سطوة القرآن (1ـ2)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

سجدوا وهم مشركون، وهم يمارون في الوحي والقرآن، وهم يجادلون في الله والرسول! سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول -صلى الله عليه وسلم- يتلو هذه السورة عليهم، وفيهم المسلمون والمشركون. ويسجد فيسجد الجميع. لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن، ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان. ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون.

 

 

 

 

من أهم الأوصاف التي وصف بها القرآن أنه: "روح" قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52]. فأهمية وجوده في القلب وتأثيره عليه، كأهمية الروح بالنسبة للجسد، بل يزيد باعتبار أن الأجساد إلى زوال، وأن القلب هو محل نظر الله -عز وجل-، وعلى قدر سلامته وصحته تكون الاستقامة في الدنيا، والنجاة يوم القيامة (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89]. لذلك لا يخطئ من يقول بأن من يقرأ القرآن ويُحسن التعرض لتأثير آياته يجد نفسه وكأنه يتعامل مع كائن حي، ينتقل بين سور القرآن فتتحرك بها مشاعره، هذه سورة تثير فيه مشاعر الثقة والاعتزاز، وتلك سورة تثير فيه مشاعر الغيرة، وأخرى تثير فيه مشاعر الغضب لله، وتلك سورة تثير فيه مشاعر الأحزان، وهكذا. فالقرآن ليس كتابًا فحسب، وليس دواء فحسب. إنه شيء متفرد لا يمكن إدراك كنهه وقدرته الفذة على العمل في ذات الإنسان، إنه يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير.

 

إن في القرآن طاقة روحية هائلة ذات تأثير بالغ الشأن في نفس الإنسان، فهو يهز وجدانه، ويرهف أحاسيسه ومشاعره، ويصقل روحه، ويوقظ إدراكه وتفكيره، إنه يثير العواطف ويوقظ العقول في وقت واحد، وبعد الاقتناع يطمئن العقل ويهدأ الإحساس، ويشعر الإنسان بنشوة الفرح والارتياح. يقول الأستاذ محمد فريد وجدي المفسر والموسوعي الكبير: "إن في هذا القرآن سرًا خاصًا يشعر به كل من يواجه نصوص القرآن ابتداءً قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيه، إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن. يشعر أن هنالك شيئًا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هنالك عنصرًا ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحًا، ويدركه بعض الناس غامضًا، ولكنه على كل موجود هذا العنصر الذي ينسكب في الحس، يصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم أنها تشمل ما تقدم وشيئًا آخر وراءها غير محدود! ذلك سر مودع في كل نص قرآني يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداءً ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله".

 

فالقرآن له سلطان الجلال والمهابة يستولى على قلوب المخاطبين استيلاءً، كالقهر وما هو بالقهر، له فعل في القلوب كالسحر وما هو بالسحر، لا يختص ذلك بالأنصار دون الخصوم، ولا بمحالفيه دون مخالفيه، بل يغزو القلب من حيث لا يمكن لصاحبه رد، ويؤثر فيه من حيث لا يمكن دفع، أثر في الأعداء كما أثر في الأتباع، إنها سطوة القرآن التي لا يستطيع أعتى الخصوم أن يكابر أمامها أو ينكر تأثيرها.

 

سطوة القرآن على الجمادات: 

لقد وصف لنا القرآن بعضًا من مظاهر تأثيره في الآخرين، ولم يقصر القرآن هذا التأثير على البشر فقط بل نجده قد تعداهم إلى الجن، بل وإلى الجماد، ولئن كنا لا نستطيع إدراك سر تأثير القرآن وكيفية عمله في داخل الفرد إلا أننا يمكن أن ندرك بعضاً من أبعاده من خلال نتائج ومظاهر هذا التأثير.

 

لقد بلغ من شأن القرآن وعظمته وشدة تأثيره أنه لو أُنزل على جبل من الجبال، وجُعل له عقل كما جُعل للبشر، لرأيت الجبل -مع كونه في غاية القسوة والصلابة- خاشعًا متصدعًا من خشية الله كما قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر: 21] أي: لاتَّعظ الجبل وتصدَّع صخرُه من شدة تأثره من خشية الله. ففي هذا بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشمًا، أو حجرًا أصمًا، وضُرب التصدع مثلاً لشدة الانفعال والتأثير؛ لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنشق وتتصدع، ولا يحصل ذلك بسهولة.

 

سطوة القرآن على الجن:

ومن مظاهر تأثير القرآن، والتي حدثتنا عنها الآيات، ما حدث لمجموعة من الجن حينما استمعوا إلى آيات من القرآن فكان أول رد فعل لهم أن قال بعضهم لبعض: (أنصتوا) ولم يقولوا (اسمعوا) فقد أدهشهم الخطاب، وسيطر عليهم، فتأثروا به تأثرًا بالغًا، وكانت النتيجة السريعة لهذا التأثر هو الرغبة الجارفة بتبليغ ما فهموه من فحوى الخطاب القرآني لقومهم: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ*قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ*يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ( [الأحقاف: 29- 31].

 

فالآيات تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن، فقد استمعوه صامتين منتبهين حتى النهاية. فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به. وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب، يدفعه دفعاً إلى الحركة والاحتفاء بشأنه وإبلاغه للآخرين بجد واهتمام.

 

سطوة القرآن على مشركي قريش:

تروى لنا كتب السيرة: أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل والأخنس بن شريق، وكانوا من أكابر مشركي قريش ورؤسائهم، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعرف بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا قائلين: "فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: "لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا".

فما الذي دفعهم لذلك؟!

إنه التأثير القوي للقرآن على قلوبهم، والذي لم يجعلهم يستطيعون السيطرة على أنفسهم التواقة للاستماع إليه، فعادوا رغم تعاهدهم على عدم العودة إلى سماعه، ولهذا خشوا من هذا التأثير على عبيدهم وسائر الناس فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا.

 

سطوة القرآن على الوليد بن المغيرة: سمع الوليد بن المغيرة شيئًا من القرآن فكأنما رق له فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبون قريش كلها. فأوفدوا إليه أبا جهل يثير كبرياءه واعتزازه بنسبه وماله ويطلب منه أن يقول في القرآن قولاً يعلم به قومه أنه له كاره. فقال: "فماذا أقول فيه؟ فو الله ما منكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا. والله: إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى".

 

اعترافات عتبة بن ربيعة: وهذا عتبة بن ربيعة من سادة قريش يقوم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- ليفاوضه باسم المشركين من قريش، ويعرض عليه بعض العروض، لعله يقبل بها، ويترك دعوته. فيعرض عليه المُلك، ويعرض عليه المال، ثم يعرض الطب إن كان ما يأتيه من قبيل الوساوس والجنون. حتى إذا فرغ الرجل من عروضه، وأتم مهمته، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوقد فرغت يا أبا الوليد قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: أفعل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم:  (حم*تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ*وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) [فصلت: 1-5]. ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليه سورة فصلت، وعتبة منصت لها، وقد ألقى يديه خلف ظهره، معتمدًا عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى آية السجدة من السورة، فسجد وسجد معه عتبة، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك".

 

وفي بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- لما وصل إلى قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) قال له عتبة: "ناشدتك لله والرحم أن تمسك"، إذ لم يعد عتبة يتمالك نفسه أمام هذا الذي يسمع مما لا قبل لأهل الأرض به. ثم قام عتبة إلى أصحابه الذين بعثوه عنهم رسولاً ومفاوضًا، إلا أنه كان قد سمع ما سمع، فأثر القرآن في نفسه وجوارحه، حتى بدا ذلك في وجهه، فقال القوم بعضهم لبعض: نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: "ورائي إني سمعت قولاً، والله ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ".

 

السجود الجماعي:

في يوم من الأيام كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ سورة النجم عند الكعبة، وكان يستمع لقراءته العديد من المشركين، فسكتوا وأنصتوا، وتأثروا لدرجة أنه عندما بلغ نهاية السورة، وسجد عند قوله تعالى: (فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا) لم يتمالك جميع المستمعين السيطرة على أنفسهم وخروا ساجدين. يقول عبد الله بن مسعود: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ بالنجم فسجد، فلم يبق أحد إلا سجد، إلا أن شيخًا أخذ كفًا من تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا.

 

سجدوا وهم مشركون، وهم يمارون في الوحي والقرآن، وهم يجادلون في الله والرسول! سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول -صلى الله عليه وسلم- يتلو هذه السورة عليهم، وفيهم المسلمون والمشركون. ويسجد فيسجد الجميع. لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن، ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان. ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون.

 

وللحديث بقية.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات