‘ الآخر ‘ في الحضارة الإسلامية بين الحقائق التاريخية والأباطيل العلمانية (1-2)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وقد جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم: "أهل الذمة" أو "الذميين". و"الذمة" ليست مصطلحاً عنصرياً أو إقصائياً كما يروج الجهلة والمفتونون بالغرب والمتأثرون بدعاياته السلبية، بل كلمة تشمل معان عظيمة وراقية، فهي تعني: العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله وعهد رسوله، وعهد جماعة المسلمين أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناءً على "عقد الذمة"، فهذه الذمة تعطي أهلها - من غير المسلمين - ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها..

 

 

 

جاءت قرارات الرئيس الأمريكي " ترامب " الأخيرة بمنع دخول مسلمي سبع دول مسلمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع استثناء غير المسلمين من هذا المنع لتعيد الحديث الذي لا ينقطع عن اضطهاد الأقليات المسلمة في الغرب ومعاناتهم الكثيرة من أجل التمسك بدينهم في بلاد تدعي الحرية والتسامح وقبول الآخر وتفتخر بالعلمانية التي يعتبرونها خلاصة الفكر الغربي وأعظم منتجاته.

 

ومن أجل استمرار حملة استغفال المسلمين والعبث بثوابتهم انطلقت الأقلام العلمانية والليبرالية – وجلها مأجورة – من أجل محاولة تجميل وجه أمريكا القبيح وستر عورة الفكر الغربي المتعصب من جذوره، وذلك بسرد سلسلة من الأكاذيب والأباطيل التاريخية والفكرية والعقلية عن اضطهاد المسلمين لليهود والنصارى، وانتشار الإسلام بحد السيف، وإكراه غير المسلمين على الإسلام في البلاد التي فتحها المسلمون، ثم هم لا يكتفون بتلك الكذبات الخاطئات، ولكنهم أضافوا إلى تلك الجناية جانية أخرى لا تقل عنها سوءاَ؛ ألا وهي تسامح غير المسلمين مع المسلمين في بلاد الغرب، اتكاءً على بعض المكتسبات البسيطة التي نالها مسلمو الغرب في مقابل مصادرة معظم حقوقهم وأبسط حرياتهم.

وفي ثنايا الحملة المغرضة ظهرت مصطلحات قديمة تمَّ استحضارها من سلَّة مهملات التَّاريخ مثل: (زمالة الأديان)، (السَّلام العالمي)، (الإنسانيَّة الدَّوْليَّة) إلى غير ذلك من الأفكار الَّتي تمَّ استيرادها خصيصاً لإثارة الجدل والشبه والشكوك على عقيدة المسلمين، ومن المصطلحات الجديدة التي أثيرت في هذه الحملة (مصطلح الآخر)، ويقصد بالآخر "غير المسلم" الَّذين هم عادة اليهود والنَّصارى المقيمين داخل البلدان الإسلاميَّة كأقليَّةٍ وسط المجتمعات المسلمة. ولما كان هذا المصطلح كسابقيه يخفي تحت جمال ظاهره الكثير من الأباطيل، فلقد أفردنا الدِّراسة السَّابقة عن مصطلح الآخر وحقيقة وجوده، وأصل نشأته ومرادفاته الثقافية والتاريخية.

العجيب أن المسلمين نتيجة جهلهم بدينهم وبتاريخهم يجعلون أمثال تلك الشبهات والتهم تروج عليهم، فيقعون صرعى حمى التأويل الدفاعي للإسلام، وتعقد المؤتمرات للدفاع عن الإسلام ضد هجمات أعدائه، وينبري العلماء للدفاع عنه بصورة كأننا مخطئون ومذنبون، يقفون موقف المدافع ابتداء، وتراهم يؤولون ويشوهون حقائق الإسلام من حيث لا يشعرون، وهذا يذكرنا من قبل عندما احتل الإنجليز مصر بدعوى حماية الأقباط، ونشروا الشَّائعات عن ذلك، فانبرى العلماء والمشايخ للدفاع، ويا ليتهم ما فعلوا!! إذ قال الشَّيخ المراغي (شيخ الأزهر السابق) في رسالةٍ بعث بها إلى مؤتمر الأديان العالمي: "اقتلع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الدِّيني بالنِّسبة لأتباع الدِّيانات السَّماويَّة الأخرى، وأقرَّ بوجود زمالةٍ عالميَّةٍ بين أفراد النَّوع البشري، ولم يمانع أن تتعايش الأديان جنبًا إلى جنبٍ". وهذه عينة مما يمكن أن تنتجه حملات التَّشكيك على عقيدة المسلمين؛ لذلك وجب هتك أستار هذه الأباطيل، ودحض شبهات وأكاذيب تلكم الثلة التي انسلخت من أصلها وفصلها من أجل إرضاء عيون من لا يقيم لهم جناح بعوضة، وبيان سماحة الإسلام وصورها العظيمة عبر التاريخ، والتعامل الراقي للمنهج الإسلامي مع الأقليات في المجتمعات المسلمة، وموقف الآخر أو الأقليات غير المسلمة من قضية الولاء والبراء عبر التاريخ، والتي تبين الفارق والبون الشاسع بين الإسلام وخصومه، كما قال الشاعر:

ملكنا فكان العفو منا سجية***فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما***غدونا على الأسرى نمن ونصفح

وحسبكم هذا التفاوت بيننا***وكل إناء بالذي فيه ينضح

 

أولاً: نظرة الإسلام للآخر في المجتمع الإسلامي:

المجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على عقيدة خاصة، منها تنبثق نظمه وأحكامه، وآدابه وأخلاقه، هذه العقيدة هي الإسلام، وهذا هو معنى تسميته "المجتمع الإسلامي"؛ فهو مجتمع اتَّخذ الإسلام منهاجًا لحياته، ودستورًا لحكمه، ومصدرًا لتشريعه وتوجيهه في كل شؤون الحياة، وعلاقاتها فردية واجتماعية، مادية ومعنوية، محلية ودولية.

ولكن ليس معنى هذا أن المجتمع المسلم يحكم بالفَناء على جميع العناصر التي تعيش في داخله، وهي تدين بدين آخر غير الإسلام!كلا، إنه يقيم العلاقة بين أبنائه المسلمين وبين مواطنيهم من غير المسلمين على أسس وطيدة من التسامح والعدالة، والبر والرحمة، وهي أسس لم تعرفها البشرية قبل الإسلام، وقد عاشت قرونًا بعد الإسلام وهي تقاسي الويل من فقدانها، ولا تزال إلى اليوم تتطلع إلى تحقيقها في المجتمعات الحديثة، فلا تكاد تصل إليها في مجتمع ما، وفي وقت ما، إلا غلب عليها الهوى والعصبية، وضيق الأفق والأنانية، وجرَّتها إلى صراع دامٍ مع المخالفين في الدين، أو المذهب، أو الجنس، أو اللون ، وما فعله ويفعله ترامب بأمريكا مع المسلمين خير مثال حاضر على هذا التعصب والعنصرية .

دستور العلاقة مع غير المسلمين:

أساس العلاقة السوية مع غير المسلمين قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [الممتحنة: 8، 9]؛ فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعًا، ولو كانوا كفارًا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.

 

وقد جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم: "أهل الذمة" أو "الذميين". و"الذمة" ليست مصطلحاً عنصرياً أو إقصائياً كما يروج الجهلة والمفتونون بالغرب والمتأثرون بدعاياته السلبية، بل كلمة تشمل معان عظيمة وراقية، فهي تعني: العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله وعهد رسوله، وعهد جماعة المسلمين أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناءً على "عقد الذمة"، فهذه الذمة تعطي أهلها - من غير المسلمين - ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين، ويلتزمون بواجباتهم؛ فالذمي على هذا الأساس من "أهل دار الإسلام" كما يعبر الفقهاء، أو من حاملي الجنسية الإسلامية كما يعبر المعاصرون. وحقوق أهل الذمة سواء بسواء بحقوق المسلمين في المجتمع الإسلامي إلا ما تم النص على استثناءه مثل الولايات العامة ونكاح المسلمات، كما أن عليهم ما على المسلمين من الواجبات إلا ما استُثنِي نصاً. فعن قرة بن دعموص قال: "ألفينا النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع فقلنا: يا رسول الله ما تعهد إلينا؟ قـال:"أعهد إليكم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتحجوا البيت الحرام وتصوموا رمضان؛ فإن فيه ليلة خير من ألف شهر، وتحرموا دم المسلم وماله والمعاهد إلا بحقه وتعتصموا بالله والطاعة". فساوى -صلى الله عليه وسلم- بين حرمة المسلم والمعاهد وحقوقهما سواء بسواء.

حقوق أهل الذمة في المجتمع الإسلامي:

حق الحماية: وتشمل حماية الدماء والأعراض والأموال.

فأول هذه الحقوق هو حق تمتعهم بحماية الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجي، ومن كل ظلم داخلي، حتى ينعموا بالأمان والاستقرار. أما الحماية من الاعتداء الخارجي، فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى الإمام -أو ولي الأمر في المسلمين بما له من سلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية -أن يوفر لهم هذه الحماية. وينقل الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول الإمام الظاهري "ابن حزم" في كتابه "مراتب الإجماع" أن مَن كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صونًا لمن هو في ذمة الله -تعالى- وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة، وعلق على ذلك القرافي بقوله: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صونًا لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم". ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي، موقف شيخ الإسلام "ابن تيمية" حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليكلِّم قائد التتار "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبَى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا، لا من أهل الذمة ولا من الملة، فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.

وأما الحماية من الظلم الداخلي، فهو أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة، ومنها: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن ظلم معاهَدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أحذ منه شيئًا بغير طِيب نفسٍ منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة". وفي عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران أنه: "لا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر".

 

كان عمر -رضي الله عنه- يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: "ما نعلم إلا وفاء"؛ أي: بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلاًّ من الطرفين وفَّى بما عليه، كما قال عمر -رضي الله عنه- في وصيته للخليفة بعده: "وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرًا، أن يوفى لهم بعهدهم، ويحاط من ورائهم". وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا ".

 

ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر المحرمات؛ لهذا الوعيد في الحديث: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا"، وفي ذلك كتب أبو يوسف في "الخراج": أن "هشام بن حكيم بن حزام" أحد الصحابة -رضي الله عنه- رأى رجلاً -وهو على حمص- يشمِّس ناسًا من النبط في أداء الجزية، فقال: ما هذا؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله -عز وجل- يعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا".

 

ومثل حماية الأنفس والأبدان حماية الأموال، وهذا مما اتفق عليه المسلمون، في جميع المذاهب، وفي جميع الأقطار، ومختلف العصور. روى أبو يوسف في "الخراج" ما جاء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أموالهم وملتهم وبِيَعِهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير". وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما-: "أن امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحلها".

 

وعن عامر بن عبد الله اليحصبي: أن رجلاً جاءه بمخلاة فيها حشيش أو تبن أخذها من بعض أهل الذمة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للرجل: "ما هذا؟" قال: أخذته وليس بشيء. قال: "أخفرت ذمتي أخفرت ذمتي أخفرت ذمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم". قال: فذهب الرجل فأعطاها صاحبها ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألم تحتج إلى ما أخذت منه؟" قال: بلى. قال: "فهو إلى الذي له أحوج ".

 

وعن العرباض بن سارية السلمي قال: نزلنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً (المارد العاتي) منكرا؛ فأقبل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا؟ فغضب -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- وقال: "يا ابن عوف اركب فرسك ثم ناد ألا إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة". قال: فاجتمعوا ثم صلى بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قام فقال: "أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله –تعالى- لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم".

 

وعلى هذا استقرَّ عمل المسلمين طوال العصور، فمَن سرق مال ذمي قطعت يده، ومن غصبه عزِّر، وأعيد المال إلى صاحبه، ومَن استدان من ذمي فعليه أن يقضي دينه، فإن مطله وهو غني حبسه الحاكم حتى يؤدي ما عليه.

وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة، وهي مسئولة عن كل رعاياها، هذا ما مضت به سنة الراشدين ومَن بعدهم، ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق -وكانوا من النصارى-: "وجعلت لهم أيما شيخ ضَعُف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دِينه يتصدَّقون عليه، طرحت جِزيته، وعِيلَ من بيت مال المسلمين هو وعياله". وبهذا تقرَّر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره "مبدأً عامًّا" يشمل أبناء المجتمع جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ولا يجوز أن يبقى -في المجتمع المسلم -إنسان محرومًا من الطعام، أو الكسوة، أو المأوى، أو العلاج، فإن دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلمًا كان أو ذميًّا.

 

حق الحرية: ويشمل حرية الاعتقاد والعبادة والتكسب والانتقال:

ويحمي الإسلام - فيما يحميه من حقوق أهل الذمة - حق الحرية، وأول هذه الحريات: حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يجبر على تركه إلى غيره، ولا يضغط عليه أي ضغط ليتحول منه إلى الإسلام، وأساس هذا الحق قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[البقرة: 256]، وقوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [يونس: 99]. قال ابن كثير: "أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه. وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدَهم، ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 39، 40]. وقد اشتمل عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل نجران على أن لهم جوار الله وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على أموالهم وملتهم وبِيَعِهم. وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء "القدس" نصَّ على حريتهم الدينية، وحرية معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله "عمر بن الخطاب" أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود"؛ كما رواه الطبري.

ولما حان وقت صلاة وفد نصارى نجران قاموا يصلون في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " دعوهم. فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم". وفي هذا يقول ابن القيم: "جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين. وفيها: تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفى مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً، ولا يمكنون من اعتياد ذلك".

 

وقد أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقبط وصية خاصة، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط؛ فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحماً أو قال ذمة وصهراً؛ فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فاخرج منها". قال: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها.

 

ولغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين، فقد قرر الفقهاء أن أهل الذمة في البيوع، والتجارات، وسائر العقود، والمعاملات المالية كالمسلمين، ولم يستثنوا من ذلك إلا عقد الربا، فإنه محرَّم عليهم كالمسلمين، وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مجوس هجر: "إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله "، كما يمنع أهل الذمة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها لشرب الخمر، ومن تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور، ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاص؛ سدًّا لذريعة الفساد وإغلاقًا لباب الفتنة.

 

لأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية؛ كالإمامة، ورئاسة الدولة، والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات، ونحو ذلك. قد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرَّح فقهاء كبار -مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية" -بجواز تقليد الذمي "وزارة التنفيذ"، ووزير التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها، ويمضي ما يصدر عنه من أحكام. وهذا بخلاف "وزارة التفويض" التي يَكِل فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور السياسية والإدارية والاقتصادية بما يراه، وقد تولَّى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، وكان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني. وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا الأمر أحيانًا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين.

 

وإجمالاً يتلخص الموقف الإسلامي الراشد من غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية في النقاط التالية:

1. تميز دين الإسلام بأنه دين اليسر ورفع الحرج والمشقة فلا عسر فيه، ولا أغلال ولا آصار، وهذه ميزة للإسلام لا يشاركه فيها دين آخر.

 

2. شمل الإسلام بيسره ورفقه غير المسلمين فتسامح معهم في كثير من القضايا والأحكام ومنحهم كثيراً من الحقوق.

 

3. حرص الإسلام على هداية الناس جميعاً وترغيبهم فيه لإنقاذهم من الضلالة إلى النور، ومن عذاب الله إلى رضوانه.

 

4. من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية بالنسبة للذميين تركهم وما يدينون به.

 

5. حث الإسلام على الوصية بأهل الكتاب والعهد والمستأمنين، وعدم التعرض لهم بظلم أو أذى.

 

6. جعل الإسلام لدم المعاهد وماله اعتباراً، ومن ذلك أنه فرض الدية على من اعتدى على ذمي عمداً أو خطأً.

 

7. لا يجوز ظلم غير المسلمين بمختلف أجناسهم ودياناتهم.

 

8. أمر الإسلام بالوفاء بالعهود والمواثيق وحذر من نقضها بأي صورة من الصور طالما هي موافقة لمنهج الله وشرعه وموافقة للمصالح العامة.

 

9. العلاقات الدولية في الإسلام قائمة على السلم بل على البر والإقساط والتعاون والرحمة، مع الأمم الأخرى.

 

10. يأمر الإسلام بالإحسان والصلة ولو على غير المسلمين.

 

11. من مظاهر تسامح الإسلام مع أهل الكتاب إباحة أكل ذبائحهم ومصاهرتهم.

 

12. من مظاهر التسامح في دين الإسلام إباحة التعامل مع غير المسلمين في العقود المالية.

 

13. يجوز مخالطة أهل الكتاب وغيرهم من غير المسلمين لحاجة دينية أو دنيوية.

 

14. يقيم الإسلام العلاقة بين المسلمين وغيرهم ممن لم يقاتلوهم في الدين أو يخرجوهم من ديارهم على البر والإقساط والإحسان.

 

15. من أعظم سمات تسامح الإسلام مع غير المسلمين طلب الكف والعفو عنهم وعن إساءتهم.

 

16. الجهاد في الإسلام مصون بأحكام وقواعد وآداب شرعية. فمن تلك الآداب:

 

• النهي عن قتل النساء والصبيان ومن لا يقاتل كالرهبان والقساوسة ومن في حكمهم.

 

• النهي عن الغدر والمثلة.

 

• النهي عن القتال قبل الدعوة.

 

• الأمر بالإحسان إلى الأسرى.

 

• الأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق.

 

• النهي عن قتل الرسل والسفراء.

 

17. من مظاهر التسامح في الجزية كفالة الفقراء والمحتاجين منهم، وحمايتهم ضد أي اعتداء داخلي كان أم خارجي؛ فالمسلمون مطالبون بالحفاظ على حقوق أهل الذمة وأموالهم وأنفسهم.

 

وللحديث بقية..

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات