دروس من الحج (1/ 2)

عبد الرحمن بن صالح المحمود

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إن الحج رحلة وهجرة إلى الله تعالى، وتجرد الحاج من المخيط، ووقوف الألوف في عرفات محرمين بأرديتهم البيض من أعظم من يذكر العباد بيوم القيامة، والخروج من هذه الدنيا، ثم الوقوف بين يدي الله تعالى للحساب والجزاء..

 

 

 

 

إن الحج مدرسة جهادية تعلم المؤمن وتعلم الأمة، كيف تنقل نفسها من عاداتها المألوفة، ومن ترفها، إلى أن تنخلع من ذلك كله وتلحق بركب المجاهدين.

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ* كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) [الحج : 1 -8] هذه الآيات مفتتح سورة الحج، والحج رحلة إلى الله تعالى، يرحلها العباد مستجيبين لنداء العبودية للواحد القهار، (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة من الآية:196]، وإذا كانت الصلاة والزكاة والصيام عبادة، فإن الحج يتميز عنها بأنه عبادة يغادر من أجلها العبد البلاد، والأولاد والأحباب، والضيعات، والأموال، ويقطع المسافات الشاسعة التي قد تمتد آلاف الأميال، (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيم) [النحل:7].

 

إن الحج رحلة وهجرة إلى الله تعالى، وتجرد الحاج من المخيط، ووقوف الألوف في عرفات محرمين بأرديتهم البيض من أعظم من يذكر العباد بيوم القيامة، والخروج من هذه الدنيا، ثم الوقوف بين يدي الله تعالى للحساب والجزاء.

 

وهذا هو المعنى الذي يربط بين افتتاح سورة الحج بالأمر بتقوى الله تعالى، وتذكر زلزلة الساعة العظيمة، وبين معنى من معاني الحج الكبار، كان يدركه سلفنا الصالح، أما نحن اليوم فقد صار حج كثير منا نزهة قصيرة نطارد من خلالها الزمن لنعود إلى ما كنا عليه من لهو وغفلة -ولا حول ولا قوة إلا بالله-.

 

حج بالناس عمر بن الخطاب رضي الله عنه- سنة ثلاث وعشرين، قبيل استشهاده بأيام، وكان شغله الشاغل في حجه البحث عن رجل من رعيته من التابعين يريد مقابلته.

 

وصعد عمر جبل أبا قبيس وأطل على الحجيج، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الحجيج من أهل اليمن، أفيكم أويس من مراد؟

فقام شيخ طويل اللحية من قرن، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد أكثرت السؤال عن أويس هذا، وما فينا أحد اسمه أويس إلا ابن أخ لي يقال له: أويس، فأنا عمه، وهو حقير بين أظهرنا، خامل الذكر، وأقل مالا، وأوهن أمرأ من أن يرفع إليك ذكره.

 

فسكت عمر- كأنه لا يريده- ثم قال: يا شيخ وأين ابن أخيك هذا الذي تزعم؟ أهو معنا بالحرم؟ قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، هو معنا في الحرم، غير أنه في أراك عرفة يرعى إبلا لنا؛ فركب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- على حمارين لهما، وخرجا من مكة، وأسرعا إلى أراك عرفة، ثم جعلا يتخللان الشجر ويطلبانه، فإذا هما به في طمرين من صوف أبيض، قد صف قدميه يصلي إلى الشجرة وقد رمى ببصره إلى موضع سجوده، وألقى يديه على صدره والإبل حوله ترعى.

 

 قال عمر لعلي -رضي الله عنهما-: يا أبا الحسن إن كان في الدنيا أويس القرني فهذا هو، وهذه صفته، ثم نزلا عن حماريهما وشدا بهما إلى أراكه ثم أقبلا يريدانه.

 

فلما سمع أويس حسهما أوجز في صلاته، ثم تشهد وسلم وتقدما إليه فقالا له: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال أويس:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال عمر -رضي الله عنه-: من الرجل؟ قال: راعي إبل وأجير للقوم، فقال عمر: ليس عن الرعاية أسألك ولا عن الإجارة، إنما أسألك عن اسمك، فمن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا عبد الله وابن أمته، فقالا: قد علمنا أن كل من في السموات والأرض عبيد الله، وإنا لنقسم عليك إلا أخبرتنا باسمك الذي سمتك به أمك، قال: يا هذان ما تريدان إلي؟ أنا أويس بن عبد الله. فقال عمر -رضي الله عنه-: الله أكبر، يجب أن توضح عن شقك الأيسر، قال: وما حاجتكما إلى ذلك؟ فقال له علي -رضي الله عنه-: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصفك لنا، وقد وجدنا الصفة كما أخبرنا، غير أنه أعلمنا أن بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، ونحن نحب أن ننظر إلى ذلك، فأوضح لهما ذلك عن شقه الأيسر.

 

فلما نظر علي وعمر -رضي الله عنهما- إلى اللمعة البيضاء ابتدروا أيهما يقبل قبل صاحبه، وقالا: يا أويس إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا أن نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لنا، فإن رأيت أن تستغفر لنا- يرحمك الله- فقد أخبرنا بأنك سيد التابعين، وأنك تشفع يوم القيامة في عدد ربيعة ومضر؛ فبكى أويس بكاء شديدا، ثم قال: عسى أن يكون ذلك غيري، فقال علي-رضي الله عنه-: إنا قد تيقنا أنك هو، لا شك في ذلك، فادع الله لنا رحمك الله بدعوة وأنت محسن، فقال أويس: ما أخص باستغفار نفسي، ولا أحد من ولد آدم، ولكنه في البر والبحر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في ظلم الليل وضياء النهار، ولكن من أنتما يرحمكما الله؟ فإني قد خبرتكما وشهرت لكما أمري، ولم أحب أن يعلم بمكاني أحد من الناس، فقال علي -رضي الله عنه-: أما هذا فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-  وأما أنا فعلي بن أبي طالب، فوثب أويس فرحا مستبشرأ فعانقهما وسلم عليهما ورحب بهما، وقال: جزاكما الله عن هذه الأمة خيرا قالا: وأنت جزاك الله عن نفسك خيرا.

 

ثم قال أويس: ومثلي يستغفر لأمثالكما؟ فقالا: نعم، إنا قد احتجنا إلى ذلك منك، فخصنا -رحمك الله- منك بدعوة حتى نؤمن على دعائك، فرفع أويس! رأسه، وقال:

اللهم إن هذين يذكران أنهما يحباني فيك، وقد رأوني فاغفر لهما وأدخلهما في شفاعة نبيهما محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

فقال عمر -رضي الله عنه- مكانك -رحمك الله- حتى أدخل مكة فأتيك بنفقة من عطائي، وفضل كسوة من ثيابي، فإني أراك رث الحال، هذا المكان الميعاد بيني وبينك غدا، فقال: يا أمير المؤمنين، لا ميعاد بيني وبينك، ولا أعرفك بعد اليوم ولا تعرفني، ما أصنع بالنفقة؟ وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى عليَّ إزاراً من صوف ورداً من صوف؟ متى أراني أخلِفهما؟ أما ترى نعليَّ مخصوفتين، متى تُراني أبليهما؟ ومعي أربعة دراهم أخذت من رعايتي متى تُراني آكلها؟.

 

يا أمير المؤمنين: إن بين يدي عقبة لا يقطعها إلا كل مخف مهزول، فأخف -يرحمك الله- يا أبا حفص، إن الدنيا غرارة غدارة، زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مد عنقه إلى غد، ومن مد عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غدا من مجاورة الجبار، وجرت من تحت منازله الثمار.

 

فلما سمع عمر -رضي الله عنه- كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، ليتها عاقر لم تعالج حملها؛ ألا من يأخذها بما فيها ولها؟.

 

فقال أويس: يا أمير المؤمنين! خذ أنت ها هنا حتى آخذ أنا ها هنا، ومضى أويس يسوق الإبل بين يديه، وعمر وعلي -رضي الله عنهما- ينظران إليه حتى غاب فلم يروه، وولى عمر وعلي -رضي الله عنهما- نحو مكة (إتحاف الورى لابن فهد 2/ 13- 16، وحلية الأولياء(2/ 82).

 

وحديث فضل أويس القرني، وأنه لو أقسم على الله لأبره، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر رضي الله عنه: "إن استطعت أن يستغفر لك فافعل" (صحيح مسلم وغيره).

 

 

دروس من الحج (2)

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات