علماء لا أدعياء!!

مصطفى قاسم عباس

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

في زمن كهذا نحتاج إلى جهابذة الفكر، وعمالقة العلم؛ لكي يُعِيدوا الأقزام المتطاولة إلى حجمها الطبيعي، ويَكسِروا مرآة الكبر التي كانوا يُديمون النظر فيها، ولكي يصنعوا فُلْك المِنَح التي من خلالها يمخرون عُباب يَم المحن، ولكي يجتثُّوا بمعاول صفاء القلوب أَسلَ الإِحَن، وسِدْر البغضاء من جذورها الضاربة في تراب الغرور، وليشعلوا جَذوة النور التي ستُبدِّد ظلام الفتن الدامس، وتُطيح بصروح الدياجير والعتمة.

 

 

 

 

وفي زمن تَمُوج بحارُه بالمحَن، وتنبت صحراؤه سِدْر الإحن، وتغشى الناسَ ظلماتُ الفتن؛ حيث تَبِع فيه كثير من الناس السراب، مع أن أنهار الكوثر العذبة تجري من تحتهم، ومشوا مطرقين وراء لمح البرق مع أن الشمس مِلك يمينهم.

 

في زمن يقلُّ فيه العلماء، ويكثر فيه الأدعياء، وتتطاول فيه أقزام الجهل على عمالقة العلم والفكر، وتتعالى فيه طحالب مستنقَع الوهم على جبال اليقين الشامخة.

 

وفي زمن قلَّ فيه أنصار الحق، وكَثُر أنصار الباطل، وتفرَّقت صفوف أتباع الهدى، وتوحَّدت صفوف أتباع الضلال، وتآلفت قلوب أتباع أبي لهب وأبي جهل! وتنافرت قلوب أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشحناء والتباغض.

 

في زمن تَجلبَب فيه كثير من الناس بجِلباب ابن سلول، وتدثَّروا بدثار أبي رِغَال، والتقمت آذانهم بشراهة نعيق غربان الخرافة، ولفظت ومجَّت تغريد عنادل الهدى، وكانت في صممٍ عن سماع هَزار النهج القويم، والصراط المستقيم، فعجبي لهم! كم استغشوا ثيابهم! وكم وضعوا أصابعهم في آذانهم؛ لكي لا يتسلل ركز أو همسٌ، أو بقية نجوى من اليقين إليها!

 

لكن، ليت شعري، أما علموا أن صوت المدثر الصادح باليقين يصل إلى القلوب قبل الآذان، ويتربع على عرش العقول، ويتشبَّث بشَغاف الألباب والقلوب!

 

في زمن كهذا لا بد لنا من علماء، لا طريق لهم إلا طريق النبوة، ولا سراج يستنيرون بنوره إلا سراج الهداية، ولا جنة يتفيَّؤون ظلالها إلا جنة الإحسان وخمائل الطهر، وأفنان الفضائل.

 

نحتاج إلى علماء شرِبوا من كأس الإيمان حتى تضلَّعوا، وسقوا فسائل الأجيال المتعاقبة والألباب الحائرة من فرات العلم الصافي، وزلال الفَهْم النمير.

 

في زمن كهذا نحتاج إلى جهابذة الفكر، وعمالقة العلم؛ لكي يُعِيدوا الأقزام المتطاولة إلى حجمها الطبيعي، ويَكسِروا مرآة الكبر التي كانوا يُديمون النظر فيها، ولكي يصنعوا فُلْك المِنَح التي من خلالها يمخرون عُباب يَم المحن، ولكي يجتثُّوا بمعاول صفاء القلوب أَسلَ الإِحَن، وسِدْر البغضاء من جذورها الضاربة في تراب الغرور، وليشعلوا جَذوة النور التي ستُبدِّد ظلام الفتن الدامس، وتُطيح بصروح الدياجير والعتمة.

 

في زمن كهذا لا بد لنا من رجال لا يُلهيهم شيء عن الدعوة إلى الحق، وزرع التآلُف والمحبة في قلوب الخلق، رجال تسلَّحوا بالعلم مع الدليل، وبالفكر مع المنطق، وبقمر بَهِي الطلعة من الكتاب والسنة، وبالإيمان المُتضمِّخ بطِيب الأخلاق.

 

رجال ثابتون في المعارك الدائرة بين الحقيقة والشعوذة ثبوت الجبال، نعم هم كذلك، أخلاقهم أصلها ثابت في ثرى الفضائل، وهاماتهم سامقة لا يَثنيها هبوب الرياح، رجال لا يصم آذانهم عويل الأعاصير، ولا ترتعد فرائصهم خوفًا في ساحات الوَغى، قولهم واحد؛ لأنهم يعلمون أن الحق واحد، وهم مع الحق حيث كان، وليس أحدهم كما مالت الرياح يميل.

 

نحن في زمن لا نحتاج فيه إلى مكتبة هنا ومكتبة هناك، بقدر ما نحتاج إلى عالم حقيقي هنا وعالم مخلص هناك، فالكتب وحدها لا تَهدي إلى الحق ما لم تُدرَس على يد عالم متمرِّس جليل، بل على العكس، فإن من أخَذ العلم من الكتب فقط، من غير مرشد أمين، ومن غير شيخ عالم لبيب، فإنه يصبح كحاطب ليلٍ، ويظن أنه عالم الأرض، وواحد العصر، فيذكرنا بقول القائل:

يظنُّ الغَمْر أن الكُتْب تَهدِي

أخَا فَهْمٍ لإدراك العلومِ

وما يَدري الجهولُ بأنَّ فيها

غوامضَ حيَّرت عقل الفهيمِ

إذا رُمْتَ العلوم بغير شيخٍ

ضَللتَ عن الصراط المستقيمِ

وتَلتبس الأمورُ عليك حتَّى

تصير أضلَّ من تُوما الحكيمِ

 

بل إننا نرى أن بعض العلماء يملكون مكتبات ومكتبات، فيها من كل فنون العلوم، ومن شتى مجالات الفكر وتصانيف الإبداع، ولكن لا نرى في قلوبهم حُرقة على تعليم جاهلٍ، وإرشاد ضال، وهداية حائرٍ، فأنَّى لهم أن ينفعوا بعلومهم أنفسَهم أو غيرهم، وفاقد الشيء لا يعطيه؟!

 

وهنا نتذكر لزامًا ما قاله فيلسوف الإسلام، وشاعر الهند وباكستان "محمد إقبال": "وهناك علماء وفقهاء، الواحد منهم يملك ثروة ضخمة من كلمات اللغة الحجازية، ولكنه قارون لا ينتفع بكنوزه"[1].

 

وختامًا:

في زمن كهذا نحن بحاجة إلى العالم الديني الذي يُمضي حياته في هداية الناس، ويذوب فؤاده رحمة بهم، ويتقطع كبده شَفقة عليهم، وما أروع ما قاله العالم الجليل "أبو الحسن الندوي":

"ما أفقر العالم الديني الذي يحمل علمًا جمًّا، ولسانًا بليغًا، وعقلاً مستنيرًا، ولا يحمل دمعة في عينه، ولا لوعة في قلبه، إنه أخذ من الأرض المقدسة خشونتها وصلابتها، ولم يأخذ منها رطوبتها ونداها"[2].

 

ففي زمن كهذا، نحتاج إلى عالم كهذا.

 

____

[1] الطريق إلى المدينة؛ أبو الحسن علي الحسني الندوي، ص: 123، ط 4، 1400 هـ - 1980م، دار القلم.

[2] نفسه، ص: 32.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات