تَذْكِيرُ الأَخِلاَّءِ بَأَخْطَاءِ الخْطَبَاءِ (1)

مرشد الحيالي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وليعلم الخطيب أنه ليس وحيدَ دهرِه، ونابغةَ زمانه، وفريدَ عصره، بل إن من يحضرون المسجدَ هم من شرائحَ مختلفة، ففيهم العلماءُ والأدباء، والفقهاء والأتقياء، وفيهم المفكرون والمثقفون، والمخلصون والعاملون، وعليه أن يَحسِبَ لهم حسابَهم؛ فهناك من يَعُدُّ الأخطاء، ويتصيَّدُ الهفواتِ، ويحصي الكلمات، ويراقب الحركات.

 

 

 

 

تُعَدُّ الخطبة من أمثل أنواع الدعوة وأكثرها تأثيرًا في المدعوِّين، وخاصَّةً إذا قام الخطيب بواجبها وآدابها، وأدرك ما لها من الدور في التوجيه والتربية، والسببُ يعود في رأيي إلى أمور، منها:

 

1-التزام المسلمين -باختلاف شرائحهم ومذاهبهم- بآدابها، وسننها، ولو بشكل عام؛ مثل: الإنصات، والحضور المبكِّر، والإصغاء التام لما يقوله الخطيب، وإن ليوم الجمعة المكانةَ الرفيعة في قلوبهم ونفوسهم.

 

2-حضور المسلمين وتركُهم لأعمالهم؛ امتثالاً لقوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ...) [الجمعة: 9].

 

3-احترام الناس لشخص الخطيب، وتقديرُهم له وما يصدر عنه، واعتبار أن ما يقوله ويدعو اليه أقربُ إلى الصواب.

 

4-فرصة عظيمة للاجتماع بالمسلمين، وتوجيهِ النصح والإرشادِ لهم، وذلك حين يُعطي الخطيب للخطبة حظَّها من الاهتمام والرعاية، والمستمعُ حظَّها من الإنصات والإصغاء.

 

ومن هذا الباب وجَبَ على الخطيب أن ينتبه إلى أخطائه -إن وجدت- ويحاول تقويمها ومعالجتها، وألا يُصرَّ على خطئه؛ لما له من الأثر السلبي على مَن ينصحهم ويرشدهم، وسواء كانت تلك الأخطاء قوليَّة، أو فعليَّة، أو شكليَّة، كما سيأتي بيانه وتوضيحه.

 

والملاحَظُ أن بعض الخطباء -أصلحهم الله- مع أهمية الخطابة، ودورِها الفاعل في التوجيه والتربية، وتقويم أخطاء المدعوِّين، فإنهم يُهْملون الكثيرَ من آدابها وسننها، والتزام الأسلوب الأمثل فيها؛ مما يعرِّضهم إلى الوقوع في أخطاء تفوِّت عليهم -ثمرةَ الخطبة- ما يصبو إليه الخطيب.

 

ومن الملاحَظ -أيضًا- أن بعض المنابر غدَتْ محلاًّ للتجارِب، فلا أحد يمكنه محاسبةُ الخطيب على مواعظه وخطبه، فهو يَخطُب بما يحلو له من غير أن يلتزم بفنِّ الخطابة، ومن غير مراعاة لأحوال مَن يخطب فيهم، ومن غير أن يهتمَّ ويلتزم بمظهره وهندامِه؛ ولذا أصبح هؤلاء -في بعض الأحيان- عبئًا ثقيلاً على السامعين، لا يجدون مفرًّا من الحضور إليهم، والاستماع إلى خطبهم؛ لكون –مثلاً-: لا يوجد غير هذا المسجد، أو الخطيب، والله المستعان.

 

ومن هذا الباب تتبَّعت تلك الأخطاء، وفتَّشت عنها في مظانِّها، والغرضُ منها أن يطَّلع الخطيب عليها، ويحاول بقدر الإمكان أن يقوِّم أخطاءه، ويرتِّبَ أوراقَه؛ حتى يكون له الأثر العظيم في الارتقاء بنفسه، وبمن يدعوهم إلى التقوى والعلم النافع والعمل الصالح، ولكي يحصل على أجر من يدعوهم، وليحذر أن يتكبَّرَ على عباد الله، ويُنفِّر من نصحهم وإرشادهم له -كما يحصل في بعض المساجد- فتَنْفِر منه الأسماع، وتبغضه القلوب والنفوس.

 

وليعلم الخطيب أنه ليس وحيدَ دهرِه، ونابغةَ زمانه، وفريدَ عصره، بل إن من يحضرون المسجدَ هم من شرائحَ مختلفة، ففيهم العلماءُ والأدباء، والفقهاء والأتقياء، وفيهم المفكرون والمثقفون، والمخلصون والعاملون، وعليه أن يَحسِبَ لهم حسابَهم؛ فهناك من يَعُدُّ الأخطاء، ويتصيَّدُ الهفواتِ، ويحصي الكلمات، ويراقب الحركات.

 

وتركيزنا على أخطاء الخطباء لا يعني -ألبته- خلو الأمة من خطباء يُجيدون فنَّ الوعظ؛ فهناك خطباء تَأْنسُ الأسماع لحديثهم، وتَنبَسِطُ النفوس لكلامهم، ويجد المستمع أثرًا واضحًا في حياتِه، ويلمس تغييرًا في واقعه وأفعاله بعد خروجه من المسجد أو الجامع.

 

الخطبة تذكرة:

 

المقصود من الخطابة هو: إقامةُ ذكر الله، وحث المدعوِّين على عمل الخير، وترك الشرِّ؛ من خلال الترغيب في الأعمال الصالحة، والأفعال الحسنة، وما أعدَّ الله للمؤمنين من الجزاء الحسن في الآخرة، والترهيب –كذلك-من الأعمال السيئة المؤدِّية لدخول النار، وحلولِ النِّقَم والفساد في الأرض، كلُّ ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، أو الجدال بالتي هي أحسن، والدليل على ذلك قول الله –تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].

 

ولم تُشرَع الخطبة لأجل مُقارعة الحكام، أو نشر مساوئِهم على المنابر، أو إدخال المدعوِّين في دوَّامة من الصراع السياسي أو المذهبي، أو طرح الخلافات بين علماء الأمة وفقهائها، أو نشر أخطائهم، كلُّ ذلك ونحوه يُعَدُّ خارجًا عن إطار الخطبة، وما شُرعَتْ له، وخارجًا عن مقصودها وهدفها الأسمى؛ من إيقاظِ الناس من غفلتِهم، ودعوتهم إلى الحقِّ بالحكمة والأسلوب الأمثل؛ انطلاقًا من سيرة سيدنا الحبيب المصطفى -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ودعوته السَّمْحةِ الزكيَّة، المتمثلة في قوله –تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125].

 

هدي رسولنا في الخطبة:

 

أحببت قبل الشروع في بيان بعض الأخطاء، أن يَطَّلِعَ الخطيب والواعظ على هَدْيِ رسولنا العظيم في خطبه ومواعظه؛ من أجل أن ينسج على مِنواله، ويتبع هَدْيَه ونهجَه في الخطابة؛ من أجل أن يتحقَّق الهدف المقصود من الموعظة، وهو هدايةُ الناس إلى سواء الصراط.

 

قال الإمام ابنُ القيِّم في "زاد المعاد"(1): "كانت خطبته -صلى الله عليه وسلم- إنما هي تقريرٌ لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكرِ الجنة والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته؛ فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفةً بالله وأيامِه.

 

ومن تأمَّل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطب أصحابه، وجدَها كفيلةً ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصولِ الإيمان الكلية، والدعوةِ إلى الله، وذكر آلائه –تعالى- التي تحبِّبُه إلى خلقِه، وأيَّامِه التي تخوِّفُهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحبِّبُه إلى خلقِه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحبِّبُهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبُّوه وأحبَّهم.

 

ومما حُفِظ من خطبه -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان يُكثِرُ أن يخطب بالقرآن وسورة (ق).

 

قالت أمُّ هشام بنت الحارث بن النعمان: ما حَفِظْت (ق) إلا من فِي رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ مما يَخْطُبُ بها على المنبر"؛ رواه مسلم.

 

نعم، تلاوة سورة (ق)؛ لما لها من التأثير البليغ بمعانيها وبلاغتها، وجرسها وحلاوتها، ووعدِها ووعيدها، ولما لها من أثر في إيقاظِ الهمم، وشَحْذِ العزائم، أين خطباؤُنا من هذا الهدي النبوي؟ خطبةٌ لم تتجاوز في المقدار الزمني ربعَ ساعةٍ، حملت الصحابية الجليلة أمَّ هشامٍ على حفظِها، والعملِ بها من خلال المنبر الشريف(2).

 

لقد حقَّقت دعوة الرسول الكريم انقلابًا عجيبًا في كيان الإنسان؛ بفضل ما كان يمتلكه من وسائلَ فعَّالةٍ ناجحة في الدعوة إلى الله، فقد تحوَّل ذلك الإنسان من محبٍّ عاشق للدنيا، يموت ويحيا من أجلها، لا يُفكِّر أبعد من شهوته وبطنه، إلى إنسان يفكر، ويجول نظره في الكون الفسيح، إلى ما وراء ذلك من الشوق إلى نعيم الآخِرة ولذَّتها، يحمل همَّ الدعوة والجهاد في سبيل الله، وإخراج من حوله من البشر من ظُلْمِ العباد إلى عدل الإسلام ومساواته، ومن عبادة الحجر والبشر إلى عبادة الديَّان الذي لا يموت(3).

 

نكمل ما تبقى في مقالٍ لاحق...

 

[1] زاد المعاد في هدي خير العباد؛ للعلامة ابن القيم، طبعة مؤسسة الرسالة، بتحقيق/ شعيب وعبدالقادر الأرناؤوط، الجزء الأول ص 39.

[2] فقه قراءة سورة (ق) في خطبة الجمعة، بحث قيم نشر على موقع أهل الحديث، راجعه - إن شئت.

[3] من بحث لي بعنوان: (اختيار الوقت في الموعظة) نشر على موقع الألوكة.

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات