قصة صاحب الجنتين: فتنة المال وعواقب البطر

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ضرب الله -تعالى- في كتابه الكريم مثلاً رجلين أنعم الله -تعالى- على أحدهما بجنتين عظيمتين فقابل نعمة الله -تعالى- بالكفر والعناد والغرور، وقذف في قلب الآخر نور الإيمان به تعالى وخوفه، فقابل ذلك بشكر الله -تعالى- وابتغاء فضله، فأدى واجب النصح لخلقه، فنصح...

 

 

 

فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف، واسعة الأرجاء والأكناف، تقع على الناس والأمم كوقع القطر على الأرض كما شبهها رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، لا يسلم منها كبير ولا صغير، صالح ولا فاسد، رجل أو امرأة، ولكن تبقى الأموال أعظم فتنها وأطم محنها، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، ثم إذا وجدت فلا سلامة منها، فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإن وجد حصل منه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسراً.

 

ومن شدة خطورة هذه الفتنة ضرب لها المولى –عز وجل– في محكم التنزيل، كما ضرب لها الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- في صحيح السنّة، أمثلة كثيرة، من تاريخ الأمم السابقة، ومن المجاز، ومن أخبار المشهورين عند العرب وفي التاريخ، وذلك من شدة وخطورة وشيوع هذه الفتنة واتساع نطاق المعرضين للوقوع فيها، ولو كان قارون -لعته الله- هو المثل الأشهر للمفتونين بالمال  وخاتمة من تكبر بماله، إلا إن قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف هي القصة الأكثر دروساً عبرة واتعاظاً؛ لأنها أخذت شكل الحوار المتبادل بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والشكر والجحود، والتكبر والتواضع، لذلك جاءت على أرقى وأشمل ما يكون من أمثلة في كتاب الله –عز وجل– عن أخبار الأمم السابقة ومصارع الظالمين.

 

أولاً: صاحب الجنتين في القرآن:

مخلص القصة:

ضرب الله -تعالى- في كتابه الكريم مثلاً رجلين أنعم الله -تعالى- على أحدهما بجنتين عظيمتين فقابل نعمة الله -تعالى- بالكفر والعناد والغرور، وقذف في قلب الآخر نور الإيمان به -تعالى- وخوفه، فقابل ذلك بشكر الله -تعالى- وابتغاء فضله، فأدى واجب النصح لخلقه، فنصح صاحبه فكفر واستكبر وقابل النصح بالتعالي على الخلق والخالق، وظن أن ملكه لا يبيد وأن له عند الله لو بعث المزيد، فدعا عليه فأباد الله -تعالى- جنته وحقت العاقبة للتقوى.

 

وهذه قصة أغفل الله أسماء أصحابها، وزمانها، ومكانها، وجزئياتها لأنها نموذج متكرر، في كل عصر، في كل مصر، نموذج الذي يقول: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78]، هذا الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم، ويدفعه الغرور بالنعم للولوج في الكفر والكبر حتى على خالقه.

 

آيات القصة:

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا* وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) [ الكهف: 32 - 44].

 

تفسير آيات القصة:

يقول الله -تعالى- بعد ذكره المشركين والمستكبرين ورفضهم لمجالسة الضعفة والفقراء من المسلمين وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم مثلاً برجلين جعل الله لأحدهما جنتين -أي بستانين- من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة، ولهذا قال: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا) أي أخرجت ثمرها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا، أي: ولم تنقص منه شيئاً: (وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا)  أي والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ، قيل: المراد به المال، روي ذلك عن ابن عباس وعن مجاهد وقتادة، وقيل: الثمار، والأظهر: أنه الثمار على ظاهر الآية: (وَكَانَ لَهُ ثَمَر)، ويؤيده القراءة الأخرى: (وكان له ثُمْر)، بضم الثاء وتسكين الميم, فيكون جمع ثمرة، كخشبة وخشب, وقرأ آخرون: (ثَمَر) بفتح الثاء والميم، (فَقَالَ) أي صاحب هاتين الجنتين لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ، أي: يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) أي أكثر خدماً وحشماً وولداً، قال قتادة: "تلك -والله- أمنية الفاجر، كثرة المال وعزة النفر".

 

وقوله: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) أي بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد، (قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)، وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تقرض ولا تهلك ولا تتلف، وذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، ولهذا قال(وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أي كائنة (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا) أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)، وقال: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) أي في الدار الآخرة، وهذا  تألي على الله -عز وجل- ممن كفر منه ابتداء.

 

هذه قصة رجلين أحدهما كان كافراً بما أنعم الله عليه وبما أعطاه من الأموال، حتى جره ذلك إلى إنكار الساعة، وشك في القيامة والبعث، ومن شك في البعث فهو كافر بإجماع المسلمين، ولهذا قال له صاحبه: (أَكَفَرْتَ)؟ والكفر في قوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) يعني أشك في قيام الساعة، ومن شك في القيامة، أو شك في البعث، أو شك في الجنة أو في النار، أو شك في الملائكة أو في واحد منهم، أو في الرسل، أو في الكتب، أو شك في ربوبية الله، أو إلهيته أو وحدانيته فهو كافر.

 

فالكفر يكون بالشك، ويكون -أيضاً- بالجحود، فإذا شك في القيامة كفر، وكذلك لو شك في الله أو في ربوبيته أو في أسمائه أو في صفاته، أو في الملائكة أو في واحد منهم، أو في الكتب أو في الرسل، أو في البعث أو في القيامة أو في الجنة أو في النار، ويكون -أيضاً- بالجحود، كما لو جحد ربوبية الله أو إلهيته أو أسماءه أو صفاته، أو اسماً من أسمائه، أو جحد ملكاً من الملائكة أو جحد كتاباً من الكتب المنزلة، أو جحد البعث، أو جحد القيامة، أو جحد الجنة أو جحد النار، أو جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه، مثل أن يجحد وجوب الصلاة، أو يجحد وجوب الزكاة، أو يجحد وجوب الحج، أو وجوب الصوم، أو جحد تحريم محرم من محرمات الإسلام المعلومة بالضرورة، كأن يجحد تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم الخمر، أو تحريم العقوق؛ فإنه يكفر.

 

وقد يكون الكفر أيضاً بالقول كما لو سب الله أو سب الرسول أو سب دين الإسلام أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله فإنه يكفر بهذا القول، قال الله -تعالى-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65 - 66].

 

ويكون الكفر أيضاً بالفعل؛ كما لو سجد لصنم, أو دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو داس المصحف بقدميه إهانة له، أو لطخه بالنجاسة، فإنه يكفر بهذا الفعل.

 

وقد يكون الكفر بالترك والإعراض أيضاً، كما لو أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعبد الله به، فإنه يكفر، وصاحب الجنتين هذا كفر بالشك في القيامة، فقد أعطاه الله -تعالى- جنتين، وحفهما بنخل وزرع، فاغتر ودخل الجنة وهو ظالم لنفسه بكبره واستكباره وتعاظمه على أخيه، فنصحه صاحبه، وقال له: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا)؟ ثم قال: (لَكِنَّا) أي لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في النون، (هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) أي لكن أنا أوحد الله واعترف بعبوديته وإلهيته، ولا أشرك مع الله في عبادته أحداً، ثم قال: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا) أي هلا إذ أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؟! ولهذا قال بعض السلف: "من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده، فليقل: (مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) [الكهف: 39]، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة، وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا جراح بن مخلد حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عيسى بن عون، حدثنا عبد الملك بن زرارة عن أنس -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول: (مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) فيرى فيه آفة دون الموت"، وكان يتأول هذه الآية.

 

وقوله: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ) أي في الدار الآخرة، (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا) أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى (حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ)، قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، ومالك عن الزهري أي: عذاباً من السماء.

 

والظاهر: أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال: (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا) أي بلقعاً تراباً أملس لا يثبت فيه قدم. وقال ابن عباس: "كالجرز الذي لا ينبت شيئا".

 

وقوله: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا) أي غائراً في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها، يؤيده قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك: 30] أي جارٍ وسائح، والغَوْر: مصدر بمعنى: غائر، وهو أبلغ منه، وفي النهاية: كان الندم حيث لا ينفع الندم، والحسرة التي تأكل القلوب الجاحدة وقت جني الثمرات.

 

ثانياً: النفوس البشرية وفتنة المال:

لقد سمى الله -سبحانه- المال خيراً في غير موضع من كتابه؛ كقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) [البقرة: 180]، وقوله: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8]، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإنما يأتي بالشر معصية الله في الخير لا نفسه.

 

والله -سبحانه- جعل المال قواماً للأنفس، وأمر بحفظه ونهى أن يؤتى السفهاء من النساء والأولاد وغيرهم، ومدحه النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بقوله: "نعم المال الصالح مع المرء الصالح".

 

ومن كلام السلف آثار كثيرة في ذلك المعنى، قال سعيد بن المسيب: "لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطي حقه"، وقال أبو إسحاق السبيعي: "كانوا يرون السعة عوناً على الدين"، وقال محمد بن المنكدر: "نعم العون على التقى الغنى"، وقال سفيان الثوري: "المال في زماننا هذا سلاح المؤمن"، وقال يوسف بن أسباط: "ما كان المال في زمان منذ خلقت الدنيا أنفع منه في هذا الزمان، الخير كالخيل لرجل أجر ولرجل ستر، وعلى رجل وزر".

 

وقد جعل الله -سبحانه- المال سبباً لحفظ البدن، وحفظه سبب لحفظ النفس التي هي محل معرفة الله والإيمان به وتصديق رسله ومحبته والإنابة إليه، فهو سبب عمارة الدنيا والآخرة وإنما يذم منه ما استخرج من غير وجهه، وصرف في غير حقه، واستعبد صاحبه، وملك قلبه، وشغله عن الله والدار الآخرة، فيذم منه ما يتوسل به صاحبه إلى المقاصد الفاسدة أو شغله عن المقاصد المحمودة، فالذم للجاعل لا للمجعول، وفي الحديث: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم"  فذم عبدهما دونهما.

 

فحب المال غريزة في النفس البشرية، وجبلة في الطبيعة الإنسانية، وليس الإثم والعتب في حب المال إنما الإثم يقوم على أمرين: سوء جمع المال، وسوء أنفاقه، فإن حب المال يدفع كثيراً من الناس إلى جمعه من كل طريق، وتحصيله بكل وسيلة شرعية أو شيطانية، فالمهم عنده الحصول على مال كثير وكسب وفير، والإثم الآخر يكون في إنفاق المال في غير محله أو منع أصحاب الحقوق منه، كحق الزكاة، وحق الأهل الذين أوجب الله -تعالى- الإنفاق عليهم، وهناك أمر آخر يكون مذمة في المال وهو أن يشغل المال المسلم عن العمل للدار الآخرة، فأما من كان المال له وسيلة إلى تحصيل الحلال، وكف الأكف عن الناس، ونفع الآخرين، والأنفاق في سبيل الله -تعالى- فهذا من أشرف المقاصد وأعظم القربات.

 

فالمال فتنة وهو زهرة الدنيا والدنيا حلوة خضرة فمن أخذ المال بحقه ووضعه في حقه بورك له فيه وكان على ذلك مشكوراً؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلمَ- عن ذلك بقوله: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"، وعن أبي سعيد الخدري -رضَي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله، فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها"، فقال رجل: يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فقيل له: ما شأنك تكلم النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينزل عليه، فمسح عنه الرحضاء (أي العرق) فقال: "أين السائل؟" وكأنه حمده، فقال: "إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يُلِمُّ، إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل"؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة".

 

ولكن مصيبة المصائب أن يجنح المال بصاحبه حتى يدفعه إلى هاوية الكفر والجحود ونكران النعم، يدفعه للتكبر والعتو والتعالي على الخلق والخالق -كما حدث مع صاحب الجنتين- فهذا الرجل دخل جنته وهو ظالم لنفسه بسبب كبره وتعاليه على خلق الله، فلما رأى الأموال وقد فتن بهذا المال فقال كلمة الجحود والنكران، كلمة الركون إلى الدنيا والتثاقل إلى الأرض: (قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـذِهِ أَبَدًا)، ثم ازداد غيه فقال بلسان الشاك المرتاب: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) [الكهف: 36]، ثم بدأ يتكلم مع الفقير المؤمن يقول له وأنت تقول يوجد يوم قيامة وتقول أن يوم القيامة يفني كل شيء لا يوجد يوم قيامة وحتى لو في يوم قيامة الذي أعطاني هذا النعيم في الدنيا أكيد يحبني سيعطيني مثله يوم القيامة، مثل ما قالت اليهود: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: 18]، ظنوا أنه ما دام الله ترك عذابهم في الدنيا معناه أن الله يحبهم، وهذا هو عين الاستدراج.

 

هكذا قادته النعم الكثيرة والأموال الجزيلة للكفر والجحود والشك والنكران، فبادت وكان يظنها لا تبيد، وندم حيث لا ينفع الندم.

 

فجحود النعم سبب في زوالها وضياعها، فكم من جاحدٍ مُنكِر، لا يعترف بفضل الله ولا يُقِرّ بعطائه ولا يشكره على آلائه؛ عاقبه الله -تعالى- بزوال النعمة وفقدها، وجعله آية وعبرة للناس من بعده، وهو المشهد الذي تكرر كثيراً في القرآن مع الأفراد والجماعات والأمم؛ قال سبحانه في سورة النحل: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، ويقول الله -تبارك وتعالى- في سورة سبأ في شأن القرية التي سميت السورة باسمها، القرية التي أنعم الله على أهلها بنعم كثيرة من أنهار وزروع وثمار وخيرات كثيرة، فأعرضوا عن شكره، وتخلوْا عن عبادته: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 115 - 17]، وقال تعالى في سورة القلم عن أصحاب الجنة الذين تآمروا وأجمعوا على أن يمنعوا الفقراء من حقهم وعطائهم الذي كانوا يأخذونه من أبيهم قبل وفاته، فكان عاقبة تآمرهم المحق والدمار: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم: 17 - 32].

 

ثالثاً: الدروس العشرة من قصة صاحب الجنتين:

1- القصص القرآني من أروع سبل التعليم والتأديب والاتعاظ، لذلك وجب الاهتمام بها ودراستها بصورة أكثر شمولية وتعمقاً لنفع عموم المسلمين.

 

2- تعيين الأسماء والأماكن والأزمنة من الأمور التي لا تهم كثيراً عند ذكر القصص في القرآن والسنّة، فالعبرة بما يستفاد ويتعظ به من أحداث القصة، لذلك معظم القصص لم يثبت فيها ذكر اسم أو مكان أو زمان.

 

3- أن التكبر بالنعم وفي القلب منها المال والولد، وترك شكر المنعم، قد يدفع المتكبر المتعالي للولوج في داهية الدواهي وهي الكفر والجحود، وهذا يؤكد على خطورة داء الكبر، وأنه من الأدواء التي تحتاج إلى الحسم مبكراً  كي لا تستفحل بذرته في القلوب حتى تصير شجرة ضاربة بجذورها في القلب والنفس، وتثمر ثمرات نكدة من الكفر والشك والجحود كما حدث من صاحب الجنتين.

 

4- الاستدراج بالنعم من أقوى عقبات الله -عز وجل- ومكره بأعدائه، فهم يظنون أن انفتاح الدنيا عليهم دليل على مكانتهم عند الله، وهذا من نقصان عقولهم وجهلهم التام، إذ كيف يرضى عنهم ويمدهم بنعمه، وهل لهم جاحدون ولنعمه منكرون، وفي قيامته شاكون.

 

5- أن النصح هو واجب المسلم بحق الجميع مسلمهم وكافرهم، فلا يستثنى أحد من النصح والإرشاد والموعظة، حتى من كفر بعد إيمانه، وشك في ألوهية وربوبية الخالق، ومع ذلك حق النصح مكفول له، وبذلك ينصلح المجتمع وتُحارب آفاته.

 

6- أن المحاورة مع الكافرين والمتكبرين المنكرين للبعث والنشور يحتاج إلى طريقة خاصة في الاستدلال تقوم على فكرة الإقناع العقلي المتمثل في النظر في آيات الله في الكون والخلق وبدء الخليقة، ذلك لأن نفوسهم العصية ترفض فكرة الاستدلال بنصوص الوحي.

 

7- المسلم يحتاج في كل حين أن يستعلن بتوحيده ويستعلي بإيمانه أمام المنكرين والجاحدين، تذكيراً واتعاظاً وإقراراً وتوحيداً أمام ظلمات الكفر والريب.

 

8- الدعاء بتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصا إن فضّل نفسه بسبب ماله على المؤمنين وفخر عليهم،  مع مراعاة أن دعاء المؤمن على جنتيّ الكافر كان غضبا لله؛ لكونها غرته وأطغته، لعله ينيب ويراجع رشده ويبصر في أمره، فلا حرج على الإنسان أن يدعو على ظالمه بمثل ما ظلمه.

 

9- أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحقَّ الجزاء، ووجد العاملون أجرهم. فمن كان مؤمنا بالله تقيا كان له وليا وأكرمه بأنواع الكرامات، ودفع عنه الشرور والمَثُلات، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه خسر دينه ودنياه.

 

10- أن في يوم القيامة لا نُصرة ولا مُلك إلا لله الحق -جَل جلاله-، وأن جميع من دونه لا يفيد صاحبه شيئا: أن من خذله الله فليس له ولي، ولا ناصر ينصره من عذاب الله، ومن أمِن بأس الله فإنه ضال مضِل.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
رمضان امام رمضان محمد على
20-11-2020

لا تعليق احسنتم