المغالاة في الدين ليست من الدين

عبد الوهاب حمودة

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

فأكثر الناس وبخاصَّة في هذا العصر يَشعرون بانقباض في الصدر إذا ذكر الدين أو ذكر أهله؛ لأنَّهم اعتادوا أن يسمعوا عنه زُهداً في الحياة ونُبُوّاً عن مَنَاهجها وانصرافاً إلى ما بعدَ الموت، وأنَّهم اعتادوا أن يسمعوا عن رجاله الانقطاع عن الدنيا والإقبال على العبادة، والواقع أنَّ ما بَلغهم أو رأَوه ليس بصورة صحيحة للإسلام ولا لأهله الذين عرفوه حقَّ مَعْرفته واتبعوا أسلوبه في الحياة؛ فإن الله تعالى لا يرضى..

 

 

 

روى البخاريُّ ومسلم عن عبدِ الله بن عَمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟" قُلْتُ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: "فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ".

 

الألفاظ:

هَجَمَتْ عينُك: أي غارتْ وضَعُفت لكثرة السهر وقيام الليل.

نَفِهَتْ نفسك: كَلَّتْ وعَجَزَت.

إنَّ لنفسك عليك حقاً: أي تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشريَّة مما أباحه الله للإنسان من الأكل والشرب والراحة التي يقوم بها بدنُه ليكون أعون على عبادة ربه.

وإن لأهلك عليك حقاً: أي تنظر فيما لابدَّ لهم منه من أمور الدنيا والآخرة.

 

فقه الحديث:

الإسلامُ بموجب أصوله وتَركيب بنائه دينُ علم وحضارة وقوَّة وغَلَب، لا دينَ ضعفٍ وخَوَرٍ وتخاذل وتماوت، مما يُرى أحياناً على جماعات المتدينين والمتَّسمين بسمات الأتقياء الصالحين.

 

فقد كان الرجلُ في فجرِ الإسلام يأتي فيُبايع الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- على الدين ثم يبادرُ فيأخذ مكانَه من الصفوف، إما مجاهداً في نشر الدعوة أو مُدافعاً يذود الأعداءَ عن حَرَم الإسلام، لهذا رأينا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - ومن عمر بن الخطاب! – يضرب بدِرَّتِه شاباً رآه بحضرته مُتخاشعاً مُنكِّساً رأسَه قائلاً له: ارفع رأسك يا هذا لا تمت فينا ديننا، فإنَّ التقوى ههنا، وأشار إلى صدره.

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- على جلالة قدره وسموِّ مَنصبه يُسرع في مِشْيته كأنَّه ينحطُّ في صَبب "أي: في موضع مُنحدر أراد به أنَّه قوي البدن فإذا مشى فكأنه يَمشي على صدر قَدميه من القوَّة".

 

قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي جَبْهَتِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ. [أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما].

 

لا عجبَ في هذا كله، فسيدنا محمد -صلوات الله عليه- كان مؤسسَ دولةٍ عهد إليها الحق أن تحدث حدثاً لا مثيلَ له في تاريخ البشر، تُسقط به دولاً وتقيم أخرى، وتَنشر في الأرض أصولَ الثورة على التقاليد والموروثات، وتبَنِّي سُلطان العقل على أرسخِ القواعد، وتُبرِّر الانقلابات الاجتماعيَّة فتَجعلها سبباً من أسباب الارتقاء.

 

لذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يَكره أن يَرى أصحابَه مُنهمِكين في العبادة عير مُراعين حقوق أجسادهم، ونَهاهم في نصٍّ صريح عن المغالاة في الدين فقال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ" [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة].

أي: الزموا السداد وهو التوسط من غير إفراط ولا تفريط

وقاربوا: أي: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل فاعملوا ما يقرب منه.

وذلك لأنَّ الحدث الجَلل الذي أُرسل -صلوات الله عليه- لتحقيقه في العالم يتطلَّب أجساداً قوية وإرادات مُصمِّمة، فكان يحثُّ أصحابه على المسابقات الرياضية كركوب الخيل، والسباحة والرماية والمجالدة بالسيوف.

 

وقد جاء في الحديث أنَّه لحق به -صلى الله عليه وسلم- في تهجُّده رجال كانوا يُصلون خلفه ثم رآهم يكثرون ليلة بعد أخرى، فمنعهم خشية أن يفرض التهجد عليهم فيضعفهم.

 

وهكذا يقفُ الإسلام ديناً وسطاً لا يجنح إلى المثالية الخياليَّة؛ لأنَّها أشبه ما تكون بضرب من ضروب المحال، ولأنها تكليف للنفس فوق طاقتها: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة:286]، ولأنها تطبع النفس بطابع التزمت الممجوج، وإنما يقف وسطاً: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:143].

 

فهو يأخذ من المثاليَّة ما تستوعبه من المثل العليا ويأخذ من الواقعية ما تتضمَّنه من حزمٍ وعَدْل وعزم. قال الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ) [آل عمران:14].

 

فالكلام في هذه الشهوات بيانٌ لما فَطر اللهُ عليه الناس وغرسَ في نفوسهم من الغرائز، وهو تمهيدٌ لتذكيرهم بما هو خيرٌ منها، لا لبيان قُبحها في نفسها كما يتوهَّم الجاهل فإنَّ الله تعالى ما فَطر الناسَ على شيء قَبيح، بل خَلقهم في أحسن تقويم، ولا جعل دينه مُخَالفاً لفطرته، بل مُوافقاً لها، كما قال الله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الرُّوم:30].

 

إذ كيفَ يكون حبُّ النساء في أصل الفطرة مَذموماً وهو وسيلة إتمام حكمته تعالى في بقاء النوع إلى الأجل المسمى، وهو من آياته تعالى الدالَّة على حِكْمته ورحمته؟

 

بل كيف يكون حبُّ المال مَذموماً لذاته والله تعالى قد جعل بذل المال من آيات الإيمان: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة:3].

 

وهو تعالى يَنهى عن الإسراف والتبذير في إنفاقِه كما يَنْهى عن البُخْل به وقد امتنَّ على نبيِّه بأنَّه وجده عائلاً، أي: فقيراً فأغناه، وجعل المال قواماً للأمم ومُعزِّزاً للدين وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ" [أخرجه مسلم] (1).

 

فأكثر الناس وبخاصَّة في هذا العصر يَشعرون بانقباض في الصدر إذا ذكر الدين أو ذكر أهله؛ لأنَّهم اعتادوا أن يسمعوا عنه زُهداً في الحياة ونُبُوّاً عن مَنَاهجها وانصرافاً إلى ما بعدَ الموت، وأنَّهم اعتادوا أن يسمعوا عن رجاله الانقطاع عن الدنيا والإقبال على العبادة، والواقع أنَّ ما بَلغهم أو رأَوه ليس بصورة صحيحة للإسلام ولا لأهله الذين عرفوه حقَّ مَعْرفته واتبعوا أسلوبه في الحياة؛ فإن الله تعالى لا يرضى من عباده أن يزهدوا في الدنيا هذا الزهد العام المطلق، وأن يَنقطعوا في الصوامع والبِيَع والمساجد لعبادته ومُناجاته فهو يُناجي في الحَقْل، ويُناجي في المصنع، ويناجي في المتجر، ويناجي في المجتمع، وكل تلك مُناجاة يَسمعها الله و يتقرَّب بها العبد لله تعالى.

 

وإذا كان الإسلامُ حاربَ فكرة التبتُّل والانقطاع عن الدنيا بنصوصه الكثيرة التي حثَّت على العمل والسعي، وطلبت إلى الناس أن يَضربوا في الأرض وأن يعملوا بقواهم فيما سَخَّر لهم من أرض للزراعة وأدوات للصناعة وبحار للتجارة، فإنَّه قد حارب كذلك بل أشد فكرة التكالب على الدنيا والعمل في تحصيلها لخاصَّة النفس، واعتبر هذا الغرض من دلائل التكذيب بيوم الدين: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ) [التَّكاثر:1-2].

 

وفي هذا الحديث فَوائد تُستنبط من نصِّه وفحواه:

أولاً: جواز تحدُّث المرء بما عَزَم عليه من فعل الخير.

 

ثانياً: جواز تفقُّد الإمام لأمورِ رعيته كلياتها وجزئياتها، وتعليمهم ما يصلحهم.

 

ثالثاً: تعليل الحكم لمن كان فيه أهليَّة لفهم ذلك.

 

رابعاً: أنَّ من تكلَّف الزيادة على ما طبع عليه يقع له الخلل والتقصير غالباً.

 

خامساً: الحضُّ على مُلازمة العبادة؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- مع كراهته لابن عمرو التشديد على نفسه قد حضَّه على الاقتصاد كأنَّه قال له: ولا يَمْنعنك اشتغالك بحقوق نفسك وأهْلك أن تُؤدي حقَّ العبادة ولكن اجمع بينهما.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

 -------

(1) قال الإمام النووي في شرحه للحديث: الْخَفِيُّ فَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ هَذَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي النُّسَخِ وَالْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَاتِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ بَعْضَ رُوَاةِ مُسْلِمٍ رَوَاهُ بِالْمُهْمَلَةِ فَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ الْخَامِلُ الْمُنْقَطِعُ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ نَفْسِهِ وَمَعْنَاهُ بِالْمُهْمَلَةِ الْوَصُولُ لِلرَّحِمِ اللطيف بهم وَبِغَيْرِهِمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالصَّحِيحُ بِالْمُعْجَمَةِ.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات