الاجتهاد حق هو، أم واجب؟!

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

والخلاصة أن الاجتهاد حق لكل من استكمل شروطه، وحاز آلته بالضوابط المذكورة، أي أنه ليس حقاً مشاعاً لكل منْ هبَّ ودبَّ، وشربَ وعبَّ. وباب الاجتهاد لم يغلق، بل هو مفتوح لمستجدات العصر، وحاجاته اللامتناهية، والاجتهاد حجيته قاطعةٌ، ولازمةٌ على غير المجتهدين، والاجتهاد أصلٌ من أصول الدين العظيم، لا يجوز تمييعه، وتحويله إلى ألعوبةٍ بيد كل متلاعبٍ وماجنٍ، يريدُ العبثَ بأحكام الدين، وتمزيقَ قدسيِّتهِ، وانتهاكَ محرَّماتِه، بدعوى التجديد والاجتهاد! أو حرِّية اعتناق الآراء.

 

 

 

 

 

لقد كان من الإيجابيات الكبرى التي تذكر للدعوة الإسلامية المعاصرة، أنها كسرت حاجز التقليد الذي ظلت الأمة حبيسة أسواره، وأغلاله لقرون عديدة، تراجعت خلالها قيمة، وأثر، وفعالية الفقه الإسلامي، في الحياة العامة، حيث جمدت الأمة عند أقوال، وآراء، واجتهادات قرون خلت.

 

 وفتح باب الاجتهاد من جديد؛ بعد أن ظل مغلقاً لعدة قرون! أصبح خلالها الاجتهاد جريمة! يعاقب عليها المجتمع والسلطة القائمة، بل يحجم عن الاقتراب من الباب-فضلاً عن الولوج إليه-الكثير من العلماء الذين بلغت رتبتهم الاجتهاد، واستكملوا آلته، ولكن آثروا التقليد، والسيرَ على نهج الأقدمين؛ حتى لا يتهموا بالمروق، والزندقة، وما صنوف الابتلاءات التي تعرض لها قامات وأئمة أمثال: شيخ الإسلام: ابن تيمية، وتلاميذه: ابن القيم، والذهبي، وابن كثير-رحمهم الله جميعاً-إلا بسبب بلوغهم رتبة الاجتهاد، واشتغالهم وفق هذا الاجتهاد.

 

فجاءت الصحوة الإسلامية، ومجدديها، ومخلصيها من الدعاة، والعلماء؛ ليحملوا على عاتقهم إرجاعَ الأمة لمنابعها الأولى، في العمل بالأدلة الشرعية، وإزالة الغبار عن كتب الحديث والسُّنة-بعد أن كادتْ تندثرُ وينساها الناس-في ظل اشتغال الأجيال المتتابعة بكتب الفقه، والشروح، والمتون، والفروع، وجدَّدوا العمل بفقه الحديث، ودراسته، وأعادوا مجالس التحديث للحياة؛ حتى عادت للسُّنة مكانتها ومنزلتها اللائقة.

 

ولكنْ، مع هذا السير المبارك، نحو إحياءِ الدور الرائد للفقه الإسلامي في حياة الأمة، وردِّ المسلمين إلى منابعهم الأولى الصافية، كان هناك سيرٌ من نوع آخر، يستهدف تنحية الشريعة من حياة الأمة! سيرٌ يقوده ثلةٌ من العلمانيين، والليبراليين، والمفتونين بما عند الغرب من فنونَ وثقافةٍ! هؤلاء استغلوا حالة النشاط الفكري السائد في مطلع القرن العشرين، في النيل من ثوابت الأمة، وتمرير أفكارهم التغريبية! على حساب دينهم وأمتهم، وكان الاجتهاد أحد الأوراق التي حاولوا اللعب بها؛ من أجل تشويه هذا المعلم العظيم من معالم الدين، وكان مدخلهم في ذلك تساؤلهم الشهير:" الاجتهاد، حق هو، أم واجب "؟! وهدفهم في ذلك تمييع قضية الاجتهاد، وجعلها متكئاً للجميع، يبررون بها أفعالهم الغريبة!، والمنافية للشرع، بدعوى أن هذا اجتهادهم في المسألة، وأنهم معذورون مأجورون، لا ينكر عليهم-كما تقرر في ثوابت الاجتهاد- وأن لهم مطلق الحرية في اعتناق ما شاءوا من الأفكار، والآراء، لذلك، كان لابد من الإجابة على هذا التساؤل، الذي قد يدفع البعض للتشكك، خاصةً وأن الإسلام يتعرَّضُ-هذه الأيام في مرحلة ما بعد سقوط الثورات العربية، وعودة الأنظمة الديكتاتورية-لهجمةٍ شرسة-جداً-على ثوابته، وقيمه، وشريعته، وأصوله، حتى رأينا من يقول: "أن أهل الكتاب ليسوا كفاراً"!، "وأن العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة ليست بزنا"!، "وحجاب المرأة عادةً يهوديةً"!، "وعمل الراقصة في سبيل الله"!، إلى آخر هذه الأقوال المستبشعة، وكلها بدعوى أنه اجتهاد في فهم الدين .

 

 

أولا: تعريف الاجتهاد وحكمه:

 

الاجتهاد في اللغة: مأخوذ من الجهد، وهو الطاقة والمشقة، لذلك، لا يقال: اجتهد الشخص في حمل وزن خفيف، مثل: الثمرة، أو الخردل، إنما يقال: اجتهد في حمل صخرة، ونحو هذا القبيل.

 

أما في الاصطلاح: فهو استفراغ الفقيه وسعه بأن يبذل تمام جهده، وطاقته، في النظر في الأدلة؛ لتحصيل الظن بحكم شرعي.

 

الاجتهاد: منهج المسلم؛ للتفاعل الشرعي مع كل من الوحي، والكون، واسْتِنْطاقهما؛ لاستنباط السنن، واستدرار الحكم، وفقه آيات الوحي، وهو سمة المسلم الثابتة، يسعى إليه ما أمكنه ذلك.

 

غير أن اللطف الإلهي بالعباد، اقتضى الرأفة بهم؛ نظراً إلى تفاوتهم في القدرات الفكرية، ووسائل الدراية، والاستنباط؛ ونظراً إلى اختلافهم في الانصراف إلى المشاغل الدنيوية، والمرهقات المعيشية، التي تَحُولُ دون إمكان قيامهم جميعاً بهذا الواجب على السواء، وبالوجه السليم.

 

فكان من رأفته بهم أن رخص لهم في اتباع[1] من أتيح لهم النهوض بهذا الجهد، وذلك من خلال خطابه الذي قال لهم فيه: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل 43]، وبهذا تحول ما كان في أصله واجباً عينياً إلى واجب كفائي؛ إن قام به من يقعون موقعاً من الكفاية التي تحتاج إليها الأمة في التبّصر بأحكام دينها؛ سقطت مسؤولية هذا الواجب الاجتهادي عن الباقين.

 

والدليل على كون الاجتهاد فرضاً كفائياً، أمران:

 

أولهما: جميع النصوص الدالة على وجوب طاعة الله ورسوله، مثل قول الله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) [آل ‌عمران 32] وقوله تعالى: (وأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال20] ،  وقوله-صلى الله عليه وسلم-فيما رواه مالك في موطَّئِه: "وقد تركت فيكم- إن تمسكتم به؛ لن تضلوا بعدي- كتاب الله وسنتي "، ووجه الدلالة: أن الله تعالى إذا أوجب عليهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه، مما قد ورد في كتابه، أو سنة رسوله، فقد أوجب عليهم بذل الجهد اللازم؛ لفهم ما قد دلت عليه نصوص كل منهما؛ ذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، وهي قاعدة أصوليةٍ معروفة.

ثانيهما: قول الله عز وجل: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ...) الآية [التوبة 122]، ووجه الاستدلال بها: أن نعلم بأن الجهاد من أهم ما قد شرعه الله، وفرضه على عباده، فإذا أمر مع ذلك بتخلّف نفر من الناس عن الخروج إلى الجهاد؛ لكي يتفرغوا للتفقه في الدين، الذي هو استنباط الأحكام من نصوص الكتاب والسنة، فإن ذلك من أجلى الأدلة على أن الاجتهاد في فهم أحكام الدين فريضة كالجهاد، ولكنه فرض كفائي، يكفي في القيام به نفر من الناس، بشرط أن يكونوا من الكثرة بحيث يشكلون مرجعاً كافياً لعامة الناس، فيما قد يستشكلونه، أو يسألون عنه.

 

والصحيح الذي عليه جمهور العلماء، جواز تقليد المجتهد، وإن كان ميتاً، فإن الأقوال الاجتهادية لا تموت بموت أصحابها. يقول ابن القيم: "هل يجوز للحيّ تقليد الميت، والعمل بفتواه من غير اعتبارها بالدليل الموجب لصحة العمل بها؟ فيه وجهان لأصحاب الإمام أحمد: فمن منعه قال: يجوز تغيير اجتهاده ولو كان حياً، والثاني: يقول بالجواز، وعليه عمل المقلدين في أقطار الأرض، وخيار ما بأيديهم تقليد الأموات، والأقوال لا تموت بموت قائليها، كما لا تموت الأخبار بموت رواتها ".
ويقول الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة:"إن هذه المذاهب الأربعة، المدونة، المحررة، قد أجمعت الأمة، أو من يعتدّ به منها، على جواز تقليدها إلى يومنا هذا، وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى. لاسيما في هذه الأيام، التي قصرت فيها الهمم، وأشربت النفوس الهوى، وأعجب كل ذي رأي برأيه ".

 

ثانيا: موضوع الاجتهاد:

 

يدور الاجتهاد في الشريعة الإسلامية على محور النص من القرآن أو السنة، فهو يظلّ مرتبطا به، خاضعاً له، باحثاً عنه، ذلك لأن الاجتهاد في مسألة ما، من مسائل الدين، لا يعدو أن يكون استجلاء لمدى صحة النص وثبوته، أو تبيناً لمعناه، ودلالته، ويدخل في الحالة الثانية البحث في مدى عموم النص أو خصوصه، أو إطلاقه، أو تقييده، وفي مدى خضوعه للتأويل، وفي العلة التي يدور عليها حكمه. بل إن مطلق ما يسمى حكماً في مصطلح الشريعة الإسلامية، لا يتحقق له وجود، إلاّ على أساس الخبر، أو الحكم الذي بلغنا من الله عز وجل ورسوله؛ إذ بدونهما لا يسمى العلم الشرعي علماً، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "وليس لأحد-أبداً-أن يقول في شيء: حلّ، أو حرم، إلا من جهة العلم، وجهة العلم: الخبر في كتاب الله، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس".

 

 

ومعلومٌ أن كلاً من الإجماع، والقياس، أثرٌ من آثار النص، لا يتقومان إلاّ به، ولا ينهضان إلا عليه. ويقول الإمام الشافعي في بيان أن القياس أثر لا ينفك عن النص:" والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر، من الكتاب، أو السنة، لأنهما عَلَمُ الحقّ المفترض طلبه".

 

ولو جاز أن تتسع دائرة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، إلى تخطّي حدود النصّ ومدلولاته؛ إذن، لجاز لهذا الاجتهاد- ذاته-أن يبطل حكم الشريعة بأسرها، وأن يستبدل بها شيئاً فشيئاً غيرها، ولقد أوضح الشاطبي هذه الحقيقة بدقة بارعة عندما قال: "ولو جاز للعقل تخطّي مأخذ النقل (أي النص)؛ لجاز إبطال الشريعة بالعقل، وهذا محال باطل، وبيان ذلك: أن معنى الشريعة: أنها تَحُدُّ للمكلفين (أي بالنقل الوارد إلينا من الله ورسوله) حدوداً في أفعالهم، وأقوالهم، واعتقاداتهم، وهو جملة ما تضمنته، فإن جاز للعقل تعدي حدٍّ واحد؛ جاز له تعدي جميع الحدود! لأنّ ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وهذا لا يقول به أحد "، وقد حصر الماوردي عمل المجتهد في سبعة أقسام، لا يتجاوزها، تدور كلها على محور النص، وهي: إثبات النص، أو استخراج علته، أو ضبط مدلولاته، أو الترجيح بين احتمالاته، أو الكشف عن عمومه وخصوصه، أو إطلاقه وتقيده.

 

 

ثالثاً: مجالات الاجتهاد:

 

من الثابت-يقيناً-أن الاجتهاد المشروع: هو ما تعلق بحكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، ذلك لأن الحاجة إلى الاجتهاد متفرعة عن وقوع الاحتمال في ثبوت النص، أو في دلالته-كما قد أوضحنا من قبل-ولا يقع الاحتمال إلا حيث يكون الدليل ظنياً.

وبهذا تخرج مسائل العقيدة الإسلامية، ومبادئها الأساسية عن دائرة الاجتهاد؛ لأنها مستندة إلى دلائل يقينية الثبوت والدلالة، كما يخرج أيضاً كل الأحكام الفقهية، التي ثبتت على وجه القطع واليقين، كفرض الصلوات الخمس، ووجوب صوم رمضان، وحج البيت-على المستطيع-، وحرمة القتل-بدون حق-والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، إذ إنها تستند إلى أدلة قطعية، ذات دلالة يقينية، لا مجال فيها للاحتمال، ومن ثم، فلا سبيل للاجتهاد إليها.

 

ومن أبرز الأدلة التي تخرج أصول العقيدة الإسلامية-وما يتبعها من ضروريات الأحكام الشرعية- عن ساحة الاجتهاد، قول الله عز وجل: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ) [محمد 19]، وقد عرفنا أن العلم: هو ما تسامى فوق درجة الشك والظن، وبلغ درجة اليقين والجزم، ولا يتأتى ذلك إلا بأدلة قاطعة، تغني عن النظر والاجتهاد فيها، ومثل ذلك قول الله تعالى في التحذير من اتباع العقائد الزائفة: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [النجم 28]، وقوله تعالى: - في صدد الموضوع ذاته- (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء 36].

 

وفي بيان هذا، يقول الشافعي رحمه الله:" العلم علمان: علم لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهلُهُ، مثل: الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم رمضان، وحج البيت-إذا استطاعوه-،وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم: الزنا، والسرقة، والقتل، والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كلف الله به العباد أن يفعلوه، ويعلموه، ويعطوه، من أنفسهم، وأموالهم، وأن يكفُّوا عما حرم الله عليهم منه، وهذا الصنف كله من العلم، موجود-نصاً- في كتاب الله، وموجود- عاماً- عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا ينازعونه في حكايته، ولا وجوبه عليهم، وهذا العلم العام، الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع ".

 

ويقول الإمام الغزالي في المستصفى: " والمجتَهَدُ فيه: كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، واحترزنا بالشرعي عن العقليات، ومسائل الكلام، فإن الحقَّ فيها واحد، والمصيب واحد، والمخطئ آثم، وإنما نعني بالمجتهد فيه: ما لا يكون المخطئ فيه آثماً، أما وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وما اتفقت عليه الأمة، من جليّات الشرع، ففيها أدلة قطعية، يأثم فيها المخالف، فليس ذلك محلّ اجتهاد ".

 

رابعاً: شروط آلة الاجتهاد:

 المجتهد: هو ذاك الشخص، الذي يبذل ما يملك من الجهد؛ لمعرفة حكم الله عز وجل، طبق ما تدلّ عليه مصادر الشريعة الإسلامية، ومن المعلوم أن بذل هذا الجهد الذي لابدَّ منه، لا يتأتى من الناس جميعاً؛ لما قد سبق بيانه، من تفاوت الناس في القدرات الذهنية، والملكات العلمية، وامتلاك أدوات المعرفة والاستنباط، إذن، فقد كان لابدَّ من ضبط هذه القدرات، وبيان الأنواع المطلوبة من العلوم والمعارف، ثم بيان القدر المطلوب في مجال معرفتها. إذ إن وجود هذه القدرات ضمن أنواعها، وحدودها التي لابدَّ منها؛ يفرض على صاحبها أن يستقل بالاجتهاد، واستنباط الأحكام من مصادرها، ويحرم عليه تقليد الآخرين فيما انتهت إليه اجتهاداتهم.

 

فما هي هذه الشروط العلمية التي-إن توفرت-تجعل من صاحبها مجتهداً يحرم عليه التقليد؟

 

أولاً: أن يكون المجتهد سليم العقيدة والسلوك، لم يتهم بمروق، أو فسق، أو تهاون في أداء أوامر الله -عز وجل-، والدفاع عنها عندما يقتضي الأمر ذلك.

 

ثانياً: أن يكون عالماً بمدارك الأحكام الشرعية، وأقسامها، وطرق إثباتها، ووجوه دلالات تلك المدارك على مدلولاتها، وأن يكون على بينة من اختلاف مراتبها، وأن يعلم القواعد التي يتم على أساسها الترجيح عند التعارض، وأن يعلم كيفية استثمار الأحكام من مصادرها، وأن يكون عالماً بالرواة وطرق الجرح والتعديل، وأنواع الحديث الصحيح منها والضعيف.

 

ثالثاً: أن يكون متبصراً بأسباب النزول، وبحقيقة النسخ وأماكنه، والناسخ والمنسوخ في النصوص التي تتضمن الأحكام.

 

رابعاً: أن يكون عالماً باللغة العربية وفنونها، من نحو، وصرف، وبلاغة، بحيث يميز بين دلالات الألفاظ، من مطابقة وتضمن والتزام، وحقيقة ومجاز، ومشترك ومتواطئ، وترادف وتباين، واقتضاء وإشارة، وعموم وخصوص، وإطلاق وتقييد.

 

 

ويتفاوت المطلوب من هذه المعارف والعلوم، حسب نوع الاجتهاد الذي يريد المجتهد أن يمارسه، فالاجتهاد في جزئية صغيرة، لا يتطلب ما يتطلبه الاجتهاد في كليات الأحكام الشرعية، والاجتهاد الذي يمارسه الفقيه-ضمن قواعد مذهبه الفقهي الذي ينتمي إليه-لا يتطلب من الدقة في استيعاب الأحكام وتلك العلوم ما يتطلَّبُه الاجتهاد المطلق، الذي لا يتقيد صاحبه بمنهجٍ اجتهاديٍ سابقٍ.

 

 

خامساً: حجية الاجتهاد وقيمته:

 

إذا كان الاجتهاد واجباً دينياً، فإن ما قد يؤدي إليه هذا الاجتهاد، يكون بالضرورة حكماً دينياً، وإنها لقضية منطقية شرطية، تحمل برهانها في داخله، وإنه لخطأ بيّن، ذلك التصور الذي يقع-تحت تأثيره-بعض الكاتبين والباحثين في هذا العصر، إذ يفرِّقون بين ما يسمونه الشريعة الإسلامية، وما يعبرون عنه بالأحكام الفقهية الاجتهادية، ثم يحصرون سِمة الدين وسلطانه فيما يسمونه الشريعة، وينفون هذه السمة عن سائر الأحكام الاجتهادية؛ بحجة أنها ليست إلا من إبداع المجتهدين، وحصيلة أفكارهم البشرية.

 

والحقيقة أن الدعوة الهائجة اليوم عند عشاق الحضارة الغربية إلى الاجتهاد، وإعادة النظر في الأحكام الفقهية القائمة؛ ثمرةٌ لهذا التصور الخاطئ والخطير، فإنهم يتصورون أن أكثر الأحكام الفقهية المدونة في مصادرها؛ ثمرةٌ لاجتهاد علماءٍ امتازوا بالدُّرْبة، والمعرفة القانونية في عصورهم، وما أيسرَ أن تنسخ أفكارهم بأفكار أمثالهم من العلماء! الذين جاؤوا على أعقابهم اليوم، أي: إن الاستهانة بالقيم الدينية الكامنة في الأحكام الفقهية الاجتهادية؛ هي التي تحفِّز أصحاب هذه الاستهانة بالدعوة إلى ما يسمونه بتجديد الفقه الإسلامي عن طريق اجتهاد جديد.

 

وكم قرأنا لأناس يدَّعون احترام الشريعة الإسلامية!، والذب عن حياضها، فلمَّا قيل لهم عن الربا وحرمته، أجابوا: بأنه حكم اجتهادي، منوط بظروف تبدلت، وتطورت، وإذا حدّثتهم عن عقوبة الزنا، أو القاتل، أو المرتد، أو ذكرت لهم أحكام الذمة، أو فصلت لهم شيئاً من أحكام المرأة فيما يتعلق بلباسها وآدابها؛ هَوَّنوا من الأمر، وتحرروا من تبعات هذه الأحكام كلها؛ بحجة أنها آراء اجتهادية! وإنَّ أَحدُنا ليسأل بحق: فماذا تعني الشريعة الإسلامية المقدسة الخالدة إذاً؟! وما هي مضموناتها التي يتجلى فيها معنى خلودها، وخضوعنا لسلطانها؟، إذا استثنينا بديهياتها المعروفة، كأصل: وجوب الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة. ونعود، فنردّ على هذا اللغو، بتأكيد القضية المنطقية، التي استقطبت إجماع علماء المسلمين، وهي أن الأحكام الاجتهادية التي جاءت نتيجة اجتهاد شرعي سليم، توافرت فيه أصول الاجتهاد وشروطه؛ جزءٌ لا يتجزأ من الدين، فهي إذن، أحكام دينية، يلزم بها صاحب الاجتهاد في حق نفسه أولاً، ثم يلزم بها كل من تقاصرت درجته العلمية عن الاجتهاد ثانياً، ثم إن لم يجد أمامه إلا هذا الاجتهاد؛ فليس له عنه أيُّ مَعْدِلٍ، وأما إن تعدد المجتهدون مِنْ حولِه، وتعددت اجتهاداتهم في المسألة الواحدة؛ فعليه أن يختار منها ما تسكن إليه نفسه، ويطمئن إليه قلبه، وإنما الحكم الديني في حقه؛ أن لا يخرج عن اتباع مجموع تلك الآراء الاجتهادية، التي انتهى إليها أولئك المجتهدون، يدلّ على ذلك قول الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

 

 فإن الأمر بسؤال أهل الذكر، وهم العلماء إنما هو فرع عن الأمر باتباعهم، وهل الدّين إلا ما أمر الله عباده به؟، ويدل عليه أيضاً، ما تم الاتفاق عليه، من أن المجتهد إذا عاد، فغير اجتهاده في مسألة واحدة، فإن اجتهاده اللاحق، لا ينقض اجتهاده السابق في المسألة ذاتها. ووجه[2] الدلالة، أن الاجتهاد الذي توفرت شروطه، يُنَزَّل منزلة النص في دلالته على الحكم الشرعي.

 

فكما أن اتباع مدلول النص واجبٌ ديني، فكذلك اتباع ما انتهى إليه النظر الاجتهادي في حق المجتهد ومقلده واجبٌ ديني، فإذا عرض له بعد ذلك اجتهاد آخر في المسألة ذاتها، وانتهى إلى ترجيح اجتهاد مخالف لما كان قد ظنه وارتآه، فإنما يكون ذلك: كورود نص معارض للنص الذي قبله، ينسخه، ويُنهي زمنَ العمل به، ولا يحمل أي دلالة على أنه كان خطأ، أو باطلاً من أساسه، فالاجتهاد الثاني- أيضاً- لا سلطان له على الزمن، الذي أبرم فيه الاجتهاد الأول؛ لأنه استظل بحكم ديني صحيح، وإنما ينبسط سلطانه على الزمن الثاني، الذي ظهر فيه الاجتهاد الجديد، عن طريق النسخ والإنهاء فقط.  

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات