كتاب الله في عدة مواضع، وعشرات الآيات، تناولت هذه العبادة الكبرى من عدة جوانب: من الجانب الفقهي، والجانب التربوي، والجانب التاريخي، والجانب الإيماني، والجانب الأخلاقي، وسوف نستعرض أهم المشاهد القرآنية المتعلقة بخامس أركان الإسلام في الخطاب القرآني.

 

المشهد الأول: مشهد الابتلاء والتمكين.

 

قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال َإِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا ينالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قال َإِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَ ّأَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة:124-128].

 

يخبرنا المولى -تعالى- عن نبيه وخليله إبراهيم -عليه السلام-، المتفق على إمامته وجلالته، الذي كل من طوائف أهل الكتاب متفقة على نبوته وإمامته، بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات؛ أي: بأوامر ونواهي، كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده؛ ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان من الصادق الذي ترتفع درجته، ويزيد قدره، ويزكو عمله، ويخلص ذهبه؛ فأتم ما ابتلاه الله به، وأكمله وأوفاه، فشكر الله له ذلك، ولم يزل الله شكورا فقال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)؛ أي: يقتدون بك في الهدي، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم، والأجر الجزيل، والتعظيم من كل أحد.

 

ثم ذكر -تعالى- نموذجا باقيا دالاً على إمامة إبراهيم، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركناً من أركان الإسلام، وحاطاً للذنوب والآثام. وفيه من آثار الخليل وذريته ما عرف به إمامته، وتذكرت به حالته فقال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ)؛ أي: مرجعا يثوبون إليه، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية، يترددون إليه، ولا يقضون منه وطرا، ويأمن به كل أحد، حتى الوحش، وحتى الجمادات كالأشجار.

 

ولهذا كانوا في الجاهلية -على شركهم- يحترمونه أشد الاحترام، ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم؛ فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام، زاده حرمة وتعظيما، وتشريفا وتكريما. وقوله (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)؛ أي: أوحينا إليهما، وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك، والكفر والمعاصي، ومن الرجس والنجاسات والأقذار، ليكون (لِلطَّائِفِينَ) فيه (وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)؛ أي: المصلين. وقدم الطواف؛ لاختصاصه بالمسجد الحرام، فالاعتكاف؛ لأن من شرطه المسجد مطلقا، فالصلاة، مع أنها أفضل، لهذا المعنى. ثم ذكر الله -تعالى- دعاء إبراهيم لهذا البيت أن يجعله الله بلدا آمنا، وأن يرزق أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد -عليه السلام- هذا الدعاء للمؤمنين؛ تأدبا مع الله؛ إذ كان دعاؤه الأول فيه الإطلاق، فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم.

 

ثم ذكر -تعالى- حالة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في رفعهما القواعد من البيت الأساس، واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء، حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما، حتى يحصل فيه النفع العميم. ودعوا لأنفسهما وذريتهما بالإسلام، الذي حقيقته خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)؛ أي: علمناها على وجه المشاهدة، ليكون أبلغ. يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها، كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله، والعبادات كلها، كما يدل عليه عموم اللفظ؛ لأن النسك: التعبد، ولكن غلب على متعبدات الحج؛ تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما، يرجع إلى التوفيق للعلم النافع، والعمل الصالح، ولما كان العبد لا بد أن يعتريه التقصير، ويحتاج إلى التوبة قالا: (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

 

والشاهد القرآني للخطيب: أن عبادة الحج من طواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي جمار، هي سنة نبينا إبراهيم عليه السلام. وأن ابتلاء الله تعالى لعبده نعمة ومنحة؛ حيث يعقب الابتلاء التمكين والرفعة للعبد. فإبراهيم عليه السلام بعد الابتلاء أصبح إمامًا للناس. وأن المؤمن شديد الخوف من الله تعالى، فهو إذا عمل عملًا صالحًا يخاف من الرد وعدم القبول والخسران، فالله سبحانه لا يقبل إلا من المتقين، فلهذا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عندما فرغا من بناء الكعبة سألا الله القبول. وأن توحيد الله وإخلاص العبادة له، ومحبته والانقياد إليه سبحانه، هي دعوة الرسل جميعًا وخصوصًا إبراهيم عليه السلام.

 

المشهد الثاني: مشهد التوحيد والأمن والرزق

قال تعالى: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم:35-37].

 

وفي هذا المشهد يذكر المولى -سبحانه وتعالى- المشركين من عباده والضالين منهم عن طريق المرسلين بأن البلد الحرام إنما وضعت على التوحيد وإفراد الله وحده بالعبادة، وهي منزهة عن الشرك، عامرة بالبركات والخيرات، وأن دعوة إبراهيم عليه السلام لها بالأمن والبركة لا تكون إلا على التوحيد والبراءة من الشرك والشركاء، وأن الله -عز وجل- قد جعل هذا البلد حرما آمنا ليتمكن الناس من إقامة الصلاة وشعائر الدين، ولذلك فإن أفئدة المخلصين والموحدين -وهم المسلمون وحدهم دون غيرهم من الملل والنحل- تهوى إلى هذا البلد وبيته المقدس وقوله: (وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ)؛ أَي ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك، وكما أنها واد غير ذي زرع فاجعل لهم ثمارًا يأكلونها، فاستجاب الله ذلك؛ كما قال تعالى في سورة (أولم نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كل شيء رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا)[القصص:57] وهذا من لطفه -تعالى- وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل -عليه السلام-.

 

والشاهد القرآني للخطيب: فضل الدعاء في الحج، ووجوب الإكثار منه، وتخصيص النفس والأولاد والذرية من هذا الدعاء، وعلى رأس الأدعية؛ سؤال الله الثبات على الدين، والموت على التوحيد والإسلام، وأن حمد لله والثناء عليه من موجبات قبول الدعاء، وأن جميع أنبياء الله عليهم السلام كانوا يخافون من الشرك، وهم خير الخلق وصفوة العباد، وأن الرزق والبركة والخير قرين بالأمن، وأن واجب شكر هذه النعم أن يقوم العبد بواجب العبادة وعلى راسها إقامة الصلاة.

 

المشهد الثالث: مشهد المناسك والأحكام والآداب

قال تعالى: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)[البقرة:158]، وقال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رؤوسكم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة:196-199]، وقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[المائدة94-96].

 

والشاهد القرآني للخطيب: حتى يكون الحج مقبولاً فلابد من الإتيان به وفق الهدي النبوي المبلغ عن رب البرية في أحكامه، وذلك باتباع الأحكام الفقهية الشرعية الواردة في الآيات من تحديد نوع النسك، وأحكام الهدي والإحصار، والوقوف بعرفات وسائر المشاعر، وكيفية تصرف الحاج إذا اعترضته العوارض العامة أو الخاصة إلى آخر الأحكام المذكورة في سورتي البقرة الحج. ثم بعد ذلك يلزم للحاج أن يكون حجه للبيت إيماناً واحتساباً، ومعنى إيماناً: أي أن عبادة الحج قد خرجت من قلب معظم لله -تعالى-، امتلأ قلبه محبة لربه -تعالى-، يقوم بأعمال الحج لوجه الله -تعالى- لا يريد ثناءً أو شكوراً من أحد فقط، يريد رضا الله -تعالى-، قلب مطمئن ونفس راضية عن هذه العبادة لا تأفف فيها أو تذمر أو رياء أو سمعة، بل يكون منشرح البال سعيداً بتوفيق الله له، مخلصاً لوجهه الكريم.

 

أما احتسابًا: فهذا الحاج قد وضع أمام عينه حديث نبيه: "الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة "، وحديث: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"، فهو يريد جنة ربه، ويريد مغفرة الذنوب جميعها، وهذه المعاني لا يشعر بها إلا أهلا التوحيد المعظمين لله -عز وجل-.

 

وكما أن للحج أركاناً لا يتم الحج إلا بها ولا تجبر بدم وهي أربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي؛ فإن الله -تعالى- قد سن لعباده سنة الابتلاء في هذا المقام السامق من العبودية، حتى يعلم -سبحانه- من يخافه بالغيب ويخشاه، ممن لا يبالي ويحرص على المظاهر والتباهي فقط وقت إطلاع الناس عليه. وقد ابتلى -سبحانه- نبيه -صلى الله عليه وسلم- وصحبه بالصيد تناله أيديهم ورماحهم، فكان الصيد قريبا سهل الأخذ باليد؛ فالله -سبحانه- يبتلي عباده بالخير والشر والغنى والفقر حتى ينظر كيف نعمل، وما هو مقدار إيماننا به -سبحانه-.

 

المشهد الرابع: مشهد الولاء والبراء

قال تعالى: (وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)[التوبة:3].

 

فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: "بعثني أبو بكر يؤذن فيمن يؤذن يوم النحر بِمِنَى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ، مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشرك"(أخرجه البخاري في كتاب الجهاد).

 

والشاهد القرآني للخطيب: أن عبادات الله -عز وجل- كلها وعلى رأسها الحج تقوم على فكرة توحيد الله -عز وجل-، وإقامة شهادة لا إله إلا الله بشروطها كاملة، ومن أهمها: تحقيق الولاء للمؤمنين والبراء من الشرك والمشركين؛ فالمؤمن والمشرك لا يلتقيان في شيء ولا يتفقان في شيء، لا سواء بينهما في أي شيء، ورابطة الإسلام قطعت كل الروابط الأرضية من قرابة ونسب ومصاهرة وعشيرة ومصلحة وقومية ووطنية. كل هذه الروابط في كفة، ورابطة لا إله إلا الله محمد رسول الله في كفة. وإنما ذكّرهم المولى -سبحانه- بذلك في أهم اجتماع لهم في موسم الحج حتى يكونوا على بينة وحذر من أي مهدد ومضعضع لتلك الرابطة السماوية.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات