معرفة أسباب الفتن وطريقة النجاة منها

طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

أخي المبارك: يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "استن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"؛ فالعلم بسبل الفتن وأنواعها، وأسباب الخلاف ومواضعه، ووسائل الانحراف وطرقه، مسلك نجاة والموفق من ثبته الله، قال حذيفة -رضي الله عنه-: "كان الناس يسألون عن الخير وكنت اسأل عن الشر مخافة أن يدركني".

 

 

 

 

من أسباب الانتكاسة عدم معرفة المنتكسين بأسباب الفتن وطريقة النجاة منها (وخاصة بعد موت العلماء)؛ ولهذا يكثر المتساقطون في أوساط الجهلة بسنن الله، وبمنهاج الفرار إليه سبحانه، ولهذا السبب مظاهر:

فتجد المتذبذب لا يحب الافتراق ولو كان مع أهل الظلم أو الباطل، تجده لا يعرف أصوله وركائزه، منهج دعوته وسبيل استقامته، يجزع على كل أحد ويستوحش الغربة، يستكثر بالمتشابهات ويستدل بالرجال، لا يعرف منهج أهل الحق بعد موت علمائهم ولا فقههم في الفتن والخلاف والافتراق وعند الشبهات، فيتهافت هلعًا قبل أن تجلو الطريق؛ يقول -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [التوبة: 115].

 

 ويخبر الله عن هذه السنة الماضية في الأولين والآخرين فيقول: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِ) [العنكبوت: 3]، ويقول سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) [العنكبوت: 10]، وأيضًا: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11]، وانتبه لقوله تعالى: ومن الناس، ومن الناس، ليقص علينا بعدها أخبار المنقلبين على أدبارهم وليحذرنا سبيلهم.

 

قال ابن عدي في الكامل 1/ 145 في سبب افتتان بني إسرائيل بالعجل، قال: (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف: 142]، ففي تلك الليالي العشر افتتن بنو إسرائيل؛ لأن الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى.

 

ويوضح هذا قول صاحب طبقات الحنابلة 1/ 69 عند ترجمة الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل قال: "إمامنا ومعلمنا ومعلم من كان قبلنا منذ أكثر من ستين سنة وموت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة لا تسد، وما علم عالم إنهم يتفاضلون ويتباينون بونا بعيدًا، فقد ظننت أن عدو الله وعدو المسلمين إبليس وجنوده قد أعدوا من الفتن أسبابا انتظروا بها فقده لأنه كان يقمع باطلهم ويزهق أحزابهم، وكانت أول بدعة علمتها فاشية من الفتن المضلة ومن العماية بعد الهدى، وقد رأيت قومًا في حياة أبي عبدالله كانوا لزموا البيت على أسباب من النسك وقلة من العلم فأكرمهم الناس ببعض ما ظهر لهم من حبهم للخير فدخلهم العجب مع قلة العلم فكان لا يزال أحدهم يتكلم بالأمر العجيب فيدفع الله ذلك بقول الشيخ جزاه الله أفضل ما جزى من تعلمنا منه ولا يكون من أحد منهم من ذلك شيء إلا كان سبب فضيحته وهتك ما مضى من ستره فأنا حافظ من ذلك لأشياء كثيرة، وإنما هذا من مكايد إبليس مع جنوده يقول لأحدهم أنت أنت ومن مثلك فقل قد قال غيرك، ثم يلقى في قلبه الشيء و ليس هناك سعة في علم فيزين عنده أن يبتدئه ليشمت به وإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وقد ظننت أن آخرين يلتمسون الشهرة ويحبون أن يذكروا وقد ذكر قبلهم قوم بألوان من البدع فافتضحوا، ولأن يكون الرجل تابعًا في الخير خير من أن يكون رأسا في الشر".

 

أخي المبارك: يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "استن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"؛ فالعلم بسبل الفتن وأنواعها، وأسباب الخلاف ومواضعه، ووسائل الانحراف وطرقه، مسلك نجاة والموفق من ثبته الله، قال حذيفة -رضي الله عنه-: "كان الناس يسألون عن الخير وكنت اسأل عن الشر مخافة أن يدركني".

 

ومما يشهد لهذا المعنى من أخبار التاريخ، ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3 / 172: قال ابن اسحاق: خرج عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: " تواعدنا لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص التناضب من إضاة بني غفار فوق سرف وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه قال فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام وفتن فافتتن، فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما المدينة ورسول الله بمكة فكلماه وقالا له: "إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها، فقلت له: إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، قال: فقال أبر قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه، قال: قلت والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك، قلت: أما إذ فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه، قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطًا، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن، قال عمر: فكنا نقول لا يقبل الله ممن افتتن توبة، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم حتى قدم رسول الله المدينة، وأنزل الله: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 53 - 55] قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام: فلما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعد بها وأصوب ولا أفهمها حتى قلت اللهم فهمنيها فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله بالمدينة".

 

سبيل النجاة:

في حلية الأولياء 5/ 123: عن أبي إدريس عائذ الله قال: "هذه فتنة قد أظلت كحياة البقر هلك فيها أكثر الناس إلا من كان يعرفها قبل ذلك". وفي الحلية أيضًا 1/ 310: قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة فأخذ بعضهم يمينا وشمالا فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتى جلى الله ذلك عنا فأبصرنا طريقنا الأول فعرفناه وأخذنا فيه، وإنما هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا ما أبالي أن يكون لي ما يقل بعضهم بعضًا بنعلي هاتين الجرداوين". حلية الأولياء 1/ 310، وسير أعلام النبلاء 3/ 273، نعم رحمه الله، وتبًا لمن استشرف الفتنة واستشرفته.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وتنبه لكلامه: "وقبض الأمانة والإيمان ليس هو قبض العلم، فإن الإنسان قد يؤتى إيماناً مع نقص علمه، فمثل هذا الإيمان قد يرفع من صدره، كإيمان بني إسرائيل لما رأوا العجل، وأما من أوتي العلم مع الإيمان؛ فهذا لا يرفع من صدره، ومثل هذا لا يرتد عن الإسلام قط، بخلاف مجرد القرآن، أو مجرد الإيمان، فإن هذا قد يرتفع، فهذا هو الواقع، لكن أكثر ما نجد الردة فيمن عنده قرآن بلا علم وإيمان، أو من عنده إيمان بلا علم وقرآن، فأما من أوتي القرآن والإيمان؛ فحصل فيه العلم، فهذا لا يرفع من صدره، والله أعلم ثم قال: وقد قال الحسن البصري:" العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان"، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده" الفتاوى 18/ 304- 305، ولا يخفاك أن قصدنا بعلم الفتن وفقهها هو الأول.

 

ومن أخبار الثابتين في مثل هذه الحوادث:

ما قصه ابن كثير في البداية والنهاية 5/ 243 في خبر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-: وأقبل أبو بكر -رضي الله عنه- من السنح على دابته حتى نزل بباب المسجد وأقبل مكروبًا حزينا فاستأذن في بيت ابنته عائشة فأذنت له فدخل ورسول الله قد توفي على الفراش والنسوة حوله فخمرن وجوههن واستترن من أبي بكر إلا ما كان من عائشة، فكشف عن رسول الله فحثى عليه يقبله ويبكي ويقول: "ليس ما يقوله ابن الخطاب شيئا توفي رسول الله والذي نفسي بيده، رحمة الله عليك يا رسول الله ما أطيبك حيًا وميتا، ثم غشاه بالثوب ثم خرج سريعًا إلى المسجد يتخطى رقاب الناس حتى أتى المنبر، وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا إليه وقام أبو بكر إلى جانب المنبر، ونادى الناس فجلسوا وأنصتوا، فتشهد أبو بكر بما علمه من التشهد، وقال: إن الله -عز وجل- نعى نبيه إلى نفسه وهو حي بين أظهركم ونعاكم إلى أنفسكم وهو الموت حتى لا يبقى منكم أحد إلا الله -عز وجل-، قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الآية، فقال عمر: هذه الآية في القرآن والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم، وقد قال الله تعالى لمحمد: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 30] وقال الله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88] وقال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26، 27] وقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 185]، وقال: إن الله عمر محمدًا وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله وبلغ رسالة الله وجاهد في سبيل الله ثم توفاه الله على ذلك وقد ترككم على الطريقة فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء، فمن كان الله ربه فان الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمدا وينزله إلها فقد هلك إلهه، فاتقوا الله أيها الناس واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه وأن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء وبه هدى الله محمدًا وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله، فلا يبغين أحد إلا على نفسه، ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله فذكر الحديث في غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه".

 

ومن ذلك كذلك ما رواه صالح بن الإمام أحمد قال: حضرت أبي الوفاة فجلست عنده وبيدي الخرقة لأشد بها لحيته فجعل يعرق ثم يضيق ويفتح عينيه ويقول بيده هكذا: "لا بعد، لا بعد ثلاث مرات، فقلت: يا أبت إيش هذا الذي قد لهجت به في هذا الوقت، قال: يا بني ما تدري، قلت: لا، قال: إبليس لعنه الله قائم بحذائي عاضًا على أنامله يقول يا أحمد فتني، فأقول: لا حتى أموت.. فرحمهم الله كم كانوا متيقظين لمحال البلاء".

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات