الموعظة وأثرها في إصلاح المجتمعات

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

مراعاة المدة الزمنية للموعظة: فمراعاة هذا الأدب من الأهمية بمكان؛ إذ هو مما يعين على الانتفاع بالموعظة، والإصغاء إليها بإقبال ونشاط. ولا ريب أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص؛ فيختلف باعتبار حال الموعظة، ويختلف باعتبار حال الواعظ، ويختلف باعتبار حال المخاطبين؛ فالموعظة المفاجئة لها حال، والموعظة المحددة بزمان ومكان محددين لها حال، والموعظة المحددة بعنوان لها حال. ثم إن الموعظة التي يلقيها فلان من الناس تختلف عن الموعظة التي يلقيها غيره؛ فالعالم وذو المكان له حال، ومن دونه في الرتبة له حال. وكذلك السامعون؛ فالمقبلون على الموعظة لهم حال، ومن كان إقبالهم أقل فلهم حال أخرى وهكذا..

 

 

 

 

إن كلمة " الموعظة " ومشتقاتها كلمة عظيمة المعاني والأثر، وقد احتلت بجميع مشتقاتها مكانة جليلة في التاريخ البشري عامة، والتاريخ الإسلامي والعربي خاصة.  ذلك لأنه لا يوجد أمة على وجه الأرض تستغني عن الموعظة، كما لا توجد طائفة ولا مذهب ولا دين يستغنى عنها، فالموعظة عميقة الجذور في وجدان البشر، وتمثل حاجة أساسية من حاجات الحياة، ومنطلقا كريما للروابط بين الناس، وزادا غنيا تحمله الأجيال وتتناقله تعتز به، وتفاخر الأمم والشعوب بعضها بعضا به.  فلا يوجد أصدق من الموعظة في خدمة الانتماء الروحي للشعوب ،وتهذيب مشاعر الجمال والخير والحق فيها، فإن الإسلام دين يدعو إلى أقوم محجة، ويرمي إلى أشرف غاية. وما دعوته إلا هداية الناس إلى سبيل الحق، وتنبيههم إلى مكان الفضيلة. وما غايته إلا أن يحيا الناس حياة طيبة في العاجل، ثم يفوزوا في الآخرة بسعادة خالدة، وعطاء غير مجذوذ في الآجل.  

 

وفي القرآن الكريم ما يدل على أن الدعوة الصادقة لا يثبت أصلها، وتمتد فروعها، وتؤتي ثمرها إلا أن يقوم بناؤها على أساس الحجة، ويذهب بها الداعي كل مذهب حكيم، ويأخذ فيها بكل أدب جميل. وشواهد ذلك في القرآن كثيرة، قال الله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [ النحل:125].  وكذلك دعوة النبي إلى الإسلام فإنها كانت محفوفة بما يقرب العقول إلى قبولها، وتألف النفوس إلى سماعها؛ فكان يراعي في إبلاغها الطرق الكفيلة بنجاحها؛ فيورد لكل مقام مقالا يناسبه، ويكسو كل معنى من المعاني ثوبا يليق به، ويخاطب كل طائفة على قدر عقولهم، ويلاقيهم بالسيرة التي هي أدعى إلى إقبالهم، وأسرع أثراً في صرفهم عن غوايتهم.  ولا ريب أن الوعظ عمل جليل، وله في نظر الشارع مقام رفيع.  فالوعظ هو الدعوة إلى ما فيه خير وصلاح، والتحذير مما فيه شر وفساد.  

 

ولكن مشكلة الموعظة الرئيسية وتخلفها عن أداء دورها الريادي في خدمة الدعوة الإسلامية تكمن في ضعف اللغة العربية عند أبناء المسلمين اليوم، بحيث لم يعد أحد منهم يتذوق حلاوة الموعظة إلا قليلا، وكثير من خطب الجمعة اليوم تكتب بلغة ركيكة، وبعيدة كل البعد عن الأدب والبلاغة.  زينة المواعظ والمجالس.  والواعظ هو الذي يرشد الجاهلين، وينبه الغافلين، ويعالج النفوس الطائشة مع أهوائها؛ ليعيدها إلى فطرتها السليمة من الإقبال على الفضائل، والترفع عن الرذائل. ولكن القيام بهذا العمل جهاد يحتاج إلى ألمعيَّة مهذبة، ودراية بالطرق الحكيمة، علاوة على العلم الذي يُميَّز به بين الحق والباطل، ويفرَّق به بين المعروف والمنكر.

ثم إن العلم والنباهة، وحكمة الأسلوب لا تأتي بثمرتها المنشودة إلا أن يكون الواعظ طيب السريرة، مستقيم السيرة.  

 

أولا: تعريف الموعظة لغة واصطلاحا

 

الموعظة في اللغة: مصدر الفعل وَعَظ.  قال ابن فارس :الواو والعين والظاء كلمة واحدة؛ الوعظ التخويف، والعِظَة الاسم منه.  وقال ابن منظور: الوعظ والعظة والموعظة: النصح والتذكير بالعواقب.  قال ابن سيدة: هو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب.  وقال الراغب الأصفهاني: الوعظ زجرٌ مقترنٌ بتخويف،قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.

 

ثانيا: الموعظة في القرآن الكريم

 

ورد لفظ الموعظة في القرآن على ثلاثة عشر وجهاً، وهي كما يلي:

1_ أَوَعظت   2_ أعظك     3_ أعظكم    4_ تَعظون     5_ يعظكم

6_ يعظه      7_ عِظهم     8_ فعظوهن  9_ توعظون    10_ يوعظ 

11_ يوعظون          12_ الواعظين         13_ موعظة.  

 

قال الله (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ) [الشعراء:136]،

وقال(إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [هود:46. ]،  وقال(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة) [سبأ:46]، وقال(لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً) [الأعراف:164]، وقال(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ به) [البقرة:231]، وقال (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء:58]،  وقال( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، وقال(يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) [النور:17]، وقال (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) [لقمان:13]، وقال (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) [النساء:63]، وقال(فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ) [النساء:34]،  وقال(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ به ) [المجادلة 3]،  وقال:[ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]،  البقرة:232.  وقال(ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[الطلاق:2]،  وقال(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ)[النساء:66]،  وقال (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة:66]،  وقال (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ)[البقرة:275]،  وقال(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران:138]، وقال(وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [المائدة:46]، وقال (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً)[الأعراف:145].  وقال(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [يونس:57]، وقال(وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120]، وقال (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[النحل:125]،  وقال(وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)[النور:34]،. 

 

ثالثا: المقاصد الكلية للموعظة

 

الموعظة باب من أبواب الدعوة إلى الله، وأسلوب من أساليب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ويحسن هاهنا إيراد مقاصد الموعظة وحكمها؛ حتى لا يُظَن أنها شرعت لمصلحة معينه فإذا فاتت تلك المصلحة ظُنَّ أن الموعظة لم تؤتِ ثمرتها. ويمكن إجمال تلك المقاصد والحكم بما يلي :

 

1_ إقامة حجة الله على خلقه:كما قال تعالى (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165].

 

2_ الإعذار إلى الله والخروج من عهدة التكليف: قال الله تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) [الأعراف:164]،  وقال عز وجل(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات54].

 

3_ رجاءُ النفع للمأمور: كما قال تعالى(مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الأعراف:164]، وقال (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]

 

 4_ رجاء المثوبة من عند المولى جل وعلا: إذ الدعوة باب عظيم من أبواب البر.

 

5_ الخوف من عقاب الله عز وجل: إذ إنَّ تَرْكَ الدعوة مُؤذن بالعقوبة. قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54 ]،  وقال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].

 

6_ النصيحة للمؤمنين: والرحمة بهم، ومحبة الخير لهم، والرغبة في إنقاذهم مما أوقعوا به أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة، وهذا قريب من الثالث.

 

7_ إجلال الله وإعظامه، ومحبته: وأنه أهلٌ لأن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، وأن يُفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال.  

 

رابعا: الآداب الجامعة لأداء الموعظة

 

أولا: التحلي بالتقوى وإخلاص النية: وذلك أمر يستمده الواعظ من قوة الإيمان بأن الله يعلم ما يُسِرُّ الناس وما يعلنون، ومِنْ عِلْمِه بأن الإخلاص عليه مدار العمل، ومن تَيَقُّنِه بأن دعوته إلى فعل شيء هو تاركه أو إلى ترك شيء هو يفعله لاتتجاوز الآذان إلى القلوب، بل قد تذهب كما يذهب الزبد جفاءًا. وقد أشار القرآن المجيد إلى أن داعي الناس إلى معروف لايفعله جدير بالتوبيخ، قال تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة:44]،  وقال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) [الصف].

 

والتقوى هي التي تجعل الواعظ مخلصاً فيما يأمر به، أو ينهى عنه.  وللإخلاص أثر كبير في نجاح الموعظة،وانشراح الصدور للانتفاع بها على أي حال.  

 

والتقوى الصادرة عن التفقه في الدين بحق هي التي تكسو الواعظ وقاراً، وحسنَ سمتٍ غير مصطنع، فتمتلىء القلوب بمهابته؛ فإذا ألقى موعظةً ذهبت توّاً إلى القلوب، وأثمرت كَلِماً طيباً، وعملاً صالحاً، وخلقاً فاضلاً. ولهذا يحسن بالواعظ أن يتعاهد إيمانه، ويُعِزَّ نفسه، ويصونَ علمه، وأن يترفع عن السفاسف، وأن يجانب مواطن الرِّيب، ومواضعَ المهانة، وأن لا يسير إلا على ما يمليه الدين، وتقتضيه الحكمة والمروءة. وجدير به أن يكون ذا نفس زكية، وساحة طاهرة نقية؛ حتى لا يكون الخلل حائلاً بينه وبين هداية الناس.

 

ثانيا: العلم: فعلم الواعظ بما يقول هو الذي يجعل الموعظة نقيةً من إيراد الأحاديث الموضوعة، أو القصص المنبوذة، أو تحسين البدع، أو إضلال الناس.  قال عز وجل (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) [يوسف:108]،. فلا بد للواعظ أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه من فعل أو ترك. وأن يكون عالماً بحال المدعو، ولهذا لما بَعَثَ الرسول " معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب إلى آخر الحديث.  وما ذلك إلا ليعرف حالهم؛ ليستعد لهم.  ومن البصيرة أيضا أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وأساليبها.

 

ولا يفهم من ذلك أنه لابد للواعظ ان يكون عالماً متبحراً، وإنما المقصود ألا يدعو إلا بما يعلم، وألا يتكلم بما لا يعلم. ومما يتعين على الواعظ معرفته والوقوف عليه النظر في المصالح والمفاسد، معرفة الآثار المترتبة على موعظته سلبا وإيجابا، حتى لا يكون ضرره أكبر من نفعه، وشره أكبر من خيره.  

 

ثالثا: لين الجانب، وبسط الوجه، والإحسان إلى الناس: فالناس يحبون لِين الجانب، وبسط الوجهِ، والقلوب تُقْبل على من يتواضع لها، وتنفر ممن يزدريها، ولا يُكَلِّمها إلا من عَلُ.  ومن الوسائل التي لها أثر في تَأَلُّف الجاهلين أو المفسدين،وتهيئتهم إلى قبول الإصلاح ؛ بسط المعروف في وجوههم، والإحسان إليهم بأي نوع من أنواع الإحسان، وإرضاؤهم بشيء من متاع هذه الحياة الدنيا؛ فإن مواجهتهم بالجميل، ومصافحتهم براحة كريمة  قد يعطِّف قلوبهم نحو الداعي، ويمهد السبيل لقبول ما يَعْرِضُه من النصيحة.  والنفوس مطبوعةٌ على مصافاة من يُلبسها نِعْمةً، ويُفيضُ عليها خيراً.  

 

ولمثل هذه الحكمة ذكر الله في القرآن من مصارف الزكاة صِنْفَ المؤلفة قلوبُهم.  

 

وكان النبي" يُؤثِرُ بعض حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال؛ للاحتفاظ ببقائهم على الهداية، يفعل ذلك حيث يظهر له أن إيمانهم لم يرسخ في قلوبهم رسوخَ ما لا تزلزله الفتن.  

 

رابعا: انتقاء العبارات الملائمة: فيحسن بالواعظ أن يكون ليِّن العريكة، وممن يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ، وألا يكون جافي الطبع، قاسي القلب، متعالياً على السامعين. ويجدر به أن يترفع عن العبارات المشعرة بتعظيم النفس، كحال من يكثر من إدارج ضمير المتكلم (أنا) أو ما يقوم مقامه كأن يقول (في رأيي) أو (حسب خبرتي) أو (هذا ما توصلت إليه) ونحو ذلك. بالبعد عن ذلك ما كان فيه تفخيم للنفس كالإتيان بضمير الجمع، كأن يقول: (هذا رأينا) و (هذا ترجيحنا) أو (هذا ما توصلنا إليه). ومن ذلك أن يكرر كلمة: (نَقُول) و(قلنا) ونحو ذلك من العبارات الفجة التي تنم عن نقص وغرور، خصوصاً إذا صدرت ممن ليس له مكانة. فهذا كله مجلبة لتباعد الأنفس، وتناكر الأرواح، وقلة التأثير.  وبدلاً من ذلك يحسن به أن يستعمل الصيغ التي توحي بالتواضع، وعزو العلم لأصحابه، كأن يقول: (ويبدو للمتأمل كذا وكذا) أو يقول: (ولعل الصواب أن يقال: كذا وكذا) ونحو ذلك من العبارات المشعرة بالتواضع، واهتضام النفس.  قال ابن المقفع: "تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطبْ نفساً عن كثيرٍ مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي؛ مداراةً؛ لئلا يظن أصحابك أن دأبك التطاول عليهم". وقال الشيخ السعدي "واحذر غاية الحذر من احتقار من تجالسه من جميع الطبقات، وازدرائه، أو الاستهزاء به قولاً، أو فعلاً، أو إشارةً، أو تصريحاً، أو تعريضاً؛ فإن فيه ثلاثة محاذير:

أحدهما: التحريم والإثم على فاعله.

 

الثاني: دلالته على حمق صاحبه، وسفاهة عقله، وجهله.

 

الثالث: أنه باب من أبواب الشر، والضرر على نفسه ".  

 

ومنها أن يوجه الواعظ الإنكار إلى نفسه تصريحاً، وهو يعني السامع تلميحاً: كأن يقول: مالنا لانتَّقي الله، ونمتثل أوامره، ونجتنب نواهيه، ونحو ذلك. ويشير إلى هذا الأدب قوله تعالى فيما يقصه عن رجل يدعو قومه إلى الإيمان بالله(وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:22]،. فإنه أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة مالا يغني عنهم شيئاً،فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه؛ تلطفاً في الخطاب، وإظهاراً للخلوص في النصيحة؛ حيث اختار لهم ما يختار لنفسه.  

 

خامسا: الصبر والحلم: فالواعظ محتاج لذلك أشد الحاجة؛ إذ هو مُعَرَّضٌ لما يثيره، ويحرك دواعي الغضب فيه. ومن مواعظ لقمان عليه السلام لابنه وهو يعِظه (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) لقمان: 17. فلا يحسن بالواعظ أن يكون ضيِّق الصدر، قليل الصبر؛ ذلك أن الجماعات التي استشرى فيها الفساد كالمريض، والواعظ لها كالطبيب.

 

وكما أن المريض قد يدفعه جهله، أو سوء تصرفه إلى أن ينال الطبيب ببعض السوء فكذلك الجماعات التي أنهكها الشر، واستحوذ عليها الشيطان؛ فقد يدفعها ذلك أن تنال طبيب الأرواح ببعض الأذى. فإذا ضاق صدره، وقل احتماله تنغَّصت حياته، ولم يصدر عنه خير كثير، أو عمل كبير؛ فخير للواعظ أن يتلقى الأذى بصدر رحب، وأفق واسع، ونفس مطمئنة. وليعلم أن مهمته شاقة؛ فليستعد لها بالاستعانة بالله، وليداوِ كُلُومَ النفوس بالهدوء، وسعة الصدر، ولين الجانب، ومقابلة الإساءة بالإحسان؛ فإن تلك الصفاتِ رُقْيَةُ النفوس الشرسة، وبلسمُ الجراح الغائرة. وليستحضر أنه ما وقف أمام الناس ليخاصمهم؛ فَيَخْصِمَهم، ولكنْ ليداويَ فسادهم، ويردَّ شاردهم؛ فليحرص على أن يؤلف القلوب والنفوس بتلك الصفات. قال الله تعالى في وصف نبينا محمد (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، وقال تعالى له(خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199].

 

سادسا: مراعاة المدة الزمنية للموعظة: فمراعاة هذا الأدب من الأهمية بمكان؛ إذ هو مما يعين على الانتفاع بالموعظة، والإصغاء إليها بإقبال ونشاط. ولا ريب أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص؛ فيختلف باعتبار حال الموعظة، ويختلف باعتبار حال الواعظ، ويختلف باعتبار حال المخاطبين؛ فالموعظة المفاجئة لها حال، والموعظة المحددة بزمان ومكان محددين لها حال، والموعظة المحددة بعنوان لها حال.  ثم إن الموعظة التي يلقيها فلان من الناس تختلف عن الموعظة التي يلقيها غيره؛ فالعالم وذو المكان له حال، ومن دونه في الرتبة له حال.  وكذلك السامعون؛ فالمقبلون على الموعظة لهم حال، ومن كان إقبالهم أقل فلهم حال أخرى وهكذا.

 

فمراعاة هذه الأحوال وأمثالها يعين الواعظ على التأثير في الناس، وإساغتهم للموعظة.

وبناءًا على ذلك فإنه قد لا يتسنى تحديد وقت ملائم للموعظة لا تزيد عنه أو تتعداه؛ فقد تقتضي الحكمة أن يطنب الواعظ، وقد تقتضي أن يوجز، وقد تقتضي أن يتوسط.

وإذا روعي هذا الجانب، ووضع في موضعه عم نفعه، وعظم وقعه، والعكس.

قال أبو هلال العسكري :" والقول القصد أن الإيجاز والإطناب يُحتاج إليهما في جميع الكلام، وكل نوع منه، ولكل واحد منهما موضع؛ فالحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه؛ فمن أزال التدبير في ذلك عن جهته، واستعمل الإطناب في موضع الإيجاز، واستعمل الإيجاز في موضع الإطناب أخطأ.

 

 ومهما يك من شيء فإن التوسط والإيجاز هما أقرب الأساليب لإساغة الموعظة إلا إذا اقتضى المقام غير ذلك".  وهكذا كانت خطب النبي " فما كان يطيل؛ لأنه يخشى على الناس الملل. وكانت خطبه مع قصرها مليئة بالحكمة، والموعظة الحسنة؛ إذ تجيء حافلة بجوامع الكلم، والجملِ التي تجري على الألسنة مجرى الأمثال.  جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: كنت أصلى مع رسول الله " فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً ". ومعنى قصداً: أي متوسط بين الإفراط والتفريط وبين التقصير والتطويل.  وفي صحيح مسلم عن أبي وائل قال: خطبنا عمارٌ فأوجز، وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان! لقد أبلغتَ، وأوجزتَ، فلو كنتَ تَنَفَّسْتَ!. فقال:"إني سمعت رسول الله يقول: "إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنةٌ من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً ".  ومع أن هذا هو دأب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبه ومواعظه فهو يطيل في بعض الأحيان متى اقتضى الحال الإطالة.

 

جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن أخطب قال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فَأَعْلَمُنا أَحْفَظُنا ".

 

ومن خلال ما مضى يتبين لنا أن مدة إلقاء الموعظة أمرٌ نسبي يُرجع فيه إلى اجتهاد الواعظ، وحكمته، ويرجع فيه إلى اختلاف الأحوال والأشخاص.

 

سابعا: الرفق في القول، واجتناب الكلمة الجافية: فإن الخطاب اللَّين قد يتأَلَّف النفوسَ الناشزةَ، ويدنيها من الرشد، ويرغبها في الإصغاء للحجة أو الموعظة.  

 قال تعالى في خطاب هارون وموسى عليهما السلام: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 43،44]. ولقَّن موسى -عليه السلام- من القول اللين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال تعالى: ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) [النازعات: 18،19]. ولهذا فإن الموعظة التي تُلقى في أدب، وسعة صدر، تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.

 

ولقد امتن ربنا على نبينا محمد بأن جبله على الرفق ومحبة الرفق، وأن جنبه الغلظة، والفظاظة، فقال عز وجل " وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران:159]،. ولقد كانت سيرته عليه الصلاة والسلام حافلةً بهذا الخلق الكريم الذي مَنْ مَلَكَه بسط سلطانه على القلوب.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات