الجاذبية الأخلاقية

محمد مرسي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وقد عاب الله على أهل قريش حين لم يستجيبوا لدعوة رسوله، وتساءل سبحانه-تَعَجّباً واسْتَنْكاراً-: لماذا لم يستجيبوا لمحمد-صلّى الله عليه وسلّم-؟! هَلْ لأنّهم لا يعرفونه؟! لذا فهم في حاجة إلى وقت حتى يسألوا عَنْ أصله وفصله وعَنْ خلقه وسلوكه؟! لا، ليس الأمر كذلك، فهذا احتمال مستبعد تماماً؛ لأنّهم يعرفونه معرفة تامة -صغيرهم وكبيرهم -، يعرفون

 

 

 

 

استوقفني حَدَثَان مِنْ أحداث السيرة العطرة وجدت فيهما فوائد كثيرة وعِبراً جليلة، ولطالما سألت الله لي ولإخواني أَنْ يوفقنا للعمل بما اشتملا عليه. ولأَنَّ الحَدَثَين وردا في كتب السنة الصحيحة فَلَنْ أسردهما بطولهما، وإِنَّمَا سأقف على محل الشاهد مِنْهُما.

 

الحَدَث الأول: حين جاء جبريل-عَليه السَّلَامُ-إلى النَّبِيِّ الأمين-صلى الله عليه وسلم-في غار حراء، وضمَّه إلى صدره وأمره بالقراءة، عاد النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم-بعدها إلى بيته مرتعداً يرجف فؤاده، وهو يقول لخديجة-رضي الله عنها -بعد أَنْ قَصَّ عليها الخبر -: "لقد خَشِيتُ على نفسي". فقالت له تلك الكلمات الخالدات: "كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتصدُق الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ (أي: تنفق على الضعيف، واليتيم وذي العيال)، وتكسب المعدوم (أي تعاون الفقير وتتبرع بالمال لمن عدمه)، وَتُقْرِي الضَّيْفَ (أي تكرمه)، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الحق (ما ينزل بالإِنسان من حوادث ومصائب)".

 

الحَدَث الثاني: حين خرج أبو بكر مُهَاجِراً نحو أرض الحبشة؛ ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين، لقيه رجل من المشركين يقال له ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَخْرَجَنِي قَوْمِي". قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ (أَيْ مُجِيرٌ أمنع من يؤذيك)، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ. فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ... إلخ.

 

إِذا تأملنا هَذَيْنِ الوصفين؛ وجدنا العديد مِن الفوائد التربوية، والنفسية، والاجتماعية، والخُلُقية التي ترتقي بالْإِنْسان إلى أقصى درجات الكمال البشري الممكن، والمعبَّر به في وصف أبي بكر-رضي الله عنه-بقوله: "لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ"، كما تمنعه تلك الفوائد من السقوط الاجتماعي والنفسي المعبَّر عنه في كلام أُمِّنا خديجة -رضي الله عنها -بالخزي، والْخِزْي-كما عرفه العلماء-هو شُعور مؤلم يسبِّبه الإحساس بالذنب أو الإحراج أو عدم الأهميَّة أو العار. وسأكتفي بالإشارة إلى بعض الفوائد الخُلُقية، مُرْجِئاً الحديث عن الفوائد التربوية والنفسية لمناسبة أخرى، فأقول-مُسْتَعِيناً بِاللَّهِ -:

 

- الجاذبية الأرضيّة هي القوَّة التي ينجذب بها جسمٌ مَّا، نحو مركز الأرض دون اتِّصال بينهما، وعكسها انعدام الوزن، فهو الحالة التي يخفّ بها الإحساسُ بالوزن؛ نظراً لانعدام الجاذبيّة. ولا تقتصر الجاذبية وانعدام الوزن على الأشياء المحسوسة والملموسة فقط، فهناك الجاذبية الأخلاقية والتي تعني القوَّة التي ينجذب بها شخصٌ مَّا، أو جماعة نحو سلوك حسن بِإِرَادَةٍ حرة دون تأثير مادي مِنْ صاحب السلوك، كما أَنَّ انعدام الوزن في عالم الأخلاق؛ يعني انعدام تأثير الشخص في الوسط المحيط نظراً لانعدام جاذبيّته.

 

وبالتأمل في الحدثين المذكورين؛ نجد أَنَّهما يؤسسان لقانون الجاذبية الأخلاقية، ويؤكدان أَنَّ لهذه الجاذبية مَعَالِمَ ومنارات ظاهرة واضحة كمَعَالِم الْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ، وعلى كلٍ مَنْ أراد أَنْ يكون جذاباً أَنْ يقصد هذه المعالم ويسعى إليها، أذكر منها الثلاثة الآتية.

 

المَعْلَمُ الأول: السيرة الحسنة:

 

من الواضح أَنَّ الأوصاف التي وَصَفَ بها الرجلُ أبا بكر-رضي الله عنه-هي عين الأوصاف التي وصفت بها أُمّنا خديجة-رضي الله عنها-رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-، وأَنَّ هناك تطابقاً تاماً بين الوصفين، فعلى أي شيء يدل هذا التوافق؟

 

إِنَّهُ مِنْ جِهَة، يدل على ائتلاف الروحين - روح الصادق والصدّيق -، كما يدل على عظيم فضل أبي بكر-رضي الله عنه- واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال؛ ومِنْ جِهَة أخرى؛ يدل على ضرورة توافر هذه الأوصاف كلها أو جلها في حياة الْقُدْوَات والدعاة، ومَنْ أَرَادَ قيادة الناس، بل وفي حياة أفراد المجتمع كافة من جهة أخرى، كما أنَّك إِذا أمعنت النظر في هذه الأوصاف وَجَدْتَهَا تشمل أصول مكارم الأخلاق؛ لأنّ الإحسان إِمَّا إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإِمَّا بالبدن أو بالمال، وإِمَّا على مَنْ يستقل بأمره أو مَنْ لا يستقل، وذلك كله مجموع في الوصفين، مِمَّا جعل النبي-صلى الله عليه وسلم-وصاحبه قبل البعثة عَلَمين في محيطهما الاجتماعي.

 

وقد عاب الله على أهل قريش حين لم يستجيبوا لدعوة رسوله، وتساءل سبحانه-تَعَجّباً واسْتَنْكاراً-: لماذا لم يستجيبوا لمحمد-صلّى الله عليه وسلّم-؟! هَلْ لأنّهم لا يعرفونه؟! لذا فهم في حاجة إلى وقت حتى يسألوا عَنْ أصله وفصله وعَنْ خلقه وسلوكه؟! لا، ليس الأمر كذلك، فهذا احتمال مستبعد تماماً؛ لأنّهم يعرفونه معرفة تامة -صغيرهم وكبيرهم -، يعرفون شخصه، ويعرفون -أكثر مِنْ أي أحد -صفاته، يعرفون مِنْه كل خلق جميل، ويعرفون صدقه وأمانته حتى كانوا يسمونه-قبل البعثة-الأمين. فَلِمَ لَا يصدقونه حين جاءهم بالحق العظيم والصدق المبين؟ لذلك استنكر الله عليهم هذا السلوك العجيب في قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون: 69].

 

فالسيرة الطيبة، والأفعال الحميدة، والأخلاق الزاكية؛ تجعل صاحبها قدوة طيبة، وأسوة حسنة لغيره، ويكون بها كالكتاب المفتوح يقرأ فيه الناس المعاني الجميلة، والنبيلة فيقبلون عليها وينجذبون إليها. ومعلوم أنّ التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر مِنْ التأثر بالكلام فقط، ولم ينسَ الحكماء أنْ يُضَمِّنوا هذا المعنى في أقوالهم، فقالوا: "عَمَل رَجُلٍ في أَلْفِ رَجُلٍ خَيْرٌ مِن كلام أَلْفِ رَجُلٍ في رَجُلٍ".

 

وفي التنزيل الحميد موقف يختصر لنا المسافة ويعطينا المعنى في ألطف إشارة، حين قال الْفَتَيَانِ ليوسف -عليه السلام -: (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) [يوسف: 36].

، وكان هذا الطلب مِنْهما بعد أنْ أُعْجِبَا بصلاحه وسلوكه مع أهل السجن وحُسن معاملته لهم -وهو سجين-. ومِنْ وجوه الإحسان التي كان يمارسها - على ما يذكر الإمام القرطبي -: "أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ الْمَرْضَى وَيُدَاوِيهِمْ، فكَانَ إِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ السِّجْنِ قَامَ بِهِ، وَإِذَا ضَاقَ وَسَّعَ لَهُ، وَإِذَا احْتَاجَ جَمَعَ لَهُ"، ويضيف ابن كثير: "وَكَانَ يُوسُفُ-عَلَيْهِ السَّلَامُ-قَدِ اشْتُهِرَ فِي السِّجْنِ بِالْجُودِ وَالْأَمَانَةِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ-صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُه-وَمَعْرِفَةِ التَّعْبِيرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أهل السجن وعيادة مَرْضَاهُمْ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ. وَلَمَّا دَخَلَ هَذَانِ الْفَتَيَانِ إِلَى السِّجْنِ تَآلَفَا بِهِ".

 

المَعْلَمُ الثاني: الإيجابية والتحرك لمواجهة المشكلات اليومية الحياتية:

 

مِنْ أهم الأمور التي تُعِينُ على جذب الآخرين نحو شَخْصٍ ما: أنْ يكون عملياً، يُكثرُ الأساليب العملية التي تعالج المشكلات المعاصرة المحيطة به على نحو فعال وحاسم، يظهر ذلك بوضوح مِنْ الوَصْفين المشار إليهما، فأُمّنا خديجة -رضي الله عنها -والذي وصف أبا بكر إنَّما ذَكَرَا صِفَاتٍ عملية واقعية. ولا يخفى أنَّ ديننا هو دين العمل وأنَّ أكثر الأمور اقتراناً وتساوقاً في القرآن الكريم: الإيمان والعمل الصالح.

 

ولا ريب في أَنَّنا سنرتكب خطأ فادحاً حين نظن أَنَّنا نستطيع جذب الآخرين إلى أخلاقنا-بمجرد أَنْ نتحدث إليهم-دون أَنْ نوجد حُلُولاً أو نشارك في إيجاد حُلُول  لمشكلاتهم اليومية الحياتية المختلفة-مثل الْأُمِّيَّة والمرض والبطالة ...-، وهذا يقتضي الحرص على المخالطة التي لا بُدَّ منها، بل إنَّ هذا الواجب أصبح أشد تَحَتُّماً في زماننا مِنْ أيِّ زمان مضى؛ بعد أَنْ اتسع العمران، وضاقت الصدور، ونَمَتْ مساحة الشخصي والذاتي، على حساب المجتمعي والعام، فخدمة الإسلام لا تكون مِنْ خلال مديحه ، وإنَّما مِنْ خلال الارتقاء بالواقع وتحسين أوضاع أفراد المجتمع..

 

وقد عاب القرآن الكريم في بداية الدعوة على أهل مكة أَنَّهم كانوا لا يهتمون بما يمكن أَنْ نُسميه بمصطلح العصر المشترك الإنساني، فهاجمهم في عقر دارهم في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ}، فهم لا يكرمون اليتيم الصغير الذي فقد أباه واحتاج إلى مَنْ يُجْبِرُ خاطره ويُحْسِنُ إليه، كما أَنَّهم لا يتواصون على إطعام المحتاجين مِن المساكين والفقراء، ما يوحي بضرورة توجيه الأنظار إلى الواجب الاجتماعي وإلى العمل العام.

 

المَعْلَمُ الثالث: التصوّر الصحيح لعلاقة الإنسان بالإنسان:

 

نحن لا نعلم-على وجه التحديد-مَنْ هم الذين كانوا ينالون هذه الألوان مِنْ البر والإحسان، حيث لم يُشِرْ أي من النصّين-مِنْ قريب أو بعيد-إليهم، ولم يتكلّف أحد من الشراح والمفسرين تعيينهم، أو تحديد أسماء بعضهم، فليس في ذلك فائدة تُذْكَر، والشيء المؤكد أَنَّهم كانوا ممن يعيشون مع النبي-صلى الله عليه وسلم-وصاحبه في نفس الحيز المكاني، وقد حرص النبي وصاحبه كل الحرص على إحسان المعاملة معهم ومشاركتهم شعورهم، وهذا يعني أَنَّ مستقبل البشرية سيظل مَرْهُوناً بأمرين أساسيين: حُسْنُ علاقتها بالله-جل وعلا-وحُسْنُ العلاقة بين الناس.

 

اللهم إنّا نسألك إيماناً في حُسْن خُلُق، وصَلَاحاً يَتْبَعُهُ فلاح. آمين.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات