زنبيل العلم

بلال فيصل البحر

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وكان لهم طريقة في تجريد فوائدها وحفظها، وذلك أنهم يعمدون عند مطالعتها إلى وضع خطٍ أو علامة على الفوائد التي لا غنى للعالم عن حفظها بألفاظها، كالشعر والنصوص ومذاهب الناس ونحو ذلك، فيُجرّدون المطولات منها ويخلصونها، بحيث ينقسم الكتاب عندهم إلى قسمين: ما تحته خط أو علامة وهو للحفظ بلفظه، وما هو مهمل وهو الكلام الذي هو شرح للمعنى، بحيث يكتفى بفهمه وتأديته عند الحاجة بلفظه هو، دون الحاجة إلى لفظ المـُصنِّف، فإذا كرَّرَّ على الكتاب مرة أخرى فإنه يطالع ما تحته خط أو علامة، ويداوم على النظر فيه ومراجعته، حتى يرسخ في ذهنه ويحكم حفظه..

 

 

 

الحمد لله الذي غرز الحفظ في الأذهان، وركّب آلته في بني الإنسان، وميّزهم به عن سائر الحيوان، وخصّ هذه الأمة بحفظ أناجيلها في صدورها عن النسيان، وصلى الله وسلّم على نبينّا محمد المبعوث بالفرقان، إلى كافة الثقلين من الإنس والجان، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ما تعاقب الملوان، وانتظم في الفلك الفرقدان والحُرّان، وانتصب في الفلاة السُّبيعان،

 

   وبعد:

فقد رأيتُ للمتفقهين من العصريين جدلاً واسعاً في قضية حفظ المتون، وأهميتها لطالب العلوم والفنون، فمنهم مَنْ فرّط فيه وأبعد النُّجعة فجحدَه، كالغماري الكبير الذي قال إنه جنون! وأغربَ بعضهم فزعمه مهزلة القرون!

ومنهم مَنْ أفرط فيه حتى ادعى أنَّ مَنْ لم يعتنِ به فلا حظَّ له من الفهمْ، وحتى قال قائلُهُم إنَّ من لم يحفظ متناً فهو مثقفٌ وليس من أهل العلمْ!

 

وقد ظهر لي قولٌ وسطٌ لعله يحسمُ النزاعَ بين الخصمين، ويرفعُ الخلافَ الضاربَ أطنابه بين الفريقين، وهو أنّ الذي يختصُّ في فنٍ واحد، فلستُ أحبُّ له الاشتغالَ بحفظ متنٍ فيه، بل هذا لا غنى له عن إمعان النظر في مطولات كتب الفنّ الذي اختصَّ به، وتجريد فوائدها، وتخليص زوائدها.

 

وأما مَنْ أقبل على الفنون فهذا الذي يحسن به حفظ متنٍ في كل فنٍّ منها، فإنّ المتونَ كما قال أهلُ العلم، تضبط له شواردَ القواعد، وتجمع عليه زوائد الفوائد، وهي بحق (زِنْبِيلُ العِلْمِ) الذي يـجتمع فيها أصول العلم وأحسنُه، كما يجتمع في الزنبيل أجود التمر وأطيبُه، ولله مَنْ قال:

 

والعلمُ في حفظِ المتونِ  وإنها    ***    للطالبِ الشوّافِ خيرُ  فلاحِ

يحلو بها لُبُّ الذكيِّ ويهتدي *** لمعارفِ  الوحيينِ  بالإفصاحِ

 

والواقع أنك لا تجدُ عالماً يزهّدكَ في حفظ المتون ويرغبُ بك عنها، ولستَ ترى من يصدّك عنها إلا وهو عاجزٌ عن حفظها، وإن كانتْ عقول الورى متفاوتةً في فهم العلوم وحفظها واستيعابها، فمن الناس مَنْ لا يتّجه له الحفظ، حتى إذا حاوله فكأنه يعالجُ جبلاً، لكنه حاذق الفهم آية في قنص المعاني واستنباطها، وحلّ مشكلاتها، وفكّ مقفلاتها، كالجلال المحلي رحمه الله، فإنه رام حفظَ صفحة من متنٍ فمرض أسبوعاً، وقد كان ذهنُه يثقبُ الماس لجودة فهمه.!

وكآينشتاين عبقري الرياضيات وأبي الفيزياء الحديثة، فإنه كان تقدّم للعمل مدرّساً، فعقدوا له اختباراً سقطَ فيه، ولم يـجْتَزْ منه إلا الرياضيات! ونظائر هذا كثيرة.

 

وبكلّ حال فلا غناء لطالب العلوم عن الحفظ إذا فهمَ ما يرومه من الفنون، فشأن الحفظ كما قال العلامة التَّوَّزي:

إذا  لم  تكنْ  حافظاً   واعياً ***   فعلمُكَ  في  البيتِ  لا  ينفعُ

وتحضرُ  بالجهلِ  في   مجلسٍ   *** وعلمُكَ في الكُتْبِ مُسْتَودعُ

ومَنْ  يكُ  في  دهرهِ  هكذا  ***  يكنْ دهرَهُ  القهقرى  يرجعُ

 

وقد قالوا إنّ للحفظ أسراراً لا يعرفها إلا الحُفَّاظ، ومن هنا كان قول حفاظ أهل الحديث من الأئمة الكبار في علله، مقدّماً على قول شيوخ العصر فيه إذا اختلفوا، مهما كان الشيوخ قد توسعوا في الاطلاع على طرق الأخبار وأسانيدها، والسرّ فيه أنهم باحثون، والأولون حفاظ.

 

ولا ريب أنّ المتفقه سواء كان عالماً أو متعلماً، لا غنى به عن استحضار ما يحتاجه من العلوم والفوائد حال الدرس أو المناظرة أو المذاكرة، وهذا لا يتهيأُ له إلا بالحفظ المتقن، وبهذا يتفاوت العلماء، ويتميّز الفضلاء، وقد قال تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) [العنكبوت: 49] وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن قبض العلم بقبض أهله في الخبر المشهور المتفق عليه، وهذا لا يتأتى إلا للحفاظ الذين بموتهم يموت العلم، ألا تراه ذكر أن الله تعالى لا يقبضه انتزاعاً ينتزعه من صدورهم، فنبَّه على حفظ الصدر بذلك، وقد نظم قاضي صفد هذا الخبر في أوائل (نظم منهاج النووي) له، فقال:

وقدْ قضى اللهْ  القضا  وأبرما   *** أن يُقبضَ العلمُ بقبضِ  العُلما

ويتْبَعَ  الناسُ  رؤوسَ   الجهلِ   ***  أفتوا  بلا   علمٍ   وغير   نقلِ

ضلوا  وللخَلْقِ   فقد   أضلوا    *** هناك    أنواعُ    البلا تحِلُّ

وإنّ  ذا  فيما  أظنُّ  قد   دنا   ***  لآفةٍ  ماتَ   كثيرٌ   في   الفنا

كانوا إذا  جَنَّ  الظلامُ  قاموا   ***  وإن رأوا  ما  يكرهون  ناموا

كانوا نجوماً  يُقتدى  بنورهمْ   ***  فأفلوا    عنَّا    إلى    قبورهمْ

ووصلوا   إلى    نعيم    الجنةِ   ***  وا  أسفي  عليهمُ   ووحشتي

ولم نرى من بعدهمْ من يظهرُ   ***  إلا  أُناساً  شأنهمْ   لا   يُذكرُ

إنْ عَلِموا لم  يعملوا  بعلمهمْ  ***   هَمهمُ  الدنيا  فلا   تعبأْ   بهمْ

 

وقال صاحب (الرحبية):

 

والثُلثانِ    وهما    التّمامُ    فاحْفَظْ فكلُّ حافظٍ إمامُ

 

ولهذا قال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي: "كان يقال العلم ما دخل معك الحمام" يريد: الحفظ، وهكذا قال عبد الرزاق: "كلُّ علمٍ لا يدخل معك الحمام فلا تعدّه".

 

وقال بعض الفلاسفة: "العلم ما إذا غرقتْ سفينتُك يسبح معك" يقول: العلم هو المحفوظ، ذكر ذلك أبو هلال العسكري وابن الجوزي وغيرهما، وأشار إلى هذا المعنى الشافعي بقوله:

علمي   معي    حيثما    يممتُ    يتبعُني    قلبي   وعاءٌ   له    لا    بطنُ    صندوقِ

إنْ كنتُ في البيت كان  العلمُ  فيه  معي    أو كنتُ في السوق كان العلمُ في السوقِ

 

وقال غيره:

 

ليس بعلمٍ ما وعى  القِمَطْرُ    ما العلمُ إلا ما وعاه الصدْرُ

 

فأما مَنْ يجمع العلمَ ويكتبه في طروسه وكراريسه، دون أن يتعانى حفظَه، حتى إذا ذهبت كُتُبُه وكراريسُه ذهب علمُه، فبقي لا يدري شيئاً، وإذا حضر في مجلسٍ فتكلّم فيه الفضلاء والحفاظ، لم يزدْ على أنْ يقول كلما سمع فائدةً، هذه الفائدة في كتاب كذا! وهذا البيتُ في مبحث كذا! فينكشف بَهرجه، وينكبّ زغله، ويفتضح حاله، فيضحى كمن قيل فيه:

 

استودَعَ العلمَ  قرطاساً  فضيَّعه ***    فبئسَ مستودعَ العلمِ القراطيسُ

وأنشد ابن الجوزي:

 

رُبَّ   إِنسانٍ    مَلا    أَسفاطَه   ***  كُتُبَ   العِلْمِ    يَعُدُّ    وَيَحُطْ

وَإِذَا    فَتَّشْتَهُ عَن عِلمِهِ ***    قَالَ عِلمِي يا خلِيلِي في السَّفَطْ

في  كَرَارِيسَ   جِيادٍ   أُحرِزَتْ  ***   وَبِخَطٍّ  أَيِّ  خطٍّ   أَيِّ   خطْ

فإِذَا   قُلتَ   لهُ   هات    إِذَن  ***   حكَّ  لَحْيَيْهِ  جَمِيعًا  وَامْتَخَطْ

 

ولأبي حامد الغزالي -رحمه الله- حكاية لطيفة في هذا المعنى نقلها عنه أسعد الميهني، يحسنُ بنا إيرادها وسياقها في هذا المقام، وذلك أنه رحل إلى جُرجانَ وعلّق عن أبي نصر الإسماعيلي (تعليقة) فلما عاد إلى طوس قُطِعتْ عليهم الطَّريقُ، قال: وأخذ العيّارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتُهم فَالْتَفتَ إِليَّ مُقدّمهم وقال: ارجع ويحك وَإِلَّا هلَكت، فقلت له: أَسأَلك بالذي ترجو السَّلامة منهُ، أَن تردَّ عليَّ تعليقتي فَقَط، فما هي بشيء تنتفعون به. فقالَ لي: وما هي تعليقتك؟ فقلتُ: كتبٌ في تلك المخلاة هاجرتُ لسماعها وكتابتها ومعرفة علْمِهَا. فَضَحِك وقال: كيفَ تدعي أَنَّك عرفتَ علمهَا، وَقد أخذناها منك، فتجردتَ من معرفتهَا، وبقيت بلا علم؟! ثمَّ أَمرَ بعضَ أَصحابه فسلَّم إِلَيَّ المخلاة. قال الغزالي: فقلتُ: هذا مُسْتَنْطَق، أنطقه اللهُ ليرشدني بهِ في أَمري، فلما وافيتُ طوس، أَقبلتُ على الاشتغال ثلاث سنين، حتَّى حفظتُ جميع ما علَّقتُه، وصرتُ بحيثُ لو قُطِعَ عليَّ الطَّرِيقُ لم أتجرد من علمي" ذكرها ابن السبكي في (الطبقات).

 

وعدم الاعتناء بحفظ الدروس من أعظم ما يصدّ الطلبة عن العلم، ولهذا يترك أكثرُهم الطلبَ، ويجفو العلمَ ويهجُرُه، لأنه يستشعر أنه لا يحصّلُ منه شيئاً، وما ذاك إلا لتكاسلهم عن تحفّظه ومذاكرته، واتكالهم على السماع من الشيوخ حال الدرس، لأن الواحد منهم كما قال شيخنا الحافظ عبد المجيد اليوسفي البغدادي المفتي وكان ضريراً، لا يريد أن يُتعبَ نفسه في الحفظ، وكان يقول: الطلبة نوعان: (متمني ومتعني) يقول: بعضهم يتعب ويتعانى الطلب لكنه لا يحصّل شيئاً، والاخر يتمنى العلم ويريد تحصيله دون أن يُتعبَ نفسه، وكلاهما لا يـُحَصّلُه لأنه لا يحفظ ما يلقى عليه منه.

 

وتراهم يجلسون عند الشيوخ ويبدأ أحدهم بدرس الفقه مثلاً، حتى إذا بلغ أوائل الطهارة هجر مجلس الشيخ، فإذا فتّشتَ عن حاله وسألته قال لك: لا طائل منه ولا فائدة في درسه! ويتحول إلى درس شيخ آخر، وتراه قبل حضور مجلس الشيخ شديد الثناء عليه مبالغاً في تعظيمه، فإذا مضى أسبوعان على حضوره درسه، هجره بدعوى أنه لا يُحصّل شيئاً، وقد شاهدنا من هؤلاء الكثير بالأزهر ومساجد مصر، وما ذاك إلا لأنهم لا يحفظون ما يلقى عليهم من الدروس.

 

ومن هنا قال شعبة كما في (النبلاء) وقد رأى مجلسه امتلأ بالطلبة: (تُرى هؤلاء كلهم يخرجون محدّثين؟ ثم قال: لا يخرج منهم خمسة! يكتب أحدهم في صغره، ثم إذا كبر تركه).!

يريد: أنه يترك حفظ ما جمعه من الشيوخ من العلم فيذهب عليه، أو يذهل عنه بكثرة الصوارف والشواغل، أو يعجز عن حفظه ولا يريد أن يُتعبَ نفسه به، وبالتالي يستشعر أن زمانه الذي قضاه في الطلب قد ذهب هدراً دون طائل، فيترك الطلب ويهجره.

 

وقد سُئل شيخنا المحدّث طارق عوض الله المصري عن سبب قلّة النابغين في العلم، مع كثرة الطلبة وازدحامهم في مجالس الشيوخ؟! فأجاب بالعامية (لأنهم سَمّيعة) يريد: أنهم لا يعتنون بحفظ ما يلقى عليهم من الدروس، ويكتفون بالسماع.

 

وأخرج مسلم في (الصحيح) عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: (لا يُستطاع العلمُ براحة الجسم) ووقفتُ في بعض المجاميع على النكتة في إخراج مسلم هذا الأثر في باب المواقيت من (كتابه) ومعلوم أن هذا ليس موضوعه ولا محله، قالوا: لأن مسلماً كان قد رحل وتعب في تحصيل الحديث الذي قبله، فلما كتبه في موضعه من (الصحيح) تذكر رحلته وتعبه في سماعه، فكتب أثر يحيى بن أبي كثير هذا بعقبه، تذكرة وتسلية لنفسه، وعبرة لمن يأتسي به من بعده، فهذا سرّ ذلك.

 

وقد ذكر البديع في (مقاماته) عن عيسى بن هشام قال: (كنتُ في بعض مطارح الغربة مُجتازاً، فإذا أنا برجل يقول لآخر: بمَ أدركتَ العلم؟ وهو يُجيبه فقال: طلبتُه فوجدته بعيد المرام، لا يُصاد بالسهام، ولا يُقسم بالأزلام، ولا يُرى في المنام، ولا يُضبط باللجام، ولا يورث عن الأعمام، ولا يُستعار من الكرام، فتوسلتُ إليه بافتراش المدر، واستناد الحجر، وردّ الضجر، وروكوب الخطر، وإدمان السهر، واصطحاب السفر، وكثرة النظر، وإعمال الفِكَر، فوجدته شيئاً لا يصلح إلا للغرس، ولا يُغرس إلا في النفس، وصيداً لا يقع إلا في النَّدْر، ولا يَنْشَب إلا في الصدر، وطائراً لا يخدعه إلا قنصُ اللفظ، ولا يعْلَقُه إلا شَرَكُ الحفظ، فحملتُه على الروح، وحسبته على العين، وأنفقتُ من العيش، وخزنتُ من القلب، وحرَّرَّتُ بالدرس، واسترحتُ من النظر إلى التحقيق، ومن التحقيق إلى التعليق، واستعنتُ في ذلك بالتوفيق، فسمعتُ من الكلام ما فتق السمع، ووصل إلى القلب، وتغلغل في الصدر).

 

فقلت: يا فتى، ومن أين مطلع هذه الشمس؟ فجعل يقول:

 

إسكندريةُ  داري   ***  لو قرَّ فيها قراري

لكنَّ بالشامِ ليلي  ***   وبالعراقِ  نهاري

 

وقد ذكر أبو هلال العسكري أن أبا تمام الشاعر قصد بعض رؤساء الشام فأنشده قصائد ثم أعادها عليه مقلوبة، فعجب الرئيس من حفظه وقال: كيف تمكنت من حفظ ما أرى؟ فقال أبو تمام: (أفادنيه الطلب، وحفّظنيه السهر).

قال أبو هلال: (نعم المعلّم الدرس، ونعم المعين السهر، ونعم الدليل السراج، ونعم القائد الليل، ونعم المـُذكر الكتاب).

والإشكالُ الذي يعتري معاناةَ حفظ المتون إنما هو عدم فهم ما يُحفظ، وقد رأيتُ بالأزهر أعجمياً يستظهر (كافية ابن الحاجب) ولا يحسنُ النحو!

وذكر الحافظ ابن كثير في (تاريخه) أن العلامة صدر الدين بن المرحل كان يلحن، مع أنه كان يحفظ (مفصّل الزمخشري)!

وكان لإمام الحرمين في مجلسه رجلٌ يحفظ كتبَ الشافعي ونصوصَه، لكنه لا يدري الفقه ومعانيه، فكان الإمامُ ربما استحضر منه ما استعصى عليه من نصوص الشافعي، فكانوا يسمّونه (حمار الشافعية)!

 

وقد كان السلف يستعينون بالعمل على الحفظ كما قاله وكيع وغيره، ومرادهم بذلك ليس مجرد العمل بما علم، فإن من العلم ما لا يتهيأ العمل به للطالب، كالفقير كيف يعمل بأحكام الزكاة والبيوع والحج! وإنما مرادهم أيضاً الاستعانة على حفظ العلم بالعبادة، وكثرة النوافل، من قيام الليل، وذكر الله، واجتناب المعاصي، ونحو ذلك.

 

وأيضاً عدم إحكام الحفظ واستدامته من جهة أخرى، وقد ذكر ابن الجوزي في (الحث على حفظ العلم) أنه تأمل على المتفقهة أنهم يعيدون الدرس مرتين أو ثلاثاً، فإذا مرَّ على أحدهم يومان نسي ذلك، فإذا افتقر إلى شيء من تلك المسألة في المناظرة لم يقدر عليه، فذهب زمانه الأول ضائعاً، ويحتاج أن يبتدئ الحفظ، والسبب أنه لم يُحكم حفظه.

 

ونقل هو أيضاً أن أبا إسحق الشيرازي كان يعيد الدرس مئة مرة، ويعيده أبو الحسن إلكيا الهراس سبعين مرة.

 

وقال الفقيه الحسن النيسابوري: لا يحصل إليَّ الحفظ حتى يعاد خمسين مرة، وحكى أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مراراً، فقالت له عجوز: قد والله حفظته أنا! فقال لها: أعيديه! فأعادته. فلما كان بعد أيام قال لها: أعيدي ذلك الدرس؟ فقالت: ما أحفظه. فقال: إني أُكرر عدّ الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك.

 

والذي ينبغي عدم الإكثار من المحفوظ بحيث يصعب عليه تثبيته ومراجعته، وقد كان أبو حنيفة وهو فقيه الدنيا، لا يزيد على أن يحفظ في اليوم ثلاثة مسائل.

 

وقال أبو منصور الأزهري في (مقدمة تهذيب اللغة): (قليل لا يخزي صاحبه خير من كثير يفضحه). وذلك لأن الإكثار مظنة العثار.

 

وقد ذكر الأصمعيُّ أنه حضرَ هو وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع، قال: فقال لي: كم كتابك في الخيل؟ فقلت: مجلد واحد، ثم سأل أبا عبيدة عن كتابه في الخيل فقال: خمسون مجلداً.! فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً عضواً منه وسمّه.

فقال: لست بيطاراً، وإنما هذا شيءٌ أخذتُه عن العرب. فقال لي: قم يا أصمعي وافعل ذلك. قال: فقمتُ وأمسكتُ ناصيةَ الفرس، وشرعت أذكر منه عضواً عضواً، ويدي على ذلك العضو، وأنشدُ ما قالته العرب إلى أن فرغتُ منه. فقال: خذه. فكنتُ إذا أردت أن أغيظَ أبا عبيدة ركبتُه إليه.

وقد قال ابن النحاس:

 

اليومَ   شيءٌ   وغداً   مثلُه   ***  من نُخَبِ العلمِ التي تُلتقطْ

يُحصّلُ  المرءٌ  بها   حكمةً  ***   وإنما السيلُ اجتماعُ النقطْ

 

وسأل فقيرٌ رجلاً بخيلاً فأعطاه فلساً، فاستقلّه الفقيرُ وقال: فلس! فقال البخيل:

لا تهزأنْ  بالفلسِ  قطْ ***    واحزنْ عليه إذا سَقَطْ

ثمّ  اجتهدْ  في   جمعهِ  ***   إنّ السيولَ من  النُقَطْ

 

وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في (العلم) عن الزهري قال: (لا تُكابر العلمَ، فإن العلم أوديةٌ، فأيها أخذتَ فيه قطعَ بك قبل أن تبلغه، ولكن خُذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلمَ جملةً، فإن من رامَ أخذه جملةً ذهب عنه جملةً، ولكنْ الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي).

 

ومما يغلط فيه كثير من طلبة العلوم، فرط النهمة في الاطلاع على كل جديد، والتفتيش عن حديث العلم الذي لم يقف عليه، قبل أن يحكم حفظ ما كتبه واطلع عليه، وقد قال ابن الجوزي (من تلبيس إبليس على الطلبة أنهم ينهمون على شراء الكتب ثم لا يطالعونها).

 

وقال الخليل (الاحتفاظ بما في صدرك أولى من درس ما في كتابك).

 

وكان ابن مهدي يقول (لئن أعرف علّة حديث عندي أحب إليّ من أن أستفيد عشرين حديثاً ليستْ عندي).

 

وقد ذكر الأصوليون من شروط المجتهد أن يتصور غالب مسائل الفنون التي هي أدوات الاجتهاد، ويستحضرها في ذهنه، وهذا إنما يتمّ وينضبط في الغالب بحفظ متن في كل فنّ، بحيث يسهل عليه عرض المسائل على ذهنه، وبالتالي تصورها واستحضارها وقت الحاجة، ومن هنا قصّر كثير من العلماء في هذه الأعصار عن درك الاجتهاد، حتى اضطرهم الواقع أن يتسامحوا في بعض شروط المجتهد، فاستبدلوا شرط حفظ وتصور الأحكام والعلوم التي هي من آلات المجتهد، باشتراط القدرة على البحث في الكتب والتمكن منه، فقال بعضهم كالدكتور الأشقر وغيره لا يُشترط في المجتهد أن يكون حافظاً لجملة الأحكام ومسائل العلوم التي هي من آلات الاجتهاد، بحيث يستحضرها ويتصورها في ذهنه، بل يكفي أن تكون لديه مكتبة تحوي أصول كتب هذه العلوم، ويتمكن من البحث فيها واستخراج الأحكام منها.

 

وهذا فاسد جداً، فإن الأوائل كان عندهم من تصانيف العلوم ما يفوق الوصف، مع علو ملكتهم في البحث ورتبتهم فيه وتمكنهم التام منه، ما لا يتهيأ للمعاصرين بعضه، ومع هذا اشترطوا الحفظ، ولذا تمكنوا من استنباط الأحكام للنوازل في عصرهم، وتخريج أحكام الحوادث على القواعد.

 

ومن معوّقات هذه الطريقة ومزالقها، الاقتصار على حفظ المتن والركون إليه، دون استشراح ألفاظه واستخراج فوائده، فيظن أنه بحفظ المتن قد حصل نهاية الفن، وليس كذلك، بل المتن أول الطريق وبدايته، وهو إنما يضبط لك أصول الفن بحيث لا تذهب عنك، فلا بدَّ بعد إحكام حفظه من الإقدام بعزم على استشراحه وفهم مسائله، وستجد أن كل جملة من المتن تحوي فوائد جمّة، وكل عبارة أو لفظة منه إنما هي مسألة من مسائل الفن الكبار التي تجري مجرى الأمهات والأصول، وستوقن أن حفظ المتن قد سهّل عليك استحضار مطولاته وشروحه الحاوية لفوائده المنتشرة المطوية في غضون ألفاظه، بحيث يرتبط عندك كل لفظة منه أو عبارة بشرحها، فإذا عرضتَ على ذهنك ألفاظ المتن وعباراته، سهل عليك استذكار شرحه واستحضاره لأجل الارتباط وعدم الانفكاك بين المتن وشرحه، وهذا أحد أسرار حفظ المتون التي لا يلمسها إلا الحفاظ المجربون.

 

ولنضرب مثلاً لذلك بكتاب الله العزيز الذي لا مثل له، فإنه دون ريب قد حوى أصول العلوم، ومن هنا شرط الشافعي وتبعه أبو العباس بن تيمية على المجتهد حفظه كله، دون الاقتصار على حفظ الخمسمائة آية من الأحكام، لكن الحافظ له لا يُحكم له بالعلم ولا يقضى له به، حتى يفهم معانيه، ويتعقل أغراضه ويدرك مراميه، وهذا إنما يتمُّ له بتفسير ألفاظه وفهم معانيها، وسيجد أن كل لفظة إذا استحضرها، فإنه يرد على ذهنه ما يتعلق بها من التفسير ويستذكره، وهكذا القول في متون الحديث والسنة.

 

فألفاظ المتن بمنزلة الفهرس لمسائل الفن التي يستذكر بها فوائده وعلومه.

 

وقد ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في (تاريخه) عن الحافظ الكبير أبي الحسن الدارقطني الذي قيل إنه أحفظ أهل الإسلام، أنه حين أملى (علل الحديث) كانت أطراف الأحاديث مكتوبة عنده على شكل أسئلة قد أعدها أبو منصور الكرخي، فيكتب مثلاً: حديث الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود في كذا، وحديث هشام عن عروة عن عائشة في كذا وهكذا، فيكشف الدارقطني عن الحديث في الأوراق ويتأمله، ثم يندفع في إيراد طرقه والكلام على علله من حفظه.

 

فكأنه بهذا التأمل يستذكر الكلام على الحديث وطرقه، ويجمع أطرافه وذيول مباحثه، تماماً كألفاظ المتن التي تقيّد لك مسائله وتعقل لك مباحثه.

 

ولا بدّ لمن حفظ متناً من استشراحه واستذكار فوائده واستحضارها، وإلا فإن مجرد الاقتصار على حفظ المتن لا يصير به الحافظ فقيهاً عالماً، وإنما هو ناقل فقه وعلم كما قاله أبو عبد الله العبدري والعز بن عبد السلام.

 

وليكن الأمر عندك نظير الدراسة في مرحلة المتوسطة أو الثانوية التي كنا نتلقاها في مدارسنا في مواد الهندسة والرياضيات والفيزياء والكيمياء، فكنا نحفظ القانون العام للقاعدة أو النظرية، ثم نقوم بدراسة شرحه وحلّ ما يتعلق به من المسائل.

 

فكذلك المتون، وضع في خاطرك أنك لا بد أن تكون قادراً على حلّ مشكلات المتن وفكّ مقفلاته، فبه تملك زمام العلم ومقاليده.

 

فإن قصر بك جواد الحفظ لألفاظ المتون، لأنه دون ريب يستغرق زماناً أكثر وجهداً أكبر، فلا أقل من سلوك هذه الطريق التي ذكرها ابن بدران في (المدخل) قال: "واعلم أَن للمطالعة وللتعليم طرقاً ذكرها العلماء، وإننا نثبت هنا مَا أخذناه بالتجربة، ثمَّ نذكر بعضًا من طرقهم لئلَّا يخلو كتابنا هذا من هذه الفوائد، إِذا تمهد هذا فاعلم أننا اهتدينا بفضله تعالى أثناء الطّلب إِلى قاعدة، وَهِي أننا كُنَّا نأتي إِلى المتن أَولاً فنأخذ منه جملة كافية للدرس، ثمَّ نشتغل بحل تلك الجملة من غير نظر إِلى شرحها، ونزاولها حتى نظن أننا فهمنا، ثمَّ نقبل على الشرح فنطالعه المطالعة الأولى امتحاناً لفهمنا، فإِن وجدنا فيما فهمناه غلطاً صححناه، ثمَّ أَقبلنا على تفهّم الشرح على نمط ما فعلناه فِي المتن، ثمَّ إِذا ظننا أننا فهمناه راجعنا حاشيته إِن كان له حاشية مراجعة امتحان لفكرنا، فإِذا علمنا أننا فهمنا الدرس تركنا الكتاب واشتغلنا بتصوير مسائله فِي ذهننا، فحفظناه حفظ فهم وتصور، لا حفظ تراكيب وألفاظ، ثمَّ نجتهد على أَداء معناه بعبارات من عندنا غير ملتزمين تراكيب المؤلف، ثمَّ نذهب إلى الأستاذ للقراءَة، وهنالك نمتحن فكرنا في حل الدرس، ونقوّم ما عساه أَن يكون به من اعوجاج، ونوفر الهمة على ما يورده الأستاذ مما هو زائد على المتن والشرح، وَكُنَّا نرى أَن من قرأَ كتاباً واحدًا من فنّ على هذه الطريقة، سهل عليه جميع كتب هذا الفن ومختصراتها ومطولاتها، وثبتت قواعده في ذهنه".

 

والحفظ من جهة نفس المحفوط نوعان: حفظ ألفاظ وتراكيب، وهو الغالب على المغاربة وأهل الحديث، وحفظ معانٍ وهو المعرفة كما قاله الحافظ ابن حجر وغيره، وهو الغالب على المشارقة والفقهاء.

 

ومن هنا قال الشافعي لإسحاق بن راهويه وقد عجب من حفظه (لو كنتُ أحفظ كما تحفظ لغلبتُ أهل الدنيا) يريد: حفظ الحديث على رسم أهله وهو السرد كما قاله البيهقي، ولهذا كان إسحاق لايهتدي لما يهتدي إليه الشافعي من الفقه والمعاني والاستنباط.

 

ولذا قال الفخر الرازي على كلمة الشافعي: "الفهم غير الحفظ، والحكماء يقولون إنهما لا يجتمعان على سبيل الكمال، لأن الفهم يستدعي مزيد رطوبة في الدماغ، والحفظ يستدعي مزيد يبوسة، والجمع بينهما محال".

 

وقد كان في أصحاب القاضي أبي بكر الباقلاني، القاضي عبد الوهاب البغدادي من مشارقة المالكية وهو ناصر مذهب مالك لبراعته في النظر والاستدلال واستنباط المعاني، وكان فيه أبو الحسن القابسي حافظ المذهب من مغاربتهم، فكان القاضي يقول: "أحدهما ينصره والآخر يحفظه".

 

ولهذا قدّم المالكية في تشهير المذهب وتحقيقه، قول المغاربة لأنهم أضبط في حفظه وتحقيق قول مالك، بخلاف المشارقة الذين هم أقعد في الاستدلال له، وهذا في الغالب، ولذا قال ناظم (البو اطلحية):

 

ورجحوا ما شَهَرَ المغاربهْ  *** والشمسُ بالعراقِ ليستْ غاربهْ

 

وقد قال الشافعي (ليس العلم ما حُفظ، إنما العلم ما نفع) يريد: أن مجرد الحفظ دون فهم لا ينفع، حتى يفهم ويعي ما يحفظ، وليس مراده صدّ الطلبة عن الحفظ كما توهمه بعض العاجزين المتكاسلين عنه.

وإنما يحصل الانتفاع بتحصيل ما يمكن من النوعين، والاقتصار على واحد منهما يورث العالمَ قصوراً في فنّه وخللاً في علمه، ونقصاً في مقامه، وقد ذكروا أن حنبلياً من الحفاظ حضر عند الشيخ نظام الدين القاهري وكان يستروح إلى تحقيق وفهم العلوم دون حفظها، فجرى البحث في مسائل من العلم مما يحتاج إلى نقل، فسكت القاهري وقال الحنبلي: طاح مقام النظر وجاء مقام الحفظ، حتى جاءت مسألة تحتاج إلى بحث ونظر، سكت الحنبلي، فقال القاهري: طاح مقام الحفظ، وجاء مقام النظر.

 

ولذا قلَّ أن تجد عالماً محققاً لا يحفظ، دع عنك أهل الحديث الذين الحفظ صنعتهم، وتأمل حال النُّظار من المتكلمين كالفخر والغزالي وإمام الحرمين ونظرائهم تجدهم حفاظاً يـُمْلُون علمَهم من صدورهم، كما أملى إمام الحرمين (التلخيص في الأصول) من (تقريب القاضي) بمكة شرّفها الله، وكان الفخر يستظهر (الملخص في الأصول) للقاضي عبد الوهاب وكان يكون دائماً في كُمّه، وكان هو وأبو الحسن الآمدي يحفظان (المستسصفى) وكان القاضي الباقلاني يملي كتبه التي فيها علمه وعلم المخالفين والرد عليهم من صدره، وقال الروياني (لو احترقتْ كتب الشافعي لأمليتها من حفظي).

 

ولما أعدم الموحدون نسخ (المدونة) وهي الأم في مذهب مالك، وأراد مَنْ بعدهم بعد زوال ملكهم إعادتها، لم يجدوا لها نسخة، فأملاها عليهم الفقيه أبو الحسن بن أبي العشرين من حفظه، ثم عثروا لها على نسخة متقنة مجوّدة، فقابلوها بإملاء أبي الحسن، فلم يجدوا فرقاً بين النسختين إلا في الواو والياء، ونظائر هذا كثيرة جداً، ولذا يجد الناظر في تراجم كثير الفقهاء أنه كان يُضرب به المثل في حفظ مذهبه.

 

وقد كان الفقهاء يأخذون على الطلبة الحفظ، ويتشددون فيه ولا يتسامحون، وذكر ابن النجار في (تاريخه) أن أبا الخير القزويني كان بليد الذهن في الحفظ، وكان في مدرسة الإمام محمد بن يحيى صاحب الغزالي، وكان من عادته أنه يستعرض الفقهاء كل جمعة ويأخذ عليهم ما حفظوه، فمن وجده مقصراً أخرجه من المدرسة، فوجد القزوينيَّ كذلك فأخرجه، فخرج ليلاً وهو لا يدري أين يذهب، فنام في أتون حمام، فرأى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فتفل في فمه مرتين، وأمره بالعود للمدرسة، فعاد ووجد الماضي محفوظاً واحتدَّ ذهنه، وقد وقع نظير هذه الحكاية للتفتازاني، ووقع نحوها لكن مع النووي لأستاذنا الدكتور المتكلم محمد رمضان عبد الله رحمه الله، فكان عجباً في استحضار مذاهب المتكلمين والأصوليين وأدلتهم ومباحثهم.

 

وهذا شيء لا يقاس عليه، وإنما غرضنا من ذكره التنبيه على حفظ الفقهاء، وهو إنما يحصل ويقع بتكرار المحفوظ تكرار من يفهم، ومداومة النظر في الكتاب الذي يريد حفظه، ألا ترى أن أم سلمة رضي الله عنها حفظت (سورة ق) من فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة ما كان يكررها في خطبة الجمعة.

 

وقد ذكروا أن أبا عثمان الحيري كان يديم النظر في (المستخرج على مسلم) لأبي جعفر ابن حمدان، فكان إذا جلس للوعظ يقول في بعض الحديث روي، وفي بعضه قال، فنظروا فإذا به قد حفظ الكتاب حتى ميّز بين صحيحه وسقيمه.

 

وحكوا عن العلامة تاج الدين الفزاري أنه كان يديم النظر في (شرح التنبيه) حتى حفظه حفظاً متقناً، فكان ربما أحال عليه من حفظه بالجزء والورقة.

 

وذكروا عن الرئيس أبي علي بن سينا أنه نظر في كتاب (ما وراء الطبيعة) لأبي نصر الفارابي أربعين مرة، حتى حفظه ولم يفهمه لوعورته.

 

وكانت فاطمة بنت العباس تستشكل على شيخ الإسلام ابن تيمية في درسه، لأنها كانت تديم النظر في (المغني) لابن قدامة حتى استظهرته، فكان يستعدّ لها.

 

وكان ابن تيمية يديم النظر في (المحلى) لابن حزم، حتى قال الصفدي في (تاريخه): "كان يحفظه عن ظهر قلب، فلو شاء لأملاه من حفظه بما فيه من الشناعة والثلب".

 

وحكوا عن ابن رسلان الخوارزمي أنه قرأ (شرح المهذب) لأبي بكر الصيدلاني و(تفسير الثعلبي) حتى حفظ جملة ما فيهما، فكان إذا سُئل يجيب على البديهة منهما، ويذكر من حفظه الخلاف والمذاهب والأقوال والأدلة من غير خطأ.

 

وأملى النووي على أصحابه مسألة من (الوسيط) للغزالي، فراجعوه فيها، فقال: "تراجعوني في الوسيط، وقد قرأته أربع مائة مرة".

 

ولما تنازع الناس في فضل العلامة عبد القادر المكي الطبري فحلف بعضهم بالطلاق أنه ليس بمكة أحد أعلم منه، واختلف العلماء في حنثه، فأجاب الحافظ ابن حجر والسنباطي بعدم الحنث، وعلّلوه بسعة علمه وكثرة محفوظه، حتى إنه إذا سُئل في الفقه أجاب في الحال من (شرح الرافعي) أو( الروضة) وإن سُئل في الأصول أجاب من (مختصر ابن الحاجب) أو (مختصر البيضاوي) وهكذا التفسير والحديث وغيرها من الفنون، وهذا لأنه كان يديم مطالعة هذه الدواوين حتى رسخت في ذهنه.

 

وحدّث العلامة المختار بن بونا رحمه الله عن نفسه، أنه في حداثته استغلق عليه فهم وحفظ النحو، فخرج من الدرس باكياً لتعنيف المعلم إياه على تقصيره، فاستند إلى شجرة يفكر في شأنه، فرأى نملة تحمل رزقها وتحاول أن ترقى به جذع الشجرة، فعدَّ لها سبع مرّات وهي ترقى ثم تقع، ثم تعود فتحمله وترقى، وهكذا حتى حصل لها ما أرادت، ففهم أن تكرار المحاولة يفتح المقفل والمغلق من الفهم والحفظ، ومن هنا قال أديسون وهو الذي ابتكر المصباح بعد ألف تجربة: (العبقرية تكرار المحاولة).

 

ويحصل الحفظ أيضاً بالتعوّد عليه بكثرة ممارسته وعدم قطعه حتى يسهل عليه، وقد حكى أبو هلال العسكري عن أبي السمح الطائي أنه قال: كان الحفظ يتعذّر عليَّ حين ابتدأتُ أرومه، ثم عوّدته نفسي إلى أن حفظت قصيدة رؤبة (وقاتم الأعماق خاوي المُخترقنْ) في ليلة، وهي قريب من مائتي بيت.

 

وأيضاً فنفس المحفوظ يتفاوت في سرعة الحفظ وإحكامه، فحفظ الشعر المنظوم ليس كحفظ النثر، والواجب على المعتنين بالتحصيل والطلب مراعاة ذلك من جهة الوقت والجهد.

 

وقد ذكر الذهبي وابن السبكي وغيرهما أَن أَبا الفضل الهمذاني الأديب لما ورد نيسابور وتعصبوا له ولقبوه بديع الزمان، أعجب بنفسه إِذ كان يحفظ المائة بيت إِذا أنشدت بين يديهِ مرّة، وينشدها من آخرها إِلى أَولها مقلوبة، فأنكر على الناس قولهم (فلان الحافظ في الحديث) ثم قال: وحفظ الحديث مما يُذكر؟! فسمع به الحاكم ابن البيّع، فوجّه إِليه بجزء وأجّلَه جمعة في حفظه، فردَّ إِليه الجزء بعد الجمعة وقال: مَنْ يحفظ هذا؟ محمد بن فلان وجعفر بن فلان عن فلان! أسامي مختلفة وألفاظ متباينة! فقال له الحاكم: فاعرف نفسك واعلم أَن حفظ هذا أضيق مما أَنت فيه.

 

ويتفاوت المحفوظ أيضاً بحسب رغبة وميل الطالب إلى العلم وشغفه به ونهمته فيه، وقد ذكر أبو الحسن الأخفش أن النَّظّام قال: لو تفرّغتُ للعروض لحفظته في يومين، قال: فلما تفرغّ له لم يحفظه في شهرين.!

في حين إن أبا جعفر بن جرير أحكم العروض في ليلة، وذلك أنه سأله سائل عن وزن بيت فلم يعرفه، وطلب من السائل أن يمهله حتى الصباح، ثم استعار عروض الخليل من صاحب له، وبات ينظر فيه حتى قال: أمسيتُ لا أدري العروض، وأصبحتُ عروضياً.

 

ونظيره أن أبا بكر بن الأنباري سُئل عن تأويل رؤيا ولم يكن له بهذا الفن دراية، فأستمهل السائل حتى الصباح، وذهب فاستعار كتاب الكرماني في التعبير، وأحكمه في ليلة واحدة، حتى صار معبّراً.

 

لكن هذا الحفظ أعني حفظ المطولات من الكتب الذي يذكر عن بعض أهل العلم، المراد منه في الغالب الحفظ الذي هو المعرفة بفوائد الكتاب، والذي يتولد من كثرة تكرار النظر فيه وإدامة قراءته، وقد قال ابن السبكي في ترجمة بعض من قيل إنه يستظهر (كتاب سيبويه) إن هذا لا يكاد يُتصور أنه الحفظ عن ظهر قلب باللفظ، وإنما المراد حفظ معاني الكتاب وفوائده بدوام النظر فيه.

 

وهذا كما قال المزني إنه قرأ (رسالة الشافعي) خمسمائة مرة، ومنه قول البخاري حين سُئل عن دواء للحفظ: "لا أعلم دواءً للحفظ أنفع من نهمة الرجل ومداومة النظر وكثرة المراجعة".

 

ولذا تجد أن كثيراً من العلماء قد غلب عليه النظر في كتاب معين حتى عُرف به، لأنه شغف به ومال إليه، فداوم عليه، حتى حفظه أو كاد كما تقدم ذكره، ولذا يقول أبو العباس بن سريج في (مختصر المزني):

 

سميرُ فؤادي مُّذْ  ثلاثون  حِجَةً    ***   وصيقلُ ذهني والمُفرّجُ عن همي

 

وقال أبو الحسن الفالي في (الجمهرة) لأبي بكر بن دريد، وقد كان يحفظها ويمتلك نسخة مجوّدة منها، فلما افتقر باعها وأنشد:

 

أنسِتُ بها عشرين حولاً  وبعتها  ***   فقد طال شوقي  بعدها  وحنيني

وما  كان  ظنّي   أنني   سأبيعها *** ولو خلّدتني في  السجون  ديوني

ولكن  لضَعْفٍ  وافتقارٍ   وصبيةٍ ***    صغارٍ  عليهم   تستهلُّ   شؤوني

فقلت  ولم  أملكْ  سوابقَ  عَبرة    *** مقالةَ   مشويِّ   الفؤاد    حزينِ

وقد تُخرجُ الحاجاتُ يا أمَّ مالكٍ  ***   كرائمَ   من   ربٍ   بهنَ   ضنينِ

 

والخبر بتمامه عند ياقوت في (الأدباء) والسيوطي في (المزهر) وغيرهما، والحاصل منه أنه داوم على مطالعتها عشرين سنة! فكيف لا ترسخ معانيها فضلاً عن ألفاظها في ذهنه.؟

 

وكان لهم طريقة في تجريد فوائدها وحفظها، وذلك أنهم يعمدون عند مطالعتها إلى وضع خطٍ أو علامة على الفوائد التي لا غنى للعالم عن حفظها بألفاظها، كالشعر والنصوص ومذاهب الناس ونحو ذلك، فيُجرّدون المطولات منها ويخلصونها، بحيث ينقسم الكتاب عندهم إلى قسمين: ما تحته خط أو علامة وهو للحفظ بلفظه، وما هو مهمل وهو الكلام الذي هو شرح للمعنى، بحيث يكتفى بفهمه وتأديته عند الحاجة بلفظه هو، دون الحاجة إلى لفظ المـُصنِّف، فإذا كرَّرَّ على الكتاب مرة أخرى فإنه يطالع ما تحته خط أو علامة، ويداوم على النظر فيه ومراجعته، حتى يرسخ في ذهنه ويحكم حفظه.

 

والحفظ من جهة طرائق ووسائل الحفظ نوعان: حفظ التكرار الذي هو هذا، وهو الغالب على الناس، حتى من الحفاظ الكبار كما مرّ عن البخاري وغيره، وحفظ الأذكياء وهو بالتأمل في معاني الكتاب حتى يفهمه، كما حفظ شيخ الإسلام ابن تيمية (كتاب سيبويه) وفهمه بتأمله مراراً، وذكر السخاوي وغيره عن الحافظ ابن حجر أنه كان يحفظ حفظ الأذكياء، وأنه تأمل (مختصر البيضاوي) فحفظه.

 

ويمكن أن يُجمع بين النوعين، ويستعمل الطريقتين، وذلك بحسب ذهن الحافظ فإنه قد يستروح لهذا النوع دون الاخر، وبحسب المحفوظ نفسه، فإن من الكتب والعلوم ما يكفي حفظه بالتأمل، ومنه ما لا يتأتى إلا بتكراره، ولهذا ذكروا في طريقة الحفظ أنه تارة يرفع صوته بالمحفوظ حتى يرسخ، وهو حفظ التكرار، كما قال أبو هلال العسكري أنه (يرفع صوته بالدرس حتى يُسمع نفسه، فإن ما سمعته الأذن رسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه منه لما يقرأه) وحكى عن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: "إذا درستم فارفعوا أصواتكم، فإنه أثبت للحفظ وأذهب للنوم".

 

وتارة يقرأ ويطالع بصمت، وبالنظر في المحفوظ دون أن يـُحرّك شفتيه به، فيرسخ ما تأمله ولا سيما إذا كان المقروء مما يغلب عليه الفهم دون الحفظ كما حكاه ابن الجوزي، وتفسير ذلك عند الأطباء أن الدماغ يلحقه من الإعياء والجَهد باشتغال جارحتين من الجوارح التابعة له، أكثر مما يلحقه من ذلك باشتغال جارحة واحدة، ولذا حكى أبو هلال أنهم كانوا يقولون: "القراءة الخفيّة للفهم، والرفيعة للحفظ والفهم".

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات