اللمعة في رد شبهة حول خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة

ناصر عبدالغفور

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

تلقَّيتُ رسالةً من بعضهم حول خُطَب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، ولمَّا قرأتُها ظهر لي أنَّها شبهة من شُبه المغرِضين، فرددتُ عليه بشكلٍ لم يتمكَّن معه من متابعة النِّقاش ولله الحمدُ والمنَّة، وهكذا حالُ أصحاب الشُّبه الذين لا همَّ لهم إلاَّ فتنة الناس بشُبَههم وتشكيكهم في دينهم، فهم كالخفافيش بمجرَّد ظهور نور الحق يَختفون.

 

 

 

تلقَّيتُ رسالةً من بعضهم حول خُطَب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، ولمَّا قرأتُها ظهر لي أنَّها شبهة من شُبه المغرِضين، فرددتُ عليه بشكلٍ لم يتمكَّن معه من متابعة النِّقاش ولله الحمدُ والمنَّة، وهكذا حالُ أصحاب الشُّبه الذين لا همَّ لهم إلاَّ فتنة الناس بشُبَههم وتشكيكهم في دينهم، فهم كالخفافيش بمجرَّد ظهور نور الحق يَختفون.

 

 

 

خفافيش أعشاها النَّهارُ بضوئه *** ووافقها قِطعٌ من الليل مظلمُ

خفافيش أعشاها من الحقِّ شمسه *** وأعمها إشراقه إذ تبسَّما

فلمَّا دجى ليلُ الضلالة أقبلَت *** وجالَت وصالَت حين جنَّ وأظلما 

 

فهم أَتباع كلِّ ناعِق، لم يلجؤوا إلى علمٍ وثِيق، ولم يأوُوا إلى ركنٍ وثيق، فهاموا من الجهل والضلال في كل فجٍّ عميق.

 

وهذه الشُّبه تَظهر بين الفينة والأخرى ضمن مخطَّط محكَم وُضع من طرف أسيادهم لضرب هذا الدِّين في مقتل، لكن هيهات هيهات... أنَّى لهم ذلك، فهم والله كنافخٍ في الشمس يريد إطفاءها أو واضع يده نحوها ليَحجبها، وصدق ربُّنا إذ يقول في مثل هؤلاء وأندادهم: ? يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ? [التوبة: 32].

 

وقد رأيتُ أن أَنشر في شبكة الألوكة المبارَكة هذه الشُّبهة وردِّي عليها، راجيًا منه سبحانه الإخلاص والسداد والتقوى، فهي والله نِعم الزاد ليوم المعاد.

 

نص الرسالة:

"سؤال مطروح للنِّقاش: إذا كانت السُّنَّة هي كل ما ورَد عن رسول الله من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير، وبناء عليه تمَّ نقل كلِّ حركات وسكنات الرَّسول، بل زادوا عليه ممَّا لم يَقله ولم يَفعله الكثير، وعُرف ذلك تاريخيًّا بالأحاديث الموضوعة، فهل لم تَكن خُطب الرسول من بين أقواله واجِبة النقل كي تَسترشد بها الأمَّة؟! فأنا لم أَسمع أنَّه ورَد عن رسول الله من الخطب سوى خطبةِ الوداع وخطبة أخرى قيل: إنَّه صعد المنبر فقرأ سورة ق ثمَّ نزل.

 

هل تمَّ إخفاء هذه الخطَب بإجماع رواة الأحاديث؟ ولمَ تمَّ إخفاؤها؟ وإن لم يكن تمَّ إخفاؤها هل لم يكن رسولُ الله يَخطب المسلمين يوم الجمعة مثلاً؟ أم أنَّه لم يكن هناك خطبة جمعة من الأساس؟ أم أنَّه تمَّ إخفاء الخطب الخاصة بالرسول لِعِلَّة في نفس المؤرِّخين أجمعين؟ أو أنَّ صلاة الجمعة لا تتضمَّن خطبة الجمعة أساسًا؟! وإن كان تمَّ إخفاء هذه الخطَب عن قصد، فهل نَثق في كلِّ ما جاءنا من هؤلاء الرواة؟ وإن لم يكن تمَّ إخفاؤها ولكنها اندثرَت بفِعل الزمن، فهل يَندثر شيء شاهدَه كلُّ الصحابة أو معظمهم، ثمَّ تَبقى أحاديث أكثرها لم يَروه سوى أفراد معدودين، بل بعضها وردَت على لسان شخصٍ واحد عن رسول الله؟" اهـ.

 

الجواب:

عفوًا، الذي يَظهر وهذا ممَّا لا أشكُّ فيه أنَّك صاحب شُبه تحاول أن تتصيَّد بها... لكن ولله الحمد إذا كان المسلِم ثابتًا على دينه، موقنًا بَصيرًا بشرع الله، معظِّمًا لكتابه سبحانه ولسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا تؤثِّر فيه مثلُ هذه الشبه.

 

هداك الله، كيف تتَّهم الأمَّة بإخفاء خطبه صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أنَّك لا تَقصد إلاَّ الصحابة، فهم الذين خدعوا حَسب ما يُفهم من كلامك الأمَّة بإخفائهم خطبه صلى الله عليه وسلم.

 

اعلم أنَّ الله تعالى قال: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [الحجر: 9]، فتكفَّل الله تعالى بحفظ ذِكره ووحيِه كتابًا وسنَّة؛ فلو اجتمع مَن عليها من الجنِّ والإنس ليُغيِّروا شيئًا من هذا الوحي أو يَحذفوا شيئًا منه، والله ما استطاعوا لذلك سبيلاً، وقد سُئل الإمامُ ابن المبارك -رحمه الله تعالى- عن هذه الأحاديث المصنوعة الموضوعة؟ فأجاب قائلاً: "يعيش لها الجهابِذة، ثمَّ تلا قوله تعالى: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [الحجر: 9]".

 

فعدَّ رحمه الله جهودَ هؤلاء الجهابذة في تَنقيتها وتمحيصها، من تمام حِفظ الله عزَّ وجلَّ لدِينه وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم.

 

وقد وصف لنا الصحابةُ الكرام كلَّ ما يتعلَّق بصلاة الجمعة وخطبته صلى الله عليه وسلم، بل وَصفوا لنا حالتَه صلى الله عليه وسلم أثناء الخطبة، عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبه، حتى كأنَّه منذِر جيش يقول: "صبَّحكم ومسَّاكم"، ويقول: "أمَّا بعد، فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"؛ أخرجه مسلم، وفي رواية له: "كانت خطبة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة؛ يَحمد اللهَ ويُثني عليه، ثمَّ يقول على إثر ذلك وقد علا صوته...".

 

وذكروا لنا كيف أنَّه كان يَخطب قائمًا لا قاعدًا؛ فعن جابر بن سمرة: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يَخطب قائمًا، ثمَّ يجلس، ثمَّ يقوم فيَخطب قائمًا، فمن نبَّأك أنَّه كان يَخطب جالسًا فقد كذب؛ فقد والله صلَّيتُ معه أكثر من أَلفَي صلاة"؛ رواه مسلم.

 

♦ وعن ابن عمر قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخطب يوم الجمعة قائمًا، ثمَّ يجلس، ثمَّ يقوم"؛ مسلم.

 

♦ وعن جابر بن سمرة قال: "كان لِرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبتان، يَجلس بينهما، يقرأ القرآن، ويذكِّر الناس، ويحذِّر"؛ مسلم.

 

بل وصفوا لنا أدقَّ من ذلك؛ كيف أنَّه صلى الله عليه وسلم يَرفع إصبعَه عند الدعاء، ولا يرفع يديه الكريمتين، عن عمارة بن رُؤَيْبَةَ قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه فقال: "قبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا؛ وأشار بإصبعه المسبحة"؛ رواه مسلم.

 

والسور التي يصلِّي بها، كما في صحيح مسلم (3 / 139)؛ عن أمِّ هشام بنت حارثة بن النُّعمان قالت: "ما أخذتُ ? ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ? [ق: 1] إلاَّ عن لِسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يَقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطَب الناس".

 

♦ وعن ابن عبَّاس وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-: "كان صلى الله عليه وسلم يَقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? [الأعلى: 1] و? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? [الغاشية: 1]"؛ رواه مسلم.

 

بل وصفوا لنا رضي الله عنهم كيف أنَّه صلى الله عليه وسلم يراقِب ما يَحدث حين خطبته صلى الله عليه وسلم؛ من ذلك ما رواه الإمام أبو داود -رحمه الله تعالى- عن أبي هريرة قال: جاء سُلَيْك الغَطَفَاني ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَخطب، فقال له: "أصلَّيتَ شيئًا؟"، قال: لا، قال: "صلِّ ركعتين تجوَّزْ فيهما".

 

ومن ذلك ما رواه الإمام النسائيُّ بسندٍ صحيح عن أنس بن مالك: "أنَّ رجلاً دخل المسجدَ ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يَخطب فاستقبل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا وقال: يا رسول الله، هلكَت الأموال، وانقطعَت السُّبُل، فادعُ اللهَ أن يغيثَنا، فرفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَيه ثمَّ قال: "اللهمَّ أغِثنا، اللهمَّ أغِثنا"، قال أنس: ولا واللهِ ما نرى في السَّماء من سحابة ولا قزعة، وما بيننا وبين سَلْع من بيتٍ ولا دار، فطلعَت سحابةٌ مثل الترس، فلمَّا توسَّطَت السماء انتشرَت وأمطرَت، قال أنس: ولا والله ما رأينا الشَّمس سبتًا، قال: ثمَّ دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبِلة ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يَخطب، فاستقبلَه قائمًا فقال: يا رسول الله -صلى الله وسلم عليك-، هلكَت الأموال وانقطعَت السُّبل، فادعُ اللهَ أن يمسكها عنَّا، فرفع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يديه فقال: "اللهمَّ حوالينا ولا علينا، اللهمَّ على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومنابت الشجر"، قال: فأقلعَت وخرجنا نمشي في الشَّمس، قال شريك: سألتُ أَنَسًا: أهو الرَّجل الأول؟ قال: لا"، وربما أكتفي بهذه النماذج.

 

أمَّا أن يَنقل الصحابةُ الكرام كلَّ كلمة نطق بها رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- في خطبه، فخُطبه صلى الله عليه وسلم كلها مَوعظة وتذكير، وترغيب وترهيب، وهذا ما شملَته سنَّته صلى الله عليه وسلم وأحاديثه التي حوَتها المصنَّفات الكِبار.

 

يقول العلاَّمة الألبانيُّ -رحمه الله تعالى-: "وكان صلَّى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه في خطبته قواعدَ الإسلام وشرائعَه، ويأمرهم ويَنهاهم في خطبته إذا عرَض أمر أو نَهي؛ كما أمر الدَّاخل وهو يَخطب أن يصلِّي رَكعتين، ويذكر معالِم الشَّرائع في الخطبة، والجنَّة والنار والمعاد، فيأمر بتقوى الله، ويحذِّر من غضبه، ويرغِّب في موجبات رضاه... وكان إذا عرضَت له حاجة أو سأله سائل قطعَ خطبتَه وقضى الحاجةَ وأجاب السائل ثمَّ أتمَّها، وكان إذا رأى في الجماعة فقيرًا أو ذا حاجة أمر بالتصدُّق وحرَّض على ذلك، وكان إذا ذَكر الله تعالى أشار بالسَّبابة، وكان إذا اجتمعَت الجماعة خرج للخطبة وحدَه، ولم يكن بين يديه حاجبٌ ولا خادِم، ولم يكن من عادته لبس الطرحة ولا الطيلسان ولا الثوب الأسود المعتاد، وكان إذا دَخل المسجد سلَّم على الحاضرين لديه، وإذا صعد المنبرَ أدار وجهَه إلى الجماعة وسلَّم ثانيًا ثمَّ قعد"؛ الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات