التوسط والاعتدال (1) مفهوم الوسطية ومعالمها

أحمد عماري

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

فمن أراد النجاة فليَسلك الطريق الوسط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف، ولا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط فيه ولا تفريط، وليَحْذرِ الشيطانَ، فإنه لا هَمّ له إلا أن يَصُدّ العباد عن الطريق المستقيم؛ إما بميلهم إلى الإفراط أو إلى التفريط. فقد قال تعالى عنه في سورة الأعراف: ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) [الأعراف: 16، 17].

 

 

 

 

مفهوم الوسطية ومعالمها:

 

إخوتي الكرام؛ مع خلق آخر من أخلاق الإسلام الجميلة، وخصلة من خصاله الحميدة، مع خلق لطالما انشغل الناس بالحديث عنه في منتدياتهم ولقاءاتهم وتصريحاتهم وكتاباتهم، بسبب ما تعانيه المجتمعات من فتن ومحن؛ إنه التوسط والاعتدال.

 

فما أحوجنا إلى خلق التوسط والاعتدال... وفي مقابل هذا الطرفِ طرفٌ آخر يزعم التصديَ له، لكنه أخطأ في الوسيلة أيضا، إذ جعل الوسيلة إلى ذلك هدمَ القيم، والقضاءَ على الأخلاق، ونشر الرذيلة، والدعوة إلى الإباحية، ومعارضة النصوص الصحيحة الصريحة.

 

وبين هذا الطرف وذاك؛ نحتاج إلى توسط واعتدال، حتى نحصن أنفسنا ومجتمعاتنا، والتوسط هو القصدُ المصُون عن الإفراط والتّفريط. هو الأخذ بالأمر المشروع من غير زيادة ولا نقصان.

 

والوسط هو العدل والخيار، هو أفضل الأمور وأحسنها وأجملها وأنفعها للناس.

 

والاعتدال هو الاستواء والاستقامة والتوَسُّطُ بين حالَيْن؛ بين مجاوزةِ الحد المشروع والقصورِ عنه.

 

فالتوسط والاعتدال يعني فعل المطلوب والمأذون فيه من غير زيادة ولا نقصان؛ ذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر غلوّ وإفراط، والنّقص منه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط انحراف وميْلٌ عن الجادّة والصواب. وخير الأمور أوسطها، وكِلا طرفيْ قصدِ الأمور ذميم.

 

ولا شك أن دينَ الإسلام دينُ توسّط واعتدال، لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا غلو فيه ولا جفاء. شريعته خاتمة الشرائع، أنزلها الله للناس كافة، في مشارق الأرض ومغاربها، للذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والعالم والجاهل، والصحيح والمريض.

 

يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- في كتابه "الموافقات": "الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخِذ من الطرفين بقسط لا مَيْل فيه، الداخلِ تحت كسْبِ العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال".

 

دين الإسلام رخصة بعد عزيمة، ولين من غير شدّة، ويسرٌ من غير عسر، ورفع للحرج عن الأمة.

 

الإسلام دين الرحمة والسماحة، دين المحبة والإخاء، دين التعاون والتضامن.

 

الظلم فيه حرام، والتعالي فيه على الناس حرام، والاعتداء فيه على الأنفس والأموال والأعراض حرام... لا خلل فيه، ولا عيب فيه، ولا عوج فيه؛ لأنه دين رب العالمين، وأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.

 

فأين الخلل؟ ومِن أينَ جاءت الفتن والمحن؟

الخللُ في سوء فهم الناس لدين الله. الخلل في الممارسة والتطبيق. الخلل في البعد عن الدّين الحقّ الذي جاء به كتاب الله ودلت عليه سنة رسول الله. حين استسلم الناس لأهوائهم وشهواتهم، حين تخلى الناس عن العلم والعلماء، واتخذوا رؤوساً جهالاً من أصحاب الأهواء يسألونهم ويقتدون بهم ويستفتونهم في أمور عظيمة لو سُئِل عنها عمرُ بن الخطاب لجَمَع لها الصحابة -رضوان الله عليهم- وهذا ما حذرَ منه نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالما اتخذ الناس رؤوساً جُهّالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

 

♦ التوسط والاعتدال من سِمات الأمة الإسلامية:

قال تعالى في سورة البقرة: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة: 143].

 

روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُدْعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فتشهدون أنه قد بلغ: ( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة: 143] فذلك قوله جل ذكره: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة: 143]. والوسط: العدل».

 

إنها الأمَّة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوسط بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الجغرافي.

 

أمَّة وَسَطٌ في التصوّر والاعتقاد، أمَّة وسط في العبادات والمعاملات، أمَّة وسط في التّفكير والشّعور، أمَّة وسط في التَّنظيم والتَّنسيق، أمَّة وسط في الارتباطات والعلاقات...

 

♦ التوسط والاعتدال يكون بالاستقامة على أمر الله تعالى وطاعته:

والاستقامة هي العمل بطاعة الله ظاهرا وباطنا، والبعد عن معصية الله ظاهرا وباطنا، دون ميل لا إلى إفراط ولا إلى تفريط، لا إلى غلو ولا إلى تقصير.

 

فقد قال ربنا سبحانه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا). أي فاستقم كما أمرك ربك في كتابه على اعتقاد الحق، والعمل الصالح، واجتناب المعصية وترك الباطل، أنت ومن معك من المؤمنين، (ولا تطغوا) أي ولا تتجاوزوا ما حَدّ لكم في الاعتقاد والقول والعمل.

 

روى البخاري في صحيحه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: «يا معشر القراء؛ استقيموا فقد سبَقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا».

 

وما أخذ قومٌ بالاستقامة إلا صلح حالهم، وزاد على الخير إقبالهم، واطمأنت نفوسهم، وتحقق أمنُهم، وزال الخوف والحزن من قلوبهم، فقد قال ربنا سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30 - 32]. وقال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف: 13].

 

♦ التوسط والاعتدال إنما يكون بلزوم الصراط المستقيم:

فالدّينُ الوسَط هو الصراط المستقيم، الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ولا انحراف فيه، لا يضلّ فيه سالكه، ولا يتردّد ولا يتحيَّر.

 

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما خطا، ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه، وعن شماله، ثم قال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم تلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153]. أخرجه أحمد وابن حبان والدارمي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة.

 

فمن أراد النجاة فليَسلك الطريق الوسط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف، ولا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط فيه ولا تفريط، وليَحْذرِ الشيطانَ، فإنه لا هَمّ له إلا أن يَصُدّ العباد عن الطريق المستقيم؛ إما بميلهم إلى الإفراط أو إلى التفريط. فقد قال تعالى عنه في سورة الأعراف: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16، 17].

 

قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "مدارج السالكين": "وما أمَرَ الله بأمْرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه؛ كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافيَ عن الأمر مُضيّع له، فالغالي فيه مُضَيّع له، هذا بتقصيره عن الحدّ، وهذا بتجاوزه الحدّ". وقد نهى الله عن الغلو بقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) [المائدة: 77] اهـ.

 

♦ الدّينُ الوسَط هو الطريق الذي سلكه أهل الفضل والشرف، ممن أنعم الله عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين.

 

قال تعالى مرشدا عباده إلى طلب الهداية منه في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:7].

 

فمن اقتفى أثر المنعَم عليهم فهو على الطريق الوسط المستقيم، ومن خالفهم في هديهم فقد انحرف عن الطريق المستقيم؛ إما إلى إفراط وإما إلى تفريط. وقد قال سبحانه: (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ).

 

عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله؛ كأن هذه موعظة مًودّع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة». أخرجه الإمام أحمد - واللفظ له - والترمذي وابن ماجة وابن حبان والدارمي والبيهقي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة وغيرها.

 

يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «مَن كانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أولئك أصحابُ محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا أفضلَ هذه الأمة: أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم».

 

وقال علي -رضي الله عنه-: «خير الناس هذا النمط الأوسط؛ يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي». أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.

 

إخوتي الكرام؛ وقبل أن نتحدث عن الغلو ومخاطره، والتقصير ومساوئه، لابد أن ننتعرف أوّلاً على معالم الوسطية والاعتدال في الإسلام، إذ بمعرفتِها والأخذِ بها ننجو من الغلو والتطرف، والتقصير والتفريط.. وهذا ما سنقف معه في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، ولا فاتنين ولا مفتونين، ولا خزايا ولا نادمين، ولا متَطرفين ولا مُفَرّطين، ولا غالين ومقصرين...

 

♦ معالم الوسطية والاعتدال في دين الإسلام:

مرة أخرى مع خلق التوسط والاعتدال، ذلكم الخلق الكريم الذي تشتد حاجة الناس إليه في مثل هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن والمحن، والحروب والنزاعات. وحديثنا اليوم عن بعض مظاهر ومعالم الوسطية في الإسلام.

 

والحَقّ أنّ كلّ تعاليمِ الإسلام، وأحكامِ الشريعة تحمِل الناسَ على منهج التوسط والاعتدال. ومن أبرز معالم الوسطية والاعتدال:

1- التيسير على الناس والرفق بهم:

والتيسير مقصِدٌ من مقاصد هذا الدين، وصفة عامّة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها. فربنا سبحانه بمنِّه وكرَمِه لم يكلِّف عبادَه بما يشقّ عليهم ويغلبُهم، ولم يُرِدْ بهم العنَتَ والحرَج، بل أنزل دينَه مُيَسّرا مُطاقا مستَطاعا. قال عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء:28].

 

فالإسلام دينٌ ميَسّر، ليس فيه ما يُحرج الناسَ، ويُرهِقهم ويُؤذِيهم، وليس فيه تكليفٌ فوق طاقتهم واستطاعتهم، فقد قال سبحانه: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج:78].

 

أحكامُ الشرع وتكاليفُ الإسلام تَطبَع في نفس المسلم السماحةَ والبعدَ عن التكلّف والمشقة، والتعلقَ الوثيق برحمة الله وعفوه وصفحِه وغفرانه، كما قال عز وجل: (لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق:7].

 

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الدّين يُسْر، ولن يُشادّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغُدْوَة والرّوْحَةِ وشيءٍ من الدّلجة». أي: لا يتعمّقُ أحدٌ في الأعمال الدّينيَّة، ويتركُ الرّفق إلا عَجَزَ وانقطع فيُغلَب. وإنما عليه أن يُسدّد ويقارب، وذلك بالقصد والتَّوسّط في العبادة، فلا يقصِّرْ فيما أمِر به، ولا يتحمَّلْ منها ما لا يُطيقه.

 

ومعالمُ اليُسر ومظاهرُ التيسير، جَليّة وواضحة في كتاب ربنا سبحانه، وفي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أصول الدين وفروعه.

 

أما القرآن الكريم؛ فقد أنزله الله ميسَّرَ التلاوة والحفظ، وميسَّر التدبّر والفهم، قال سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17]، وقال عز وجل: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [طه: 1 - 3].

 

أما رسولنا وحبيبُنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد بعثه الله رحمةً للعالمين أجمعين، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، حريص عليهم، عزيز عليه ما يُعْنِتُهم ويشقُّ عليهم، يضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم، وصدق الله تعالى إذ يقول: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

 

وفي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «...إن الله لم يَبعثني مُعَنّتا ولا مُتعَنتا، ولكن بَعثني مُعَلما مُيَسِّرا ». (لم يَبعثني مُعَنتا): أي لم يبعثني مُشدِّدا على الناس ومُلزما إياهم ما يَصعب عليهم. (ولا مُتَعَنتا): أي ولا طالبا زلتهم ومشقتهم.

 

أما أصول الدين وعقائده؛ فقد جاءت ميسّرةً في مطلوباتها، واضحةً في أدلتها، من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وكماله، والإيمان بالملائكة والكتب والنبيين، والإيمان باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. والدلائل على ذلك ظاهرة في كتاب الله، وفي سنة رسول الله، وفي ملكوت الله؛ في السماوات وفي الأرض وسائر مخلوقات الله. وقد قال سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190، 191].

 

أما أحكامُ الشرع وفروعُه؛ فقد راعت أحوالَ المكلفين وظروفَهم من الصحة والمرض، والحضر والسفر، والاختيار والاضطرار. كل أوامره مقرونة بالاستطاعة، وتسقط أو تخفف عند عدم الاستطاعة، ففي الصحيحين – واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

 

ففي الطهارة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ومن شق عليه استعمال الماء انتقل إلى التيمم، و «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين».

 

وفي الصلاة المفروضة: يُصلي المسلم قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، ويجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء عند الحاجة، ويقصر الرباعية ركعتين في السفر، ومن أمّ الناس فليخفّف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة..

 

أما الصيام: فعبادة واجبة على الصحيح المقيم، رُخّص فيه الفِطر للمسافر والمريض، (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185].

 

والزكاة: لا تجب إلا على من يملك نصابها، وحال عليه الحول، وعند الحصاد.

 

والحج: إنما يجب مرة في العمر، على من يملك الاستطاعة. (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).

 

والنفقة: تكون على قدر الاستطاعة، دون تبذير ولا تقتير؛ قال تعالى في سورة الطلاق: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) [الطلاق: 7].

 

وقال عز وجل: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء: 29].

 

وعند العذر والمشقة والضرورة تفتح أبواب الرخص. وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، (فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة:172].

 

والمرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة. والقلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ. ورفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه. والأصل في الأشياء الحلّ والطهارة. والسيئة بمثلها أو يغفرها الله، والحسنة بعشر أمثالها أو يضاعفها الله.

 

وكل التكاليف في الإسلام نعمة ورحمة وفوز وفلاح؛ فقد قال عز وجل: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6].

 

فالإسلام دينٌ يدعو إلى التيسير، وينهى التعسير، يدعو إلى اللين والرفق، وينهى عن الشدة والعنف، يدعو إلى الرحمة، وينهى عن القسوة.

 

فلا ينبغي لأحد أن يُحَمِّلَ نفسه من العمل فوق ما يطيق، ففي الصحيحين عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل».

 

وروى البخاري ومسلم - واللفظ لمسلم - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما خُيِّرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين؛ أحدُهما أيسرُ من الآخَر، إلا اختار أيسرَهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعدَ الناس منه".

 

ولا ينبغي لأحد أن يُحَمّلَ غيرَه ما لا يُطيق، بل عليه أن يَرْفُقَ بالناس ويُيَسّر عليهم. ففي الصحيحين عن أبي بردة قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جدّه أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فقال: «يَسّرا ولا تعَسّرا، وبَشّرا ولا تُنَفّرا، وتَطاوَعا ولا تختَلِفا».

 

وقد شدّدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- النكيرَ على من يشق على الناس ويتعبهم في عبادتهم؛ ففي الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، إني والله لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا فيها. قال: فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ، ثم قال: «يا أيها الناس؛ إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليوجز، فإن فيهم الكبير، والضعيف، وذا الحاجة».

 

2- الموازنة بين متطلبات الروح والبدن:

فلا ينبغي لأحد أن يَحْرم نفسه مما أحله الله له، بل عليه أن يتقرب إلى الله بفعل المباح، كما يتقرب إليه بفعل المأمور به. والإنسان روح وجسد، للروح حقها، وللبدن حقه، فليعطِ كل ذي حق حقه. فقد قال ربنا سبحانه وتعالى في قصة قارون مع قومه: ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [القصص: 77].

 

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عبد الله؛ ألم أخبَرْ أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟»، فقلت: بلى يا رسول الله. قال: «فلا تفعل، صُمْ وأفطِرْ، وقمْ ونَمْ، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزوْرك عليك حقا، وإن بحسْبِك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله»، فشدّدْتُ، فشُدِّدَ عليّ، قلت: يا رسول الله؛ إني أجِد قوة. قال: «فصم صيام نبي الله داود عليه السلام، ولا تزدْ عليه»، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: «نصف الدهر»، فكان عبد الله يقول بعد ما كَبِر: يا ليتني قبِلتُ رُخصة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

3- محبة الخير للناس كافة:

وهذه سمة ظاهرة في هذا الدين، وأصل أصيل في أحكامه وتشريعاته، فخير الناس أنفعهم للناس، ومن تمام الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه، أن يحب الخير للناس كافة، ويسدي المعروف إلى الناس كافة، وأن يتعايش ويتعاون مع الناس كافة، وألاّ يتكبرَ على أحد، ولا يستعلي على أحد. قال ربنا سبحانه: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].

 

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيها الناس؛ إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد. ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «فليبلغ الشاهد الغائب». أخرجه أبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن جابر. وأخرجه الإمام أحمد عن أبي نضرة.

 

وفي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم، حتى يُحبّ لأخيه ما يحب لنفسه».

 

أن تحبّ لأخيك الخير، وأن تعينه على الخير، وتدله على الخير، وأن تتمنى له من الخير والفوز والفلاح ما تحبه لنفسك. ومِن محبة الخير لأخيك أن تدعوَ له بدلَ أن تدعوَ عليه، أن تنصحَه بدلَ أن تشتمَه، أن تسترَه بدلَ أن تفضحَه، إن أساء فلا تفضحْه ولا تغتبْه ولا تطعنْ في عِرضه، ولكنْ تنصَحُه وتعلمُه وتُرشِده؛ فالدين النصيحة، ومن ستر مسلما ستره الله، والدال على الخير كفاعله، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن دعا لأخيه بخيرٍ قال الملَك الموكّل به: آمين ولكَ بمثلٍ.

 

إخوتي الكرام؛ ومما يتنافى مع خلق التوسط والاعتدال: الغلو والإفراط. وهذا ما سنقف معه في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.

 

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، وأن يجنبنا سيء الأقوال والأعمال والأخلاق. وأن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن أوليائه المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات