سلطان العقل والعلم في الدين الإسلامي

عبد الله المراغي

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحضُّ العقل حضاً وتدفعه دفعاً إلى أن يكشف أسرار الكون ويستغلَّ كل ذَرَّة من ذَرَّاته، وكل جزء من أجزائه، ليحقق ما وعده الله تعالى به، وما ندبه إليه في قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:13].

 

 

 

 

اقتضت إرادة الله تعالى إيجاد الإنسان في الأرض لينهض بعمارتها واستصلاحها على وجه يكفل له قيام نظام مستقر آمن مطمئن، ومن أجل ذلك كلَّفه سبحانه بتكاليف بدنيَّة كالصلاة والصوم وأخرى ماليَّة كالزكاة والصدقات، وجميع التكاليف الشرعيَّة لا يقصد بها الشارع سوى تهذيب النفس البشرية وتمكين المحبة والصلات الطيبة بين أفراد المجتمع لتزول الفوارق التي ينشأ عنها العداوة والبغضاء والتي تزعزع السلم الواجب تحققه بين الناس.

 

والمتدبر لبعض آي القرآن الكريم يبدو له وضوح تلك النظرية؛ فالله تعالى يخاطب رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، ويخاطب المؤمنين بقوله:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].

 

فليس لله تعالى حاجة فيما كلَّف به عباده أمراً أو نهياً فعلاً أو تركاً، فسلسلة التكاليف الإسلاميَّة تبدأ بالركن الأول وهو الإيمان الذي هو اعتقاد راسخ لا يشوبه شك، ولا يَعتريه ريب، وذلك الاعتقاد يتركَّز في توحيد مُبدع الكائنات وتنزيهه عن مُشابهة شيء من المخلوقات وينبني على هذا الإيمان بقية الأركان.

 

فالصلاة تتألَّف من خشوع وخضوع وشكر لله تعالى بجميع الجوارح على ما أنعم من النعم التي لا تُعدُّ ولا تحصى من سمعٍ وبَصر وعقل تميز به الإنسان عن جميع المخلوقات وبه سَخَّر ما حوله من الخلق وانتفع بما في الأرض والسماوات، ونال به التكريم من الله تعالى إذ يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ) [الإسراء:70]، ولقد حدَّد القرآن الكريم الثمرة التي تؤتيها الصلاة والعاقبة التي يصل إليها المصلي والغاية التي يَنالها المتبتِّل القانت الراكع الساجد، فقال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ) [العنكبوت:45]، وبعد هذا تأتي الزكاة التي توجب على الأغنياء حقاً للفقراء ليسود في المجتمع التآخي والمودة وتزول الفرقة والنفور وتخف وطأة الفقر عن المعدمين فإنَّ قوَّة الفقر تحمل على تفكير الفقراء في سلسلة من الجرائم وأنواع من الفوضى تكدر صفو المجتمع وقد تُودي ببنيانه.

 

ثم الصوم الذي يحبس النفس عما ترغب فيه من طعام وشراب واستمتاع، وفي تلك الحالة يحسُّ الصائم الغني مرارة هذا الحرمان فيعطف على أخيه الفقر، ومُراقبة الله ترك ما يحبه تقوي الصبر وتربي عنده قوة الإرادة التي تعينه في تصرفاته وتحمله على أن يصير قوَّة محصنة تنظر إلى ما ينفعها فتحصله ولو كان فيه تعب ومشقَّة وتبصر ما يضرها فتجتنبه، ولو كان في ذلك مُعاناة ومُقاساة، وفي نهاية التكاليف الإسلامية يأتي الحج وهو المؤتمر العام لجميع المسلمين يتوجَّهون إليه في كل عام يبحثون فيه مشاكلهم الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والخلقيَّة، وكل شأن تتطلبه الحياة، وقد حدَّد الشارع الثمرة المطلوبة من الحج بقوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ) [الحج:26-27].

 

والناظر بالعين الفاحصة والعقل المستنير يرى أنَّ جميع التكاليف الإسلاميَّة إنَّما هي قواعد عمرانيَّة وأسس نظاميَّة قصد بها زوال المشاكل التي تتولَّد في المجتمع وتنبت في الجماعات نتيجة تعدد الأفراد وارتباط مصالحهم بعضها ببعض إذ لا يمكن لفرد في مجتمع راقٍ مُتحضِّر أن يَعيش في عُزلة عن غيره وأن يحصل على ما يحتاج إليه بدون معاملة غيره فهو في حاجة إلى موازين يَزِن بها تصرفاتِه ويحافظ بها على حقوقه، ويؤدي بها واجباته بلا ضرر يلحقه ولا إضرار بحقوق غيره من أعضاء المجتمع الذي يعيش به.

 

وقد بسط الإسلام للعقل سلطانه وأطلق للعلم حريَّته فلم يُلزم العقل دائرة ضيقة تصل به إلى الجمود والشلل؛ يتجلى ذلك المعنى بوضوح في قول الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]. ويقول سبحانه: ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الرعد:19] أي: أصحاب العقول الراجحة..

 

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحضُّ العقل حضاً وتدفعه دفعاً إلى أن يكشف أسرار الكون ويستغلَّ كل ذَرَّة من ذَرَّاته، وكل جزء من أجزائه، ليحقق ما وعده الله تعالى به، وما ندبه إليه في قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:13].

 

ولم تُمجِّد شريعة من الشرائع العلم وأهله، ولم تبوئهما المكانة العُليا مثل ما بوَّأهما القرآن الكريم والنبي العظيم محمد -صلى الله عليه وسلم-، فالله تعالى يقول في رفع شأن العلماء وتكريم منزلتهم ورفعة قدرهم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزُّمر:9]. ويضرب عزَّ وجل مثلاً للعاقل والأحمق، والعالم والجاهل فيقول: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ(19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ(20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الحَرُورُ(21) ). [فاطر].

 

ويقول في سبيل المحاجَّة والمجادلة وبيان فضل العلم: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام:148]، أي: لا تسلكون مسلكاً يرضي العقول ويحسب له حساب في ميدان الجدل وإقامة الحجج، فالقرآن الكريم لا يطلب من الإنسان سلاحاً في ميدان الفكر والنظر سوى سلاح البُرهان واليقين.

 

وما أروع ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شأن العقل وبيان منزلته من الدين الإسلامي: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قِوَامُ الْمَرْءِ عَقْلُهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» (رواه البيهقي في الشعب، وغيره)، فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات القليلة والعبارات الحكيمة دينه الحق ودعوته الصدق تتركَّز في العقل وتتبلور فيه، فالعقل هو كل شيء في الدين الإسلامي، فمن أغفل عقله لم يقمْ بواجب دينه، ولم يَسِرْ على الطريق السوي ولا المحجَّة الواضحة.

 

والناظر في الآيات القرآنية التي تنفر من إغفال العقل وإهمال التدبُّر به في آيات الكون والتقصير في استعماله كميزان صحيح للمعلومات التي يتلقاها الإنسان ويدركها عن طريق السمع، أو عن طريق البصر، يرى الناظر في هذه الآيات أنَّ التقليد واتباع الغير بلا برهان ولا دليل جريمة من الجرائم، وذنب من الذنوب في نظر القرآن الكريم، فهو يَعيب على من قَلَّد غيرَه ويشدِّد النكير على من تركوا ما أنزل الله واتبعوا ما وجدوا عليه آباؤهم فيقول: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة:170].

 

وفي موضع آخر من القرآن الكريم نراه يذمُّ من أعرض عما أنزل الله وعمَّا أنزل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مُكتفياً بما وجد عليه آباءه فيقول: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [المائدة:104].

 

والمتتبِّع لتاريخ الأديان وما أحاط ببعضها من غموض في تعاليمها ومن حَجْر على العامَّة في الإحاطة بها والتعرف إليها يرى أنَّ الإسلام منح الحرية الكاملة وفكَّ القيود والأغلال وأزال العوائق والموانع من طريق من تاقت نفسُه إلى التعمُّق في أسراره والوقوف على حِكَمه حتى لقد أباح علماء المسلمين لأنفسهم حقَّ استعمال العقل إلى درجة أن قالوا: "إنَّ بعض النصوص الواردة في السنة النبوية يمكن عدم العمل بها إذا لم يقرها العقل ولم توافق المصلحة".

 

وقد استباح علماء المسلمين لأنفسهم الدخول في ميادين البحث والجدل والنقاش ما لم يخطر لأهل الأديان السابقة أن يخوضوا فيها، بل جعلوها مناطق محجبة عنهم ومحرمة على عقولهم فدائرة العقل في التشريع الإسلامية دائرة واسعة الأطراف شاسعة النواحي.

 

كما أنَّ التعاليم الإسلامية في جملتها وتفصيلها تهدف إلى إسعاد البشرية وإيجاد المجتمعات الصالحة الراقية المتحضرة الآخذة بكل سبب يجرُّ نفعاً للمجتمع ويحقق الخير له، ويوفر له الهدوء والاطمئنان والراحة والسلام.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام)، السنة التاسعة. (محرم 1372 - العدد 1).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات