أمراض على طريق الدعوة (28): التنفير

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لا شك أن جهل الداعية بأصول الشريعة ومبادئ الدعوة إلى الله من أبرز الأمور التي توقع الداعية في مرض التنفير، كذلك غياب فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم مراعاة أحوال الناس، ومعرفة اختلاف طبائعهم، وكذلك تقليد الآباء والمعلمين من أسباب الوقوع في التنفير. ولا يخرج الداعية من شرك التنفير إلا باقتداء آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- وآثاره وسيرته العطرة، والسير على طريقه الدعوي خطوة بخطوة، واستشعار الداعية بثقل تبعة كونه سببا لنفور الناس من الدين، فهو أمر لو شعر به الداعية حقا ما تجرأ على العبوس في وجه سائل أو مسترشد.

 

 

 

 

الدعوة إلى الله -عز وجل- هي أشرف وظيفة يقوم بها المسلم الحق. وأحسن المهام، وأكمل الأعمال، وأرفعها وأزكاها، عند المليك المقتدر؛ أن يكون المرء سببا في هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الخير، فالغاية العظمى من الدعوة إلى الله -عز وجل- هو تحبيب الناس في الدين، وجذب نفوسهم وعطف قلوبهم على شريعته ومنهجه، وتسكين أفئدتهم بلذة العبادة والطاعة، وتقويم حياتهم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. وذلك كله لا يتأتى إلا من خلال دعوة راقية صافية من دخائل الأمراض وشوائب الآفات التي تعيق الطريق، وتحرف المسيرة. وإن من أشد الأمراض التي قد تصيب بعض الدعاة أثناء ممارسته لفن الدعوة أن يفقد الحلم والأناة والرفق في تعامله مع الناس؛ لأنه وقتها يكون من أكبر أسباب النفور والإعراض عن الدين وأهله، لذلك قال المولى لخير خلقه وخاتم رسله: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، فمن حرم الرفق والرحمة أورث مكانهما الغلظة والشدة، وتسبب في أشد الأمراض على طريق الدعوة؛ تنفير الناس من الدين.

 

التنفير لغةً واصطلاحاً:

التنفير لغةً له معان كثيرة متقاربة، منها: الإفزاع والدفع عن الشيء وهو مصدر قولهم: نفره تنفيراً. وهو مأخوذ من مادة (ن ف ر) التي تدل على تجاف وتباعد. يقول ابن فارس: "النون والفاء والراء أصل صحيح يدل على تجاف وتباعد، ومن ذلك نفر الحيوان، وغيره نفاراً، وذلك تجافيه وتباعده عن مكانه". ويقول الجوهري: نفرت الدابة تنفر، وتنفر نفاراً ونفوراً، يقال: في الدابة نفار، وهو اسم مثل الحران، ونفر الحاج من منى نفراً. ونفر القوم في الأمور نفوراً.

 

والإنفار عن الشيء، والتنفير عنه، والاستنفار، كله بمعنى. والاستنفار أيضا النفور. ويقول الراغب: النفر: الانزعاج عن الشيء، كالفزع إلى الشيء، وعن الشيء يقال: نفر عن الشيء، نفوراً، وقوله: (مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا) [فاطر: 42]، ونفر إلى الحرب ينفر وينفر نفراً، ومنه يوم النفر، قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً) [التوبة:41]، والاستنفار: حمل القوم على أن ينفروا، أي من الحرب، والاستنفار أيضاً حث القوم على النفر إلى الحرب.

 

ونفر ينفر نفوراً ونفاراً، إذا فر وذهب، ومنه الحديث "إن منكم منفرين" أي من يلقى الناس بالغلظة والشدة، فينفرون من الإسلام والدين، وفي حديث عمر -رضي الله عنه- لا تنفر الناس، وفي الحديث: "أنه اشترط لمن أقطعه أرضاً، ألا ينفر ماله، أي لا يزجر ما يرعى من ماله، ولا يدفع عن الرعي ". ونفر نفراً ونفوراً: هجر وطنه، وضرب في الأرض، وفي التنزيل: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) [التوبة:122]، وأنفر القوم: تفرقت دوابهم، ونافره: خاصمه، وتنافر القوم: تخاصموا وتفاخروا. وقال ابن منظور: "النفر: التفرق. نفرت الدابة تنفر وتنفر نفاراً ونفوراً. والإنفار عن الشيء والتنفير عنه والاستنفار كله بمعنى. والاستنفار أيضاً: النفور. وفي الحديث: "بشروا ولا تنفروا"، أي لا تلقوهم بما يحملهم على النفور. ونفرت العين وغيرها من الأعضاء تنفر نفوراً: هاجت وورمت. قال الأصمعي: نفر فوه: أي ورم. قال أبو عبيد: وأراه مأخوذاً من نفار الشيء من الشيء فذلك نفاره.

 

أما التنفير في الاصطلاح: هو الإتيان بالأفعال والأقوال التي تجافي حقيقة الدين بحيث يظنها السامع من الدين، فتؤدي إلى نفوره من الكلام وقائله. قال المناوي: النفر: الانزعاج عن الشيء أو إليه، والمنافرة المحاكمة في المفاخرة. ويؤخذ من كلام ابن الأثير أن التنفير: هو أن تلقى الناس أو تعاملهم بالغلظة والشدة ونحو ذلك مما يحمل على النفور من الإسلام والدين. وتعد إطالة الصلاة التي لا يطيقها المأمومون أو بعضهم من التنفير المنهي عنه.

 

موقف الشرع من التنفير:

ورد ذم التنفير في الشرع المطهر بعبارات كثيرة ومتنوعة، وذلك للأضرار الكثيرة التي يترتب عليها اتصاف الدعوة أو الداعية بهذه الآفة الخطيرة، وقد حفلت السنة النبوية بالنهي عن التنفير وذلك في أحاديث كثيرة من أبرزها:

 

عن أبي مسعود الأنصاري قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني والله لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فيها، قال: فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قط أشد غضبًا في موعظة منه يومئذ، ثم قال: "يا أيها الناس، إنَّ منكم منفرين؛ فأيكم صلى بالناس فليوجز، فإن فيهم الكبير والضَّعيف وذا الحاجة". ومنفرين: يعني ينفرون الناس عن دين الله. فلقد جاءت هذه الشريعة السمحة، باليسر والسهولة، ونفي العنت والحرج. ولهذا فإن الصلاة التي هي أجل الطاعات أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الإمام التخفيف فيها؛ لتتيسر وتسهل على المأمومين، فيخرجوا منها وهم لها راغبون. ولأن في المأمومين من لا يطيق التطويل، إما لعجزه أو مرضه أو حاجته، فإن كان المصلي منفرداً فليطول ما شاء؛ لأنه لا يضر أحدًا بذلك. ومِن كراهته- صلى الله عليه وسلم- للتطويل، الذي يضر الناس أو يعوقهم عن أعمالهم، أنه لما جاءه رجل وأخبره أنه يتأخر عن صلاة الصبح مع الجماعة، مِن أجل الإمام الذي يصلي بهم، فيطيل الصلاة، غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا، وقال: "إنَّ منكم من ينفر الناس عن طاعة الله، ويكره إليهم الصلاة ويثقلها عليهم، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن منهم العاجزين وذوي الحاجات".

وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-  أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه ومعاذاً إلى اليمن فقال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا". قال ابن حجر -رحمه الله-: "قال الطيبـي: هو معنى الثاني، من باب المقابلة المعنوية؛ لأن الحقيقية أن يقال: بشرا ولا تنذرا وآنسا ولا تنفرا، فجمع بينهما؛ ليعم البشارة والنذارة والتأنيس والتنفير. قلت: ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة وهو الأصل، وبلفظ التنفير وهو اللَّازم، وأتى بالذي بعده على العكس؛ للإشارة إلى أن الإنذار لا ينفى مطلقا، بخلاف التنفير: فاكتفى بما يلزم عنه الإنذار، وهو التنفير، فكأنه قيل: إن أنذرتم فليكن بغير تنفير".

 

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". قال النَّووي -رحمه الله-: "جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على "يسروا" لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: "ولا تعسروا" انتفى التعسير في جميع الأحوال مِن جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في "يسرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا"؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت، ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء، ويختلفان في شيء. وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف، وأنواع الوعيد محضة، من غير ضمها إلى التبشير، وفيه تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلًا قليلًا. وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته -غالباً- التزايد منها، ومتى عسرت عليه أوشك ألا يدخل فيها، وإن دخل أوشك ألا يدوم أو لا يستحليها".

 

الهدي النبوي من آفة التنفير:

وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- التطبيقي في الحض على الرفق واللين وترك التنفير كان من السمات البارزة في دعوته -صلى الله عليه وسلم وسبباً في إسلام الكثيرين ممن كان يرى الجاذبية النبوية الطاغية في سلوكياته وتصرفاته -صلى الله عليه وسلم. من هذه المواقف النبوية الراقية:

فعن عباد بن شرحبيل -رضي الله عنه- قال: أصابتني سنة، فدخلت حائطاً من حيطان المدينة، ففركت سنبلاً فأكلت وحملت في ثوبي، فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "ما علمت إذ كان جاهلاً، ولا أطعمت إذ كان جائعاً" أو قال "ساغباً" وأمره فرد علي ثوبي، وأعطاني وسقا، أو نصف وسق من طعام". وتخيل لو كان أحد الدعاة الجفاة القساة قليلي العلم مكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف كان سيتصرف مع عباد ؟! كان سينهره ويسبه ويتوعده بالثبور الذي يهدد به السراق واللصوص، ولربما أقام عليه الحد وقطع يده. فضعف العلم وقلة البضاعة فيه تورث المرء ضيق عطن، وغلظة قلب، وجهل مركب، وفقه مغلوط.

 

وعن معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- قال: "بينما أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ عطس رجل من القوم. فقلت: يرحمك الله...إلى آخر الحديث وفيه "فو الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مه مه ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزرموه"، "دعوه" فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة، وقراءة القرآن"،  أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه"

 

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: كان معاذ يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء، ثم أتى قومه فأمهم، فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم، ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله! ولآتين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأخبرنه، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على معاذ، فقال: يا معاذ أفتان أنت؟ اقرأ بكذا واقرأ بكذا".

 

آثار السلف في التحذير من التنفير:

1-قال ابن كثير عند قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6]، أي: فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر، بل أباح التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ورحمة بكم، وقوله: (لعلكم تشكرون) أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرحمة والتسهيل والسماحة ". وقال عند قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78] أي ما كلفكم مالا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً، وفي السفر تقصر إلى اثنتين". وقال ابن عاشور: "أي فضل الله لهذا الدين المستتبع بفضل أهله بأن جعله دينا لا حرج فيه؛ لأن ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة".

 

2-قال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا": فيه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف به ويدرجون في أنواع الطاعة قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، وفيه: أمر الولاة بالرفق واتفاق المتشاركين في ولاية ونحوها، وهذا من المهمات فإن غالب المصالح لا يتم إلا بالاتفاق".

 

3-قال ابن كثير عند قوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، أي: لو كنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم؛ لانفضوا عنك وتركوك ولكن الله جمعهم عليك، والآن جانبك لهم تأليفا لقلوبهم)

 

4-وقال ابن كثير وقال عند قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل: 125]، أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت: 46]، فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون -عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون في قوله: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]. وفسر ابن عاشور الموعظة بأنها القول الذي يلين نفس المقول له لعمل الخير، ووصفها بالحسن تحريض على أن تكون النية مقبولة عند الناس.

 

لا شك أن جهل الداعية بأصول الشريعة ومبادئ الدعوة إلى الله من أبرز الأمور التي توقع الداعية في مرض التنفير، كذلك غياب فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم مراعاة أحوال الناس، ومعرفة اختلاف طبائعهم، وكذلك تقليد الآباء والمعلمين من أسباب الوقوع في التنفير. ولا يخرج الداعية من شرك التنفير إلا باقتداء آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- وآثاره وسيرته العطرة، والسير على طريقه الدعوي خطوة بخطوة، واستشعار الداعية بثقل تبعة كونه سبباً لنفور الناس من الدين، فهو أمر لو شعر به الداعية حقاً ما تجرأ على العبوس في وجه سائل أو مسترشد.

 

صور التنفير:

1-تعامل الداعية مع الناس بأسلوب فيه نوع من الشدة، والغلظة والجفوة وافتقاد الرفق واللين. وهذا السلوك يجعل الناس ينفرون مِن دعوته، ولا يستجيبون لتعاليمه، وهذا تصديقًا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشَادَّ الدِّين أحدٌ إلَّا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا". ولا شك أن الغلو مخالف للفطرة البشرية، لا يمكن تحمله والالتقاء معه، وسلوك الغلاة من الغلظة والجفوة، وأسلوبهم من التشدد والتعسير. كل ذلك ينفر الناس من الاستجابة للدعوة، ويصدُّهم عنها".

 

2-الأخذ بالعزيمة والحمل على الأخذ بها، والإعراض عن الرخص التي شرع الله الأخذ بها مما يوقع الناس في المشقة، مع أنَّ الله -تبارك وتعالى- يحبُّ أن تُؤتى رُخَصه كما يحبُّ أن تُؤتى عزائمه. وعموم الناس لا يطيقون هذا، فما يسع الفرد لا يسع الجماعة، وخطاب الورع يلزم صاحبه ولا يلزم غيره وهكذا.

 

3-تقنيط الناس من رحمة الله -تبارك وتعالى-وتيئيسهم من التوبة، وازدراء المذنبين ونبذهم، وربما وصل الحال للاعتداء عليهم بالشتم والأذية البدنية، وكل هذا من صور التنفير التي نهى عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم.

 

فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلاً على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلَّا أنه يحب الله ورسوله". وفي حديث آخر: "أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف، قال رجل: ما له؟! أخزاه الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم". فقد علل النبي -صلى الله عليه وسلم- نهيه عن لعن شارب الخمر بأن ذلك اللعن سيكون عوناً للشيطان على المسلم، فربما ازداد نفوراً، فإن العقوبة تقدر بقدر الجرم، فربما ازدادت فأدت إلى أثر عكسي".

 

4-تغليب الترهيب على الترغيب في الدعوة إلى الله. والخطاب الدعوي في القرآن والسنة يقوم على المزاوجة بين الوعد والوعيد، فلا تذكر النار منفردة، ولا الجنة منفردة، فلا سورة فيها ذكر الجنة أو النار إلا وذكرت فيها الأخرى، وكذلك في الحديث النبوي.

 

5-القسوة عند الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وعدم التَّروي والتَّمهُّل فيه بعدم مراعاة مراتب الإنكار ودرجاته.

 

6-تنفير الأئمَّة للنَّاس مِن الصَّلاة بإطالتها، مخالفين بذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتخفيف.

 

7-التَّنْفِير في التَّعليم، وذلك إمَّا بالزَّجر والسَّبِّ والضَّرب للمتعلم، بما يدفعه للعزوف عن تعلُّم العلم.

 

8-مخاطبة النَّاس بما لا يتحمَّلونه: كالاختلافات بين الفقهاء، وأقوال المتكلِّمين في المعتقدات، وغيرها مِن الأمور التي قد لا يستوعبها البعض، أو يفهمونها على غير فهمها الصَّحيح.

 

9-مخالفة العلم للعمل والقول للفعل: قال حكيم: "أفسد الناس جاهل ناسك وعالم فاجر، هذا يدعو الناس إلى جهله بنسكه، وهذا يُنفِّر الناس عن علمه بفسقه".

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات