الدعاة وداء الإسراف، الأسباب والمظاهر وسبل المواجهة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وللسلف أقوال كثيرة في ذم الإسراف والتنعُّم، منها: قال عمر -رضي الله عنه-: "كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى". وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال: "كلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خلَّتان: سرف أو مخيلة ". وعن عثمان بن الأسود قال: "كنت أطوف مع مجاهد بالبيت فقال: " لو أنفق عشرة آلاف درهم في طاعة الله ما كان مسرفًا، ولو أنفق درهمًا واحدًا في معصية الله، كان من المسرفين ". وقال مالك: "التبذير هو أخذ المال من حقِّه، ووضعه في غير حقِّه، وهو الإسراف". وقال الشافعي: "التبذير إنفاق المال في غير حقِّه، ولا تبذير في عمل الخير".

 

 

 

 

 

من أهم أدوات الداعية في مباشرته لمهمته الجليلة بالقيام بواجب الدعوة، وخلافة الرسول-صلى الله عليه وسلم-في النصح والإرشاد؛ هي الحصانة الفكرية، ضد ضغوط الواقع التي قد تعيق سيره وتقطع طريقه نحو تحقيق أهدافه، فالمطلوب من الداعية التأثير في الواقع وتغييره، لا أن يؤثر الواقع نفسه فيه، لذلك لابد من الحذر من آفات الواقع، وأمراضه، وعوارضه الكثيرة التي قد تصيب المجتمعات الإسلامية. ومن أبرز ضغوط الواقع على الدعاة، ومن أشهر الآفات التي قد تصيب عدداً كبيراً من أبناء المسلمين؛ آفة الإسراف.

 

 معنى الإسراف لغةً: مجاوزة القصد، مصدر من أسرف إسرافًا، والسَّرَف اسم منه، يقال: أسرف في ماله: عجل من غير قصد، وأصل هذه المادة يدُلُّ على تعدِّي الحدِّ، والإغفال أيضًا للشيء.

 

معنى الإسراف اصطلاحًا: الإسراف: هو صرف الشيء فيما لا ينبغي زائدًا على ما ينبغي.

 

وقال الراغب: "السرف: تجاوز الحد في كلِّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر".

 

وقال الجرجاني: "الإسراف: هو إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس، وقيل تجاوز الحدِّ في النفقة، وقيل: أن يأكل الرجل ما لا يحلُّ له، أو يأكل مما يحل له فوق الاعتدال، ومقدار الحاجة، وقيل: الإسراف تجاوز في الكمية، فهو جهل بمقادير الحقوق".

 

والإسراف غير التبذير فبينهما عموم وخصوص، فمعنى التبذير لغة: التفريق، مصدر بذَّر تبذيرًا، وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكلِّ مضيع لماله، وبذر ماله: أفسده وأنفقه في السرف. وكل ما فرقته وأفسدته، فقد بذرته، والمباذر والمبذِّر: المسرف في النفقة، وأصل هذه المادة يدلُّ على نثر الشيء وتَفْرِيقه.

 

معنى التبذير-اصطلاحًا-كما قال الشافعي: "التبذير إنفاق المال في غير حقِّه". وقيل: التبذير صرف الشيء فيما لا ينبغي. وقيل: هو تفريق المال على وجه الإسراف، فالإسراف: صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، بخلاف التبذير؛ فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي، فبينهما عموم وخصوص إذ قد يجتمعان فيكون لهما المعنى نفسه أحيانًا، وقد ينفرد الأعم وهو الإسراف. 

 

الإسراف في ميزان الشرع:

 

الإسراف مذموم لعموم المسلمين فضلاً عن الدعاة إلى الله-عز وجل-في نصوص الوحيين، نهى الله-تعالى-عنه وحذر منه في عدة آيات ، قال تعالى: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا) [النساء: 6].قال ابن كثير: "ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافًا"، وقال الماوردي:"يعني لا تأخذوها إسرافًا على غير ما أباح الله لكم، وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما ليس بمباح، فربما كان في الإفراط، وربما كان في التقصير، غير أنه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال أسرف إسرافًا، وإذا كان في التقصير قيل سرف يسرف".

 

 وقال سبحانه (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141] قال الطبري: "السرف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف برب المال ".

 

 وقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]. قال السدي: " ولا تسرفوا، أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. قال الزجاج: على هذا إذا أعطى الإنسان كلَّ ماله، ولم يوصل إلى عياله شيئًا فقد أسرف ". وقال الماوردي: " فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تسرفوا في التحريم، قاله السدي. والثاني: معناه لا تأكلوا حرامًا فإنَّه إسراف، قاله ابن زيد. والثالث: لا تسرفوا في أكل ما زاد على الشبع فإنَّه مضرٌّ".

 

وقال السعدي: " فإنَّ السرف يبغضه الله، ويضرُّ بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدَّت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما"، وقوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ...) [الإسراء: 26-27]. قال ابن كثير: "أي في التبذير، والسفه، وترك طاعة الله، وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا أي: جحودًا؛ لأنَّه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته؛ بل أقبل على معصيته ومخالفته " وقال القاسمي:" أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي.

 

وهذا غاية المذمة؛ لأن لا شرَّ من الشيطان، أوهم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة، كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد. والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير، ببيان أنَّه يجعل صاحبه مقرونًا معهم. وقوله: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا من تتمة التعليل.

 

 وقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67]. قال ابن كثير: (أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقِّهم فلا يكفونهم، بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، كما قال (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29].

 

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف، أو مخيلة ".

 

قال ابن حجر: "ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة أن الممنوع من تناوله أكلًا ولبسًا وغيرهما، إما لمعنى فيه، وهو مجاوزة الحدِّ، وهو الإسراف؛ وإما للتعبد كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه، وهو الراجح، ومجاوزة الحد تتناول مخالفة ما ورد به الشرع فيدخل الحرام، وقد يستلزم الإسراف الكبر وهو المخيلة، قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة؛ فإنَّ السرف في كلِّ شيء يضرُّ بالجسد، ويضرُّ بالمعيشة؛ فيؤدِّي إلى الإتلاف، ويضرُّ بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضرُّ بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضرُّ بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس".

 

وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-أنه قال: "أتى رجل من بني تميم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقال: يا رسول الله، إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد، وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق؟ وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تخرج الزكاة من مالك؛ فإنها طهرة تطهِّرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حقَّ السائل، والجار، والمسكين. فقال: يا رسول الله، أقلل لي. قال: فآت ذا القربى حقَّه، والمسكين، وابن السبيل، ولا تبذِّر تبذيرًا. فقال: حسبي يا رسول الله، إذا أدَّيت الزكاة إلى رسولك، فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نعم، إذا أديتها إلى رسولي، فقد برئت منها، فلك أجرها، وإثمها على من بدَّلها".

 

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أنَّه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" قال البدر العيني: "قوله: وإضاعة المال هو صرفه في غير ما ينبغي".

 

وذكر القاري عن الطِّيبي قوله:"والتقسيم الحاصر فيه الحاوي بجميع أقسامه أن تقول: إنَّ الذي يصرف إليه المال، إما أن يكون واجبًا، كالنفقة والزكاة ونحوهما، فهذا لا ضياع فيه، وهكذا إن كان مندوبًا إليه، وإما أن يكون مباحًا، ولا إشكال إلا في هذا القسم، إذ كثير من الأمور يعدُّه بعض الناس من المباحات، وعند التحقيق ليس كذلك، كتشييد الأبنية وتزيينها، والإسراف في النفقة، والتوسع في لبس الثياب الناعمة والأطعمة الشهية اللذيذة، وأنت تعلم أنَّ قساوة القلب وغلظ الطبع يتولَّد من لبس الرقاق، وأكل الرقاق،وسائر أنواع الارتفاق"

 

 وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلًا أتى النبي-صلى الله عليه وسلم-فقال: إني فقير ليس لي شيء، ولي يتيم، قال: "كلْ من مال يتيمك غير مسرف، ولا مباذر، ولا متأثِّل " قال النخعي: " لا يلبس الكتان ولا الحلل، ولكن ما يستر العورة، ويأكل ما يسدُّ الجوعة ".

 

 وقال-صلى الله عليه وسلم-: " المؤمن يأكل في معيّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء " وفي رواية: أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ضافه ضيف وهو كافر فأمر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه ثم أنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بشاة فشرب حلابها ثم أمر بأخرى فلم يستتمها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " والمؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبع أمعاء ". وفي حديث آخر: " ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ".

 

وإذْ تحكي أم المؤمنين عائشة-رضي الله تعالى عنها-لعروة بن الزبير (بن أختها) فتقول: "إن كنا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-نار، فيقول لها عروة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: (التمر والماء) إلا أنه كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-جيران من الأنصار، كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من ألبانهم فيسقيناه ". وإذ تقول أيضاً: "كان فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-من أدم وحشوه من ليف " وقالت:" ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم-منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض" بل كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارزق آل محمد قوتاً ".

 

وللسلف أقوال كثيرة في ذم الإسراف والتنعم منها: قال عمر -رضي الله عنه-: "كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى". وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال: "كلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خلَّتان: سرف أو مخيلة ". وعن عثمان بن الأسود قال: "كنت أطوف مع مجاهد بالبيت فقال: " لو أنفق عشرة آلاف درهم في طاعة الله ما كان مسرفًا، ولو أنفق درهمًا واحدًا في معصية الله، كان من المسرفين ". وقال مالك: "التبذير هو أخذ المال من حقِّه، ووضعه في غير حقِّه، وهو الإسراف". وقال الشافعي: "التبذير إنفاق المال في غير حقِّه، ولا تبذير في عمل الخير".

 

أسباب الإسراف:

 

1 ـ النشأة الأولى: فقد يكون السبب في الإسراف إنما هي النشأة الأولى أي الحياة الأولى ذلك أن المسلم قد ينشأ في أسرة حالها الإسراف والبذخ فما يكون منه سوى الاقتداء والتأسِّي-إلا من رحم الله-ولعلنا بهذا ندرك شيئاً من أسرار دعوة الإسلام وتأكيده على ضرورة إنصاف الزوجين والتزامهم بشرع الله وهديه، قال تعالى: ( وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم... ) [النور: 32]، وقال: ( ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه... ) [ البقرة: 221] وفي الحديث النبوي :" تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ".

 

2 ـ  السعة بعد الضيق: وقد يكون الإسراف سببه السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر؛ ذلك أن كثيراً من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان أو شدة أو عسر وهم صابرون محتسبون، بل وماضون في طريقهم إلى ربهم وقد يحدث أن تتغير الموازين، وأن تتبدل الأحوال؛ فتكون السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال؛ فينقلب على النقيض تماماً؛ فيكون الإسراف أو التبذير، ولعلنا بهذا ندرك بعض الأسرار التي من أجلها حذر الشارع الحكيم من الدنيا وأوصى بأن يكون النيل منها بقدر. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَ اللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ " وقال أيضا: " إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ بَشَّارٍ لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ".

 

3 ـ صحبة المسرفين: وقد يكون في الإسراف إنما هي صحبة المسرفين ومخالطتهم، ذلك أن الإنسان-غالباً-ما يتخلق بأخلاق صاحبه وخليله، لاسيما إذ طالت هذه الصحبة، وكان هذا الصاحب قوى الشخصية شديد التأثير، والطباع سراقة، والصاحب ساحب، ولعلنا-بذلك-ندرك السر في تأكيد الإسلام وتشديده على ضرورة انتقاء الأصدقاء والأخلاء.

 

4 ـ الجهل بطريق الجنة: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن زاد الطريق؛ ذلك أن الطريق الموصلة إلى رضوان الله والجنة ليست طريقاً مفروشة بالحرير والورود والرياحين؛ بل بالأشواك والدموع والعرق والدماء والجماجم، وولوج هذه الطريق لا يكون بالترف والنعومة والاسترخاء، وإنما بالرجولة والشدة ذلك هو زاد الطريق، والغفلة عن هذا الزاد؛ توقع المسلم العامل في الإسراف. ولعلنا بذلك ندرك سر حديث القرآن المتكرر المتنوع عن طبيعة الطريق، قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) [البقرة: 214].

 

5 – الأسرة: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الزوجة والولد، إذ قد يبتلى المسلم بزوج وولد دأبهم وديدنهم الإسراف، وقد لا يكون حازماً معهم فيؤثرون عليه، وبمرور الأيام وطول المعاشرة؛ ينقلب مسرفاً مع المسرفين، قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ...) [التغابن: 14].

 

ولعلنا بذلك نفهم بعض الأسرار التي قصد إليها الإسلام، حين أكد ضرورة انتقاء واختيار الزوجة، وقد قدمت بعض النصوص الدالة على ذلك-قريباً-أثناء الحديث عن السبب الأول، وحين أكد على ضرورة الاهتمام بتربية الولد والزوجة، قال تعالى:( يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ التحريم: 6] وفي الحديث :" ألا كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤل عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤل عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عن عنهم ".

 

6 ـ عدم محاسبة النفس: وقد يكون السبب في الإسراف؛ التهاون مع النفس، ذلك أن النفس البشرية تنقاد وتخضع ويسلس قيادها بالشدة والحزم، وتتمرد وتتطلع إلى الشهوات وتلح في الانغماس فيها بالتهاون واللين، وعليه فإن المسلم العامل، إذا تهاون مع نفسه ولبى كل مطالبها؛ أوقعته لا محالة في الإسراف. ولعلَّنا بذلك نفهم السر في تأكيد الإسلام على ضرورة المجاهدة للنفس أولاً وقبل كل شيء. قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله ...) [الحشر: 18].

 

7-الغفلة عن مضار الإسراف: وقد يكون السبب في الإسراف؛ إنما هي الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف ذلك أن للإسراف آثاراً ضارة وعواقب مهلكة على نحو الذي سنعرض له بعد قليل، ولقد عرف من طبيعة الإنسان: أنه-غالباً-ما يفعل الشيء أو يتركه إذا كان على ذكر من آثاره وعواقبه، أما إذا غفل عن هذه الآثار؛ فإن سلوكه يختل، وأفعاله تضطرب، فيقع أو يسقط فيما لا ينبغي، ويهمل أو يترك ما ينبغي. وعليه فإن المسلم العالم إذا غفل عن الآثار المترتبة على الإسراف؛ يكون عرضةً للوقوع في الإسراف. ولعلنا-بذلك-نفهم السر في اهتمام الإسلام بذكر الحكم والمقاصد المنوطة بكثير من الأحكام والتشريعات.

 

 مضار الإسراف:

 

1 ـ عدم محبة الله للمسرفين والمبذرين: قال تعالى: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]. قال ابن عاشور: (فبيَّن أنَّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبُّها، فهو من الأخلاق التي يلزم الانتهاء عنها، ونفي المحبة مختلف المراتب، فيعلم أنَّ نفي المحبة يشتدُّ بمقدار قوة الإسراف، وهذا حكم مجمل، وهو ظاهر في التحريم).

 

2 ـ  طلب المال بالكسب الحرام: لأنَّ المسرف ربما ضاقت به المعيشة، نتيجة لإسرافه؛ فيلجأ إلى الكسب الحرام، قال ابن عاشور: " فوجه عدم محبة الله إياهم أنَّ الإفراط في تناول اللذات والطيبات، والإكثار من بذل المال في تحصيلها، يفضي غالبًا إلى استنزاف الأموال، والشَّره إلى الاستكثار منها، فإذا ضاقت على المسرف أمواله؛ تطلَّب تحصيل المال من وجوه فاسدة؛ ليخمد بذلك نهمته إلى اللذات، فيكون ذلك دأبه، فربما ضاق عليه ماله، فشقَّ عليه الإقلاع عن معتاده، فعاش في كرب وضيق، وربما تَطَلَّب المال من وجوه غير مشروعة، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدنيا أو في الآخرة، ثم إنَّ ذلك قد يعقب عياله خصاصةٌ، وضنكُ معيشةٍ، وينشأ عن ذلك ملام، وتوبيخ، وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة ".

 

3 ـ الإضرار بالبدن: قال علي بن الحسين: "جمع الله الطبَّ كلَّه في نصف آية فقال: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ...) [الأعراف: 31]). وقال ابن عاشور: "ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللحوم والدسم؛ لأنَّ ذلك يعود بأضرار على البدن، وتنشأ منه أمراض معضلة، وقد قيل: إنَّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصحة من جانب الغذاء، فالنهي عن السرف نهي إرشاد لا نهي تحريم" .وقال رشيد رضا: " فمن جعل شهوة بطنه أكبر همه فهو من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرض معدته وأمعاءه للتخم؛ فهو من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته، وعرض نفسه لذلِّ الدين، أو أكل أموال الناس بالباطل؛ فهو من المسرفين، وما كان المسرف من المتقين".

 

4-مشاركة الشيطان: إنَّ الذي يسرف ويبذر معرض لمشاركة الشيطان في مسكنه، ومطعمه، ومشربه، وفراشه، يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان".

 

فالإسراف والتبذير من صفات إخوان الشياطين؛ قال تعالى:(وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26-27]. قال السعدي: (لأنَّ الشيطان لا يدعو إلا إلى كلِّ خصلة ذميمة، فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك، فإذا عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير. والله-تعالى-إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه، كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].

 

5-الإسراف يجرُّ إلى مذمَّات كثيرة: قال ابن عاشور: "والإسراف إذا اعتاده المرء حمَله على التوسع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مذمَّات كثيرة، وينتقل من ملذَّة إلى ملذَّة فلا يقف عند حدٍّ. وقيل عطف على وَآتُواْ حَقَّهُ أي: ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقِّه، فتنفقوا أكثر مما يجب، وهذا لا يكون إلا في الإنفاق والأكل ونحوه".

 

6-التعرض للمساءلة والحساب عن مصارف ماله: وعن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ "، أي من موقفه للحساب حتى يسأل عن عمره فيما أفناه أفي طاعة أم معصية؟! وعن عمله فيم عمله لوجه الله تعالى خالصًا أو رياء وسمعة؟! وعن ماله من أين اكتسبه، أمن حلال أو حرام؟! وفيما أنفقه أفي البرِّ والمعروف أو الإسراف والتبذير؟! وعن جسمه فيما أبلاه أفي طاعة الله أو معاصيه؟!.

 

صور الإسراف:

 

لا شكَّ أنَّ الإسراف تتعدَّد صوره ومظاهره، وهو يقع في أمور كثيرة كالمأكل، والمشرب، والملبس، والمركب، والمسكن، وغيرها، ومن هذه الصور:

 

1-الإسراف على الأنفس بالمعاصي والآثام: قال تعالى:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر: 53]. قال القاسمي: (أي جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر لا تيأسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف.

 

2-الإسراف في الأكل، والشبع المفرط: وقد نهى النبي-صلى الله عليه وسلم-عن الإسراف في تناول الطعام فقال: " ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس". قال القرطبي: " من الإسراف الأكل بعد الشبع، وكلُّ ذلك محظور. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعًا فوق شبع، فإنك أن تنبذه للكلب خير من أن تأكله".

 

3-الإسراف في الوضوء: عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-مر بسعد "وهو يتوضأ "فقال: "ما هذا السرف؟! فقال: أفي الوضوء إسراف؟، قال: نعم، وإن كنت على نهر جارٍ". وقال البخاري: "بيَّن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنَّ فرض الوضوء مرة مرة، وتوضَّأ أيضًا مرتين وثلاثًا، ولم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي-صلى الله عليه وسلم-وقال ابن القيم: "وكان-أي النبي صلى الله عليه وسلم-من أيسر الناس صبًّا لماء الوضوء، وكان يحذِّر أمته من الإسراف فيه، وأخبر أنَّه يكون في أمته من يعتدي في الطهور". وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " يجزئ من الوضوء مدٌّ، ومن الغسل صاع، فقال رجل: لا يجزئنا، فقال: قد كان يجزئ من هو خير منك، وأكثر شعرًا، يعني النبي-صلى الله عليه وسلم".

 

4-الإسراف في المرافق العامة: والإسراف في المرافق العامة مذموم-أيضًا-كالإسراف في الماء والكهرباء، ويعتبر من إضاعة المال قال-صلى الله عليه وسلم-"إنَّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال".

 

قال المناوي:"إضاعة المال: هو صرفه في غير وجوهه الشرعية، وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنَّه إفساد، والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله؛ تعرَّض لما في أيدي الناس".

  

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات