الشخصية السماوية للأمة

محمود شلتوت

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

والشخصيَّة المعنويَّة للأمم، منها شخصيَّة تستمدُّ خُططها من العقل البشري يضعها الإنسان بوحيه الخاص، وشعوره الخاص، ويعمل جهده في تمسك الناس بها، ونزولهم عليها، وهي لذلك تتعدَّد وتتباين تبعاً لتعدُّد مصدرها وتباين التقدير البشري في أساسها وغايتها..

 

 

 

شخصيَّة الشيء هي ما يحقق وجوده، ويميِّزه عن غيره، ويعرف به في ذاته وآثاره ولو أتيح لنا أن نتصوَّر شيئاً ما، دون أن تكون له شخصيَّة لما أمكن الحكم عليه بالوجود، ولظل في الأذهان مجرَّد صورة ليس لها واقع تتعلَّق به الأنظار، أو تتجه إليه الآمال، أو تصرُّ عليه الأحكام، أو يدخل به في حساب الأحياء.

 

والوجود منه حسيِّ لابدَّ له من شخصيَّة حسيِّة، ومنه معنوي لابدَّ له من شخصيَّة معنويَّة، والشيء لا يحظى بالوجود الكامل، ولا يستحق عنوان الوجود، إلا إذا نال نصيبه من الشخصيتين: الحسيِّة والمعنويَّة، وعندئذ يتحقق له الوجدان الحسيِّ والمعنوي ويكمل في صورته ومعناه.

 

وإذا كان للأفراد كما ترى شخصيَّة حسيِّة، تحقق لها وجودها الحسيِّ، فلها أيضاً شخصيَّة معنويَّة تحقق لها وجودها المعنوي.

 

وشخصيَّة الأفراد الحسيِّة ترجع إلى ما لها من صورة وشكل، وحركة وسكون ومأكل ومشرب، واستقرار وارتحال.

 

وشخصيتها المعنويَّة ترجع إلى مقدار ما لها من تماسك وتخلخل، وثبات وتردُّد، ونفع وضر، وإذا ما خلت الأفراد عن الروح الذي يحقِّق لها مركزاً في الوجود، ويفيض عنه آثارها التي هيئت لها، وظلَّت في وجودها عند شخصيِّتها الحسيِّة كانت فاقدة للوجود المعنويِّ، وكانت بفقدها إيَّاه، ظلاً لغيرها، تتحرَّك بحركته إذا تحرَّك، وتسكن بسكونه إذا سكن، وتفكِّر بعقله إذا فَكَّر، وهكذا لا يُنسب إليها شيء من آثار الإنسانيَّة التي يتبوَّأ الإنسان مركزَها في الحياة.

 

شخصيَّة الأمَّة:

وإذا كان للفرد شخصيَّة حسيِّة، وأخرى معنويَّة وبتحققها يتحقق وجوده في ذاته وفي آثاره، وبفقدهما يفقد وجوده الحسيِّ فلا تتحقق ذاته ويفقد وجوده المعنوي فلا يكون له آثار، فإنَّ الأمَّة كالفرد في ذلك كله لها شخصيَّة حسيِّة، تحفظ عليها وجودها الحسيِّ، وأخرى معنويَّة تحفظ عليها وجودها المعنوي، وترجع شخصيتها الحيَّة إلى إقامتها في إقليمها الذي نشأت فيه ونسب إليها أو نسبت إليه، وافترشت أرضَه، والتحفت سماءه، وضربت في أرجائه وتغذَّت بثماره وارتوت بمائه.

 

وترجع شخصيَّتها المعنويَّة إلى وزن شُعورها بقيمتها في الحياة العامَّة، وإلى ما تفترضه لنفسها من نصيب في أعباء تلك الحياة، وإعداد مسالك الخير أو الشر فيها، وإلى مقدار ما تنفع به أو تضر نفسها أو غيرها من سلوكها ومن صلتها باتجاهات الخير أو منازع الشر.

 

وإذا ما انعدمت هذه الشخصيَّة المعنويَّة أو ضعفت، ووقفت الأمَّة بنفسها على حدود شخصيَّتِها الحية، انعدم وجودها المعنوي أو ضعف، وصارت أمَّة ذليلة، وإن كانت مقيمة في بيتها، فقيرة، وإن كان ينزل عليها المنُّ والسلوى، وتنبع لها قناطير الذهب والفضة، قليلة وإن ضاقت وديانها بأفرادها، فهي كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "غثاء كغثاء السيل" تتهافت عليها الأمم ذات الشخصيَّات الكادحة، كما تتهافت الأكلة على قصعتها، تملكها الوهن، وملأها الجبن، وعزبت عنها عناصر العمل.

 

الشخصيَّة البشرية:

والشخصيَّة المعنويَّة للأمم، منها شخصيَّة تستمدُّ خُططها من العقل البشري يضعها الإنسان بوحيه الخاص، وشعوره الخاص، ويعمل جهده في تمسك الناس بها، ونزولهم عليها، وهي لذلك تتعدَّد وتتباين تبعاً لتعدُّد مصدرها وتباين التقدير البشري في أساسها وغايتها، وهي في جميع ألوانها وأهدافها تدور حول اعتبارات ماديَّة لا تتصل بالروح، ولا بالفكرة السامية التي تتخذ الوحدة الإنسانية أساس شخصيتها المعنويَّة، وميدان عملها في الحياة.

 

ومن هنا تختلف بالأمم السبل، وتنزع كل أمَّة إلى البناء على أساسها الخاص، وتنشأ عن ذلك المنافسات وتنبت العداوات، وتوجد الأحقاد والأطماع، ويكون الاستغلال وتكون الفتن المفرِّقة، والحروب الطاحنة، والتفنُّن في وسائل التخريب والتدمير.

 

وبذلك يصير العالم - كما نراه اليوم – وقد بعدت عنه عناصر الخير، وتخلَّت عنه أرواح الأمن والسلم، على فوهة من الجحيم، ينتظر من آنٍ إلى آخر، الوقت الذي يسقط فيه إلى الهاوية.

 

وما حديث الذرَّة وأخواتها، وما التحكُّم في الشعوب وشدُّ الخناق عليها، ومحاولة سلب حقوقها، إلا تعبير صادق عن الحلقة الأخيرة من هذه الحلقات المحزنة المخرِّبة، التي جرَّت وتجر الويلات على العالم بسبب تحكم هذه الشخصيات التي ابتدعها الإنسان سيراً مع شهواته، ثم أفرغ وُسعه في إخضاع الناسِ لها وتسخيرهم بها: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) [البقرة:210].

 

وسيظلُّ العالم يبعدُ عنه الخير، ويقترب من الشر، ما دامت أممه تتردَّد بين أمَّة فقدت شخصيَّتها المعنويَّة وسكنت إلى الذِّلَّة والضعف والفاقة، وأمَّة تتخذ لنفسها تبعاً لهواها شخصيَّة تجوس بها خلال غيرها من الأمم ذات الوهَن، وتسلبها عزها وإرادتها.

 

الشخصيَّة السماويَّة:

ولا سلامة للعالم من طغيان القوَّة والجبروت ولا من ذِلَّة الضعف والهوان، إلا إذا خلَّصت الأمم ذات الشخصيَّات البشريَّة الطاغية، نفسها من إطار تلك الشخصيات، ورمت بها إلى قاع المحيطات، ورجعت إلى هذه الشخصيَّة المعنويَّة التي رسمها العليم الخبير بطبائع البشر، طريقاً لسعادته، ونزل بها الروح الأمين على رسل الله تعالى.

 

ثم أخذت على عاتقها غرس تلك الشخصيَّة في الأمم الأخرى التي حصرت وجودها في دائرة شخصيتها الحسيِّة، ذات المأكل والمشرب، ذات اللهو واللعب والحرمان من معنى الحياة الحقَّة التي خلق لها الكون، وجعل الإنسان خليفتها يقودها وينظمها: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَة أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه:123-127].

 

وهذه الشخصيَّة السماويَّة، نزل بها القرآن وبيَّن معالمها، وأوضح عناصرها، وهدى الناس إليها: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153]، آمن بها فريق من الناس حيناً من الدهر، وبَنَوا حياتهم على أساس منها فوجَّهوا أنفسهم ووجهوا العالم إلى كثير من آفاق الخير: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) [الأعراف:169]، حتى ران زخرف الحياة على قلوبهم، وشغلوا بشهواتهم، وغرَّتهم الحياة الدنيا: (نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر:19]، وأسلموا أنفسهم لأرباب الشخصيات الأخرى، وتعلَّقوا بأذيالهم في كل شيء، في علمهم إذا طلبوا العلم، وفي قُوتهم إذا طلبوا القوَّة، وفي اقتصادهم إذا طلبوا الاقتصاد، وفي نظامهم إذا طلبوا النظام، وفي قانونهم إذا طلبوا القانون، وفي حضارتهم إذا طلبوا الحضارة.

 

وهكذا ضيَّعوا شخصيتهم، وتفرَّقت بهم السبل، وانحازت كل طائفة منهم إلى أهل شخصيَّة خاصة، يستظلون بظلهم، ويطلبون منهم العون والنصرة وبذلك ذابوا في غيرهم، وفقدوا وجودهم كأمَّة لها في الحياة وجود خاص ومنهج خاص.

 

تفرَّقوا عن رباطهم المقدس الذي يربط قلوبهم بالعزة، وفقدوا جميع الوسائل التي تدفعهم إلى الالتفاف حول ذلك الرباط، والاعتصام بحبله: (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:156].

 

عودوا إلى شخصيَّتكم...

 

عودوا إلى شخصيَّتكم السماويَّة التي أكملها الله لكم، وربط بها خيركم وفلاحكم..

 

عودوا إليها وأقيموها فيما بينكم من جميع جوانبها، لتأتلف قلوبكم ويقوى سلطانكم، وتنفذ كلمتكم، وتصان عزتكم.

 

عودوا إلى شخصيَّتكم..

 

وأنقذوا بها أنفسكم من هول ما يحيطكم ويتربص بكم، وأنقذوا بها العالم من الجمر الذي يتقلَّب فيه، كما أنقذه بها من قبل أسلافكم.

 

إنَّ الشخصيَّة هي الشخصيَّة، لا تزال بيِّنة واضحة في كتابها، والعالم هو العالم لا يزال ينقاد بطبعه إلى الخير متى وجد إليه سبيلاً، ولكن كونوا أنتم كما كان آباؤكم، واعلموا: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: (مجلة الأزهر، شعبان 1382 - العدد 220).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات