كيف يعرف الحق؟ وأوهام الناس في الاستدلال عليه!

محمد علي الخطيب

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لا يعرف الحق بكثرة أو قلة ولا بقوة أو ضعف مادي، ولا بنصر أو هزيمة في ميدان الحرب والطعان لا في ميدان الحجة والبرهان، ولا يثبت أيضاً بالخوارق ولا بالدعاوى المجردة، ولا يُعرف بالرجال، لكن يثبت بالدليل والبرهان، وبه يعرف حصراً، ولذلك...

* الحق لا يُعرف بكثرة الأتباع، ولكن يعرف بنفسه، ويوزن بذاته.

* استعراض القوة منطق سطحي ساذج، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان.

* ساقُ ابن مسعود (على حُموشتها ودقتها) أثقلُ من "أحد"، أما الرجل الضخم السمين من الكفار والمنافقين فلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ.

* الحق يجب قبوله، سواء أقاله الفاضل أم المفضول.

* أبطل الله زعمَ اليهود بأنهم أبناءُ الله وأحباؤه، وهم في حقيقة أمرهم أعداؤه، والعبرة بالمسميات لا بالأسماء.

* إن الحق لا يعرف بنصر أو هزيمة؛ لأن للنصر سننه ونواميسه، وقد يؤيد الله هذا الدين بالرجل الفاجر.

* يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال.

 

من دأب أهل الملل والنحل وأصحاب الفرق والطوائف المختلفة (وهي تعد بالمئات بل أكثر من ذلك): أن تدَّعي كلُّ طائفة منها أنها تمثل الحق، وتطعن في غيرها، وتحاول جاهدةً إثباتَ بطلان مذهب الأخرى وفساد طريقتها، وقد حكى القرآنُ عن طائفتين كبيرتين، هما: اليهود والنصارى، وكيف أن كل واحدة منهما تصف الأخرى بأنها على باطل، وليسوا على شيء معتبر، قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) [البقرة: 113]؛ وكذلك المشركون يجبهون الفريقين بالقولة ذاتها: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وللآيات مناسبة توضح المقصود (انظر: تفسير ابن كثير - (ج1/ص 386).

 

* ويذهب أكثرُ الناس وأكثر أهل هذه الطوائف في الاستدلال على أنهم على حق مذاهبَ شتى، ويسلكون طرائق غريبة شاذة تخالف العقل السليم، فالنصارى مثلاً يدَّعون أو يصنعون عجائب وخوارق بوسائلَ وحيلٍ وفنون برعوا فيها، وينسبونها إلى كهنتهم ورهبانهم، ويذيعونها بين العامة بين وقت وآخر، ليزعموا بعد ذلك أنهم على حق، وأن طريقتهم هي الطريقة المثلى، ونحا نحوَهم جهالُ الصوفية عندنا، فإنك إذا جالستهم سمعت منهم العجب العجاب مما لا يقبله دينٌ ولا عقل من المخاريق التي تفسد نظام الكون، ولا تقيم لسننه ونواميسه أي اعتبار، والطامة أنهم يسمونها "كرامات"، وينسبونها إلى بعض الأولياء والعارفين أو لبعض مدعي الولاية، ليسحروا بها عقول العامة، ويأخذوا بألبابهم!

 

* وربما استدلَّت بعضُ الطوائف بأنها على خير بكثرة أتباعها! وقد يقولون: لو لم نكن على خير وهدى لما اتبعنا أكثرُ الناس، وهذا الاستدلال خاطئ أيضاً، فالحق لا يُعرف بكثرة الأتباع، ولكن يعرف بنفسه، وقد نسب القرآن الغفلة والجهل والكفر إلى أكثر الناس، في مثل:

قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) [البقرة: 243]، وقوله سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [غافر: 61]، وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 187]، وقوله أيضاً: (وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الرعد: 1]، وقوله: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]، وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) [الإسراء: 89]، وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الفرقان: 50]، وقال سبحانه: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وقال أيضاً: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) [الأنعام: 116].

 

والغرض من هذا أن الحق لا يُعرف بكثرةٍ أو قلةٍ؛ فإن نوحاً شيخَ المرسلين ما آمن معه إلا أصحاب السفينة، وهلك أكثرُ أهل الأرض، وكانوا على شرك وضلالة.

 

والدجال -نعوذ بالله من فتنته- من أكثر رؤساء الضلالة أتباعاً، وقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أنبياء لم يؤمن معهم أحد؛ كما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عُرضت علي الأمم فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط والنبي ليس معه أحد حتى رُفِع لي سواد عظيم..." الحديث. فهل هذا النبي الذي ليس معه أحد على غير هدى؟ والغرض من هذا الكلام أنه لا يعرف الحق بكثرة أو قلة، ولكن يعرف بنفسه، ويوزن بذاته، لا ينتقص منه قلة أتباعه أو ضعفهم، وكما قال تعالى: (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100].

 

* ويستدل أقوام آخرين بأنهم على حق بعظمة الملك وقوة الدولة واتساع السلطان، ويستدلون بالمنطق نفسه على أن الفريق الآخر على باطل بقلة أتباعه أو ضعفهم، ونحو ذلك، وهذا نحو الذي قبله، كما حكى القرآن ذلك عن فرعون الذي استخدم أسلوب الاستدلال بالقوة المادية وسعة الملك وكثرة الأموال؛ للتأثير في الجماهير، وإقناعهم بأنه على رشاد وسداد وأن العاقبة له، وأن موسى ليس على شيء، قال سبحانه: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) [الزخرف: 51 - 54].

وهنا (كما هو ظاهر في الآيات) يحاول فرعون أن يخلب عقول الجماهير الساذجة باستعراض قوته وجاهه وسلطانه وإظهار زخرفه وزينته، ليستدل بها على أنه على حق، وأنه خير من موسى.

 

هذا الضعيف الفقير الذي لا يكاد يبين، وهو منطق سطحي ساذج، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان، المخدوعة بالأبهة والبريق (في ظلال القرآن (ج6/ص 359).

 

بل يذهب فرعون إلى أبعد من ذلك وأغرب، حينما يحاول صرف الناس عن موسى بتنقيصه وازدراء شأنه؛ لعيب خلْقي فيه، وهو عقدة من لسانه، وهذا من فرعون أسلوب عجيب وفن غريب في التمويه والخداع والتأثير في الرأي العام كما يقال في أيامنا، وهو استدلال لا يمت إلى العقل بصلة، فالأشياء الخَلْقية التي ليست من فعل العبد، لا يعاب بها، ولا يذم عليها، وفرعون يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء؛ ولهذا قال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) [الزخرف: 54]، وأكثر الناس -إلا من عصمهم العلم- على شاكلتهم، يستخفهم الكبراء والطغاة على مدار القرون!

 

ومثل هذا أو أعجب منه قول فرعون: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ) [الزخرف: 53]، وهذا استدلال سطحي ونظر إلى الشكل الظاهر، يلقى قبولاً عند البُلْه والسذج وكثير من العامة وخاصة في ظل الحضارات المادية، ولأن موسى لا يتمتع بمظاهر الأبهة والتفخيم، فهو على باطل، ولا ينبغي اتباعه بل يجب معاندته ومحاربته، وأكثر الناس هكذا ينظر إلى الشكل الظاهر، ولا ينفذ إلى لب الدعوة وجوهرها، ولا يعطيها قدرها، ومن ثم يقدِّرون الأشخاص والأشياء والقيم بمثل هذه الموازين المختلة والمقاييس المعوجة، فلا ينتهي أحدهم إلى تقويم صحيح، أو تصور سليم، ويظل يخبط خبط عشواء على غير هدى ولا بصيرة (تفسير ابن كثير (ج7/ص 232).

 

ولذلك تجد سائر الطغاة والمبطلين يستخدمون منطق فرعون ذاته في خداع الناس، ويقولون قولته نفسها: أفلا تبصرون إلى قوتي وضعف موسى؟

 

ونحو ذلك ما كان من قريش من الاستدلال المغلوط: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31] أي الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.

 

واستدلوا أيضاً (أقصد المشركين) على فساد الرسالة بكون أكثر أتباعها من المستضعفين، قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام: 53]، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان غالب من اتبعه في أول البعثة، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل.

 

والغرض: أن مشركي قريش كانوا يسخرون ممن آمن من ضعفائهم، ويصدون الناس عن الرسالة بكون هؤلاء من أتباعها، وكانوا يقولون بازدراء: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنَا)؟ أي: ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير (لو كان ما صاروا إليه خيراً) ويدعنا، كما قالوا: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) [الأحقاف: 11]، وكما قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم: 73]، فردَّ الله -تعالى- عليهم: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) [مريم: 74]، وقال في جوابهم حين قالوا: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنَا) قال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (انظر: تفسير ابن كثير(ج3/ص 261).

 

وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

 

ويشهد لهذا ما ورد في مسند أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنْ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَت الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مِمَّ تَضْحَكُونَ؟" قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ. فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ". فساقُ ابن مسعود على حموشتها ودقتها أثقل من أحد، أما الرجل الضخم السمين من الكفار والمنافقين فلا يقيم الله له وزناً كما ورد في الصحيحين: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ"، وَقَالَ اقْرَؤوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105].

 

فهذا هو الوزن الحق، ولكن أكثر الناس عندما يبتعدون عن موازين الوحي وضوابط الشرع يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ؛ قياس الفضل بالمال، والفهم بالجاه، والمعرفة بالسلطان، فذو المال أفضل، وذو الجاه أفهم، وذو السلطان أعرف!

 

هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائماً حين تغيب عقيدةُ التوحيد عن المجتمع، أو تضعف آثارها، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب. وهي انتكاسة للبشرية من غير شك (في ظلال القرآن (ج4/ص 212).

 

والاستدلال بضعف الأتباع منطق جاهلي قديم بعيد عن العقل والعدل، ولكنه ينطلي على كثير من الناس؛ لتعلق قلوب أكثر الناس بالدنيا وزينتها، كما قال قومُ نوح لنوح: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) [هود: 27]، والأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء وأصحاب المهن. قال القرطبي: "قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا" (تفسير القرطبي (ج9/ص 23).

 

قال الزجاج في قوله: "(هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة". قال القرطبي: "وكان هذا جهلاً منهم؛ لأنهم عابوا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بما لا عيب فيه؛ لأن الأنبياء -عليهم السلام-، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسَلون إلى الناس جميعاً، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم" (تفسير القرطبي (ج9/ص23).

 

وخلاصة الكلام وقاعدته في هذا الأمر ما ورد في كلام السعدي في قوله: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا)، قال: "من المعلوم لكل أحد عاقل أن الحق يعرف أنه حق بنفسه لا بمن تبعه، وأن هذا القول الذي قالوه صدر عن كبر وتيه، والكبر أكبر مانع للعبد من معرفة الحق ومن اتباعه". ثم قال في موضع آخر: "والحق لا يعرف بقائله، ولكن يعرف بنفسه، ويجب قبوله دون النظر إلى قائله". ويقول: "فالحق يجب قبوله، سواء أقاله الفاضل أم المفضول، الحق أعلى من كل شيء" (تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام- (ج1/ص336 - 337).

 

وقال ابن كثير: "إن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كُلّ من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: "إنه هو المُحق" سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) [النساء: 123] أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام (تفسير ابن كثير (ج2/ص 417).

 

وقال ابن تيمية في هذا المعنى أيضاً: "من المعلوم أن مجرد نفور النافرين أو محبة الموافقين: لا يدل على صحة قوله ولا فساده إلا إذا كان ذلك بهدى من الله بل الاستدلال بذلك هو استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله" (مجموع فتاوى ابن تيمية (ج1/ص 324).

 

* وآخرون يستدلون على الحق بالأسماء، وليس الأمر كذلك؛ لأن العبرة بالمسميات لا بالأسماء وبالأفعال لا بالأقوال، ولا تُقبَلُ الدعاوى إذا لم يُقِم عليها أصحابُها البينات، ولو أن كل من سمته أمه حسناً أو صالحاً أو محموداً كان كذلك على الحقيقة والفعل لكان تربية الإنسان وإصلاح المجتمعات من أيسر المهمات، ولكن الأسماء لا تغني شيئاً، وإن كان الشرع قد ندبنا إلى اختيار الأسماء الحسنة إلا أن الواقع والفعل يصدق ذلك أو يكذبه، وعليه مدار الأمر، وبه يكون الوزن الحق.

 

وقد رد الله على الأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم؛ لأنهم سموا أنفسهم باسم لا يستحقونه: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات: 14].

 

كما أبطل زعم اليهود بأنهم أبناء الله وأحباؤه وهم في حقيقة أمرهم أعداؤه، وجبههم بحقيقة أمرهم، كما بينت الآيات: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة: 18].

 

وعلى سنة يهود الذين ادعوا أنهم شعب الله المختار درج أكثرُ أهل البدع والأهواء الذين (يُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ) [آل عمران: 188]، اختبأوا وراء أسماء وألقاب من هذا القبيل، ونسبوا أنفسهم إلى الله، وسموا أنفسهم جند الله أو حزبه أو أهله وأولياءه وخاصته وأحبابه كما ادعت اليهود؛ ليخدعوا الناس بالأسماء، ويموهوا على باطنهم الخبيث، وباطلهم الذميم، وليفتنوا بها البُله الذين لا علم لهم، وما أكثرَهم!. هذا وقد خدع من قبل رجالٌ من علية القوم بالماسونية وبعض الحركات الهدامة الأخرى، وغرتهم شعاراتُها المزيفة، ولم يفطنوا لها إلا بعد حين.

 

* ويستدل آخرون على الحق بانتصار قومٍ ما وبطولاتهم، وعلى الباطل بانكسار قومٍ ما عسكرياً وهزيمتهم، وقد استغل بعضُهم مثل ذلك للترويج لمذهبه الفاسد وبضاعته الكاسدة، وبثِّ دعوته بين العامة، واستغلال عاطفة الكراهية للعدو من جهة، وغريزة الإعجاب بالبطولة والأبطال من جهة أخرى، وهذا خلاف الواقع، وقد أصيب المسلمون في غزوة أحد بما أصيبوا به، وفقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير; وعزَّ عليهم أن يصيبهم ما أصابهم وهم المسلمون وهم يجاهدون في سبيل الله، وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله، فقالوا كما حكى القرآن عنهم: أنى هذا؟ وردَّ الله -سبحانه- على تساؤلهم ودهشتهم بقوله: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].

 

وبناء على هذا المنطق (أقصد الاستدلال على الحق بامتلاك القوة الحربية والصناعية) ينبغي أن يكون الغرب اليوم على حق وخير وهدى؛ لأنهم الأقوى فيها، وهذا لا يصح، والغرب وإن كان يفوقنا في قوته المادية والعسكرية إلا أنه يقوم على عقيدة باطلة وتصور فاسدٍ للكون والإنسان والحياة، ويعج بالرذائل والفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي كما هو معروف.

 

إن الحق لا يعرف بنصر أو هزيمة؛ لأن للنصر سننَه ونواميسَه كما أسلفت، نعم وعد الله المؤمنين بالنصر والتمكين لهم، ولكن ربط ذلك بسنن النصر وشروطه وآدابه، روى الحاكم في المستدرك وسكت عنه الذهبي في التلخيص عن عبد الله بن سلمة قال: "رأيت عمار بن ياسر يوم صفين شيخًا طوالا أخذ الحربة بيده ويده ترعد، فقال: "والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات وهذه الرابعة ثم قال: والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفتُ أنَّا على الحق وهم على الباطل".

 

فالحق يعرف بنفسه، وكذلك الباطل، والاستدلال بالانتصارات والبطولات على صحة العقائد والمبادئ وسلامة أديان أصحابها وتصوراتهم استدلال خاطئ وساذج.

 

وقد فُتِن الناس منذ عهد قريب بمثل ذلك، ونسوا أن الله -سبحانه- قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر؛ كما ورد في حديث المنافق الوارد في صحيح البخاري.

 

ثم هل خلا تاريخ أمة أو شعب أو طائفة من البطولات والأمجاد؟ حتى الجاهلية القديمة برز فيها بطولات عنترة ووفاء السموأل وسخاء حاتم!

 

وما أريد أن أقرره هو أن الحق لا يعرف بنصر أصحابه ولا هزيمتهم، وإن كنا نعلم أن العاقبة للمتقين، ولا يدل عليه بطولات أو تضحيات، فكم من باطل وله أبطال، وحوله رجال، يبذلون في سبيله المُهَج، ويقدمون الغالي والرخيص والنفس والنفيس؟! وظاهرة دولة اليهود وهجرتهم إليها من جميع الأصقاع، وإنفاق أغنيائهم في سبيلها بلا حدود، أقوى شاهد ماثل للعيان، فالحق لا يعرف إلا بالحجة والبرهان وإقامة الدليل الشرعي حصراً بحسب ضوابط الاستدلال الشرعية وأصولها التي قررها أهل العلم (انظر: الاعتصام للشاطبي، جزء 1صفحة 167/ الباب الرابع: في مأخذ أهل البدع بالاستدلال).

 

* وبعض الناس يستدل بالرجال على الحق، ويحتجون عليك بفعل فلان وفلان، وهذا خطأ، وإنما يُنظرُ إلى القول لا إلى القائل، وإلى الدليل، وليس إلى فعل أو قول أحد من العلماء مهما كان اعتقادُنا حسناً في علمه وصلاحه، جاعلين نصب أعيننا قول إمام دار الهجرة: "كل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم-".

 

ومثل هذا نقل عن الأئمة المجتهدين، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم -رحمهم الله تعالى-، ومنه قول الشافعي: "إذا خالف قولي قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالحجة في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واضربوا بقولي عرض الحائط".

 

وهؤلاء الأئمة جميعهم أصحاب فضل وعلم، وقد بذلوا جهدهم في التماس الحق في المسائل التي اجتهدوا فيها، فأصابوا وأخطأوا، وكلاهما (أي المصيب والمخطئ) مأجور.

 

وقد وضع فقهاؤنا قاعدة قلبها الناس اليوم على رأسها، ومن حقها أن تقوم على أساسها، فقالوا: "يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال"، وعندما نزن الأمور بهذه القاعدة الذهبية، ونقيس على هداها فلن نرتبك ولن تصيبنا حيرة أو اضطراب، وعندما تغيب عنا هذه الحقائق، وتعبث بنا العواطف والانفعالات في حالات يأس وبؤس تعيشه الأمة، عندئذ يعظَّم الحقير، ويحقَّر العظيم، ويكبَّر الصغير، ويصغَّر الكبير، ويخطب فينا "الرويبضة"، فيقطع قول كل خطيب.

 

وبمناسبة الحديث عن الخطابة فإن بعض الناس يستدلون على الحق بقدرات أصحابه الكلامية، وطلاقة ألسنتهم، وهذا أيضاً استدلالٌ خاطئ؛ لأن كثيراً من المبطلين يسحرون الناس ببراعتهم اللغوية، وقدراتهم على التلبيس والتمويه وقلب الحقائق، وقد ورد في مسند أحمد بن حنبل وإسناده قوي: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان".

 

* وأخـيراً: كيف يعرف الحق؟ وبماذا يثبت؟

 

خلاصة الكلام: أنه لا يعرف الحق بكثرة أو قلة ولا بقوة أو ضعف مادي، ولا بنصر أو هزيمة في ميدان الحرب والطعان لا في ميدان الحجة والبرهان، ولا يثبت أيضاً بالخوارق ولا بالدعاوى المجردة، ولا يُعرف بالرجال، لكن يثبت بالدليل والبرهان، وبه يعرف حصراً، ولذلك لا يقبل قول بلا دليل، ولا تثبت دعوى بلا برهان: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 111]، ولذلك فإن الكتاب حافلٌ بالحجج العقلية والبراهين العلمية والآيات الكونية، وهو في منهجه في الدعوة ونشر الدين لا يفرض الإيمان على الناس بالإكراه، ولا يطالبهم بالتسليم دون اقتناع.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات