التراث ودوره في نهوض الأمم

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

أن تراث الأمة يعتبر المرجع الأساسي في تشكيل هوية الأمة، إذ أنه يمثل المزاج النفسي والفكري للأمة الذي تكون عبر تفاعلاتها الإنسانية ونشاطاتها البشرية مع غيرها من الأمم عبر التاريخ، وهذا المزاج هو الجوهر الحقيقي لهوية الأمة الثقافية والاجتماعية والحضارية، والتجليات والمظاهر المختلفة في إنتاج الأمم ترجع دائما إلى هذه الهوية التي تمثل عصارة ضمير هذه الأمة، وهي مرجعية ثابتة قوية تجعل محاولات تجاوزها أو تغيير صبغتها أو تفريغها من مضامينها بمثابة عبث جوهري في أساسات هوية الأمة، ومن ثم

 

 

 

 

 

تراث الأمم هو حصاد تفاعلها الإنساني ونشاطها البشري عبر عهود تاريخها من وقت ظهورها وصولا إلى وقت فقدان الشعور بقيمة وأثر هذا التراث، فتفاعل الأمم دينيا وعقائديا وفكريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وعسكريا مع الأمم الأخرى، خلال المحتوى الزماني ،كل ذلك يشكل تراث الأمم. وكلما كانت الأمة عريقة ذات خبرة تاريخية كبيرة، كلما كان لها تجارب كثيرة وتفاعلات متشابكة وعطاءات غزيرة على كل المستويات، لذلك فإننا لا نكاد نرى أمة عريقة إلا وهي تحتفي بتراثها وتضفي عليه نوعا من القداسة وتعتبره من أسباب الصمود والمفاخرة بين الأمم.

 

ويعد التراث من أهم المفاهيم والقضايا التي انشغل بها الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما يزال النقاش حول التراث مستمرا إلى يومنا هذا، من خلال طرح مفاهيمه ومصطلحاته الإجرائية، ورصد قضاياه الفكرية والمنهجية، وإبراز إشكالياته رؤية وموضوعا ومنهجا. ويتمظهر ذلك بشكل واضح في مختلف حقول العلوم الإنسانية و مجالات المعرفة الأدبية والفنية والفكرية؛ نظرا لأهمية التراث العربي الإسلامي في بناء الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة معرفيا وفكريا وتصوريا، ومدى دوره الكبير في الحفاظ على الهوية والذات والخصوصية الثقافية والحضارية، وكذلك نظرا لبعده الإستراتيجي في تحديد الانطلاقة الصحيحة من أجل تحقيق المشروع المستقبلي، وذلك عبر ترسيخ ثقافة عربية أصيلة ومعاصرة. ولن يتحقق ذلك إلا بالعودة إلى التراث العربي الإسلامي، ونقد مواقفه فهما وتفسيرا، بغية استكشاف المواقف الإيديولوجية الإيجابية لمواجهة الاستعمار من جهة، ومحاربة التخلف من جهة ثانية، وتقويض النزعة المركزية الأوروبية من جهة ثالثة.

 

أولا: مفهوم التراث لغة واصطلاحا

 

من يتأمل الدلالة المعجمية لكلمة التراث، فسيجدها بطبيعة الحال مشتقة من فعل ورث، ومرتبطة دلاليا بالإرث والميراث والتركة والحسب، وما يتركه الرجل الميت، ويخلفه لأولاده. يقول ابن منظور في كتابه" لسان العرب":" ورث الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. أي: يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له. ورثه ماله ومجده، وورثه عنه ورثا ورثة ووراثة وإراثة. ورث فلان أباه يرثه وراثة ومِيراثا ومَيراثا. وأورث الرجل ولده مالا إيراثا حسنا. ويقال: ورثت فلانا مالا أرثه ورثا وورثا إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك. وقال الله تعالى إخبارا عن زكريا ودعائه إياه ( هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ) أي: يبقى بعدي فيصير له ميراثي.

 

والورث والإرث والتراث والميراث: ما ورث؛ وقيل: الورث والميراث في المال؛ والإرث في الحسب. وورثّ في ماله: أدخل فيه من ليس من أهل الوراثة. وتوارثناه: ورثه بعضنا بعضا قدما. ويقال: ورثت فلانا من فلان أي جعلت ميراثه له. وأورث الميت وارثه ماله. أي: تركه له. التراث: ما يخلفه الرجل لورثته، والتاء بدل من الواو. والإرث أصله من الميراث، إنما هو ورث، فقلبت الواو ألفا مكسورة لكسرة الواو.

 

والتراث اصطلاحا بمعناه العام: ما خلَّفه لنا أسلافُنا من عقائد وعلوم ومعارف، وثقافات وعادات وتقاليد، وتجارب وخبرات، وآثار وفنون...، لكن ما يَعنينا في هذا المقام هو التراث الفكري، المتمثِّل في الآثار المكتوبة التي حفظها التاريخ كاملة أو مبتورة، فوصلت إلينا بأشخاصها، وهذا التراث ليس له حدود تاريخيَّة معيَّنة، فكل ما خلَّفه مؤلف من إنتاج فكرى بعد حياته يُعدّ تراثا فكريا، وعليه فهو: كل ما وصل إلينا مكتوبا في أيِّ فرع من فروع العلوم والمعارف.

 

وهذا التراث الفكري يتضمن: العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية، والعلوم الإنسانية تضم العلوم الشرعية الدينية، والعلوم اللغوية، وغيرها كالتاريخ والاجتماع...، وظاهر أهمية النقل والتدوين؛ أي: أهمية المخطوطات، بالنسبة للعلوم الشرعية، فالقرآن الكريم حُفِظ في الكواغد، كما حُفِظ في الصدور، ونُقل إلينا بالتواتر، والسنة النبوية المشرفة حُفظت ودونت في الكتب، كما تناقلتها أفواه الرواة، وأما سائر العلوم الشرعية المبنية على الكتاب والسنة والمفسرة لهما، فهي مؤلفات إبداعية، كسائر إبداعات العرب في العلوم الإنسانية، لا غنى للأمة عن أكثرها، بل لا غِنى للبشرية عن كثير منها.

 

ومن المعلوم أن مصطلح التراث في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة مصطلح عام وغامض وفضفاض ومطاط، ومن الصعب الإحاطة به، وتطويقه بشكل دقيق؛ نظرا لتعدد دلالاته ومعانيه ومفاهيمه، واختلافها من باحث لآخر. والسبب في ذلك التباين اختلاف المرجعيات الفكرية والذهنية، وتنوع المشارب الثقافية، وتعدد المقاربات المرجعية، وتناقض المنظورات الإيديولوجية. ولكن ما يمكن قوله: إن مصطلح التراث لم يطرح في ساحة النقاش الفكري والإبداعي إلا مع صدمة الحداثة، وتغلغل الاستعمار في العالم العربي الإسلامي، وتزايد منطق الاستغلال، وبروز ظاهرة الاستلاب والتغريب، وتفاقم المسخ الثقافي، بله عن ارتباطه بمناقشات المفكرين لجدلية الأصالة والمعاصرة،وطرح مفهوم الهوية والخصوصية الحضارية والثقافية. وعلى أي حال، فهناك ثلاث نظريات عامة حول التراث: نظرية احتفائية بالتراث، وتسمى أيضا بالرؤية السلفية القائمة على إحياء الماضي، وبعثه من جديد تمجيدا وتنويها وإشادة.

 

ونظرة تغريبية ليبرالية مغالية ترفض الرجوع إلى التراث، كما يتضح ذلك جليا عند سلامة موسى الذي قال:"إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا ونعود إلى دعوة: عودوا إلى القدماء".وهناك نظرية توفيقية تجمع بين إيجابيات العودة إلى الماضي وإيجابيات الانفتاح على الغرب. ويمثل هذا الموقف أغلب الأكاديميين المعاصرين.

 

 وللتراث أهمية بالغة في مصائر الأمم، وذلك لاعتبارات قيمية عديدة وهامة من أبرزها :

 

1 ـ أن تراث الأمة يمثل في ضمير أبنائها بوتقة مشعة نحو النهوض والارتقاء للوصول نحو المعالي، على الرغم من أن الاستفادة العملية مع هذا التراث ربما لم تعد موضوعية في كثير من جوانبه، لاختلاف الأزمان، وتواصل الإبداع البشري لكل ما هو جديد. لكن التراث المجيد والسؤدد الحضاري يعطي جرعات مستمرة من القوة المعنوية لأبناء الأمة نحو السبق الحضاري، يخرج به المسلم المعاصر من إحساسه الثقيل بالتخلف والتبعية لأمم كان هو يوما ما يحكمها ويسيرها وتخضع لسلطانه.

 

2 ـ أن تراث الأمة يعتبر المرجع الأساسي في تشكيل هوية الأمة، إذ أنه يمثل المزاج النفسي والفكري للأمة الذي تكون عبر تفاعلاتها الإنسانية ونشاطاتها البشرية مع غيرها من الأمم عبر التاريخ، وهذا المزاج هو الجوهر الحقيقي لهوية الأمة الثقافية والاجتماعية والحضارية، والتجليات والمظاهر المختلفة في إنتاج الأمم ترجع دائما إلى هذه الهوية التي تمثل عصارة ضمير هذه الأمة، وهي مرجعية ثابتة قوية تجعل محاولات تجاوزها أو تغيير صبغتها أو تفريغها من مضامينها بمثابة عبث جوهري في أساسات هوية الأمة، ومن ثم هدم وتخريب لوجود الأمة الإنساني المميز عن غيرها من الأمم، وهو ما يقتضي بالضرورة ذوبان هذه الأمة بأجيالها الحديثة في هويات ثقافية وحضارية أخرى، وربما كانت هويات معادية.

 

3 ـ أن تراث الأمة يحقق معنى التواصل الإنساني في مسيرة الأمة بين الأجيال الماضية والحاضرة، مما يجعل من نهضتها بناء متماسكا، ومتناسقا ومتمازجا. وهذا التناغم والترابط في بناء الأمة يكسبها قوة وصمودا وحصانة أمام شتى محاولات الاختراق الهدام، ويمنحها مناعة ذاتية تحول بينها وبين عمليات التسلل الخارجية التي تبغي تمزيق روابطه وتفسد انسجامه.

 

 4 ـ أن التراث من الناحية الحركية السلوكية هو مستودع تجارب الأمم وذخيرتها البشرية في مواجهة الأزمات الداخلية والخارجية، ودفتر أحوالها صعودا وهبوطا، تقدما وتراجعا، قيادة وتبعية، وكلما تعمق جذر الأمة التاريخي كلما ازدادت خبراتها تنوعا وثراء، وبالتالي تزداد معالم قوتها الشخصية، وتتحدد بصورة أكثر لمعانا أسباب انتصارها وعوامل انكسارها.

 

كما إن لدراسة التراث وتحقيقه فوائد كثيرة للباحثين والدارسين وعموم الأمة منها:

 

1- إثراء المدخل التاريخي في تدريس العلوم، وتنمية الحس النقدي، والثقة بالنفس لدى الناشئة، والوقوف على طبيعة التطور العلمي ومنهجية البحث، والتفكير في العلوم المختلفة.

 

2- كشْف حالات الغش الفكري، والقرصنة العلمية من قِبَل بعض المؤرخين والنقلة، والمستشرقين في حق تراثنا العربي والإسلامي.

 

3- التأصيل الجيد لمختلف فروع العِلم المعاصر.

 

4- الكشف عن المزيد من النظريات والاختراعات المتقدمة في التراث الإسلامي، ونسوق مثالاً على ذلك: قوانين الحركة والجاذبية التي اكتشفها ابن ملكا البغدادي، والحسن الهمداني قبل نيوتن بعدة قرون.

 

5- يمكن توظيف نصوص جيِدة في أغراض التأصيل لمناهج البحث العلمي، ونظريات فلسفة العلم المعاصرة، ومن أمثلة ذلك: مقدمتا ابن الهيثم لكتابيه "المناظر"، و"في الشكوك على بطليموس".

 

6- تتضمن مخطوطات العلوم إفادات مباشرة، وغير مباشرة، تغني مؤرخي الحضارة، مثال ذلك: كتاب اليوزجاني في المنازل السبع، تضمَّن أدقَّ البيانات عن الضرائب، ونظام الخراج، وأعطيات العساكر، وكتاب "التيسير في صناعة التدبير"؛ لابن زَهْر الإشبيليِّ، الذي اشتمل على تفاصيلَ مهمَّة عن الصِّراعات والدسائس في أسرة المرابطين، مع أنَّه كتاب طِبٍّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تراث الأمم هو حصاد تفاعلها الإنساني ونشاطها البشري عبر عهود تاريخها من وقت ظهورها وصولا إلى وقت فقدان الشعور بقيمة وأثر هذا التراث، فتفاعل الأمم دينيا وعقائديا وفكريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وعسكريا مع الأمم الأخرى، خلال المحتوى الزماني ،كل ذلك يشكل تراث الأمم. وكلما كانت الأمة عريقة ذات خبرة تاريخية كبيرة، كلما كان لها تجارب كثيرة وتفاعلات متشابكة وعطاءات غزيرة على كل المستويات، لذلك فإننا لا نكاد نرى أمة عريقة إلا وهي تحتفي بتراثها وتضفي عليه نوعا من القداسة وتعتبره من أسباب الصمود والمفاخرة بين الأمم.

 

ويعد التراث من أهم المفاهيم والقضايا التي انشغل بها الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما يزال النقاش حول التراث مستمرا إلى يومنا هذا، من خلال طرح مفاهيمه ومصطلحاته الإجرائية، ورصد قضاياه الفكرية والمنهجية، وإبراز إشكالياته رؤية وموضوعا ومنهجا. ويتمظهر ذلك بشكل واضح في مختلف حقول العلوم الإنسانية و مجالات المعرفة الأدبية والفنية والفكرية؛ نظرا لأهمية التراث العربي الإسلامي في بناء الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة معرفيا وفكريا وتصوريا، ومدى دوره الكبير في الحفاظ على الهوية والذات والخصوصية الثقافية والحضارية، وكذلك نظرا لبعده الإستراتيجي في تحديد الانطلاقة الصحيحة من أجل تحقيق المشروع المستقبلي، وذلك عبر ترسيخ ثقافة عربية أصيلة ومعاصرة. ولن يتحقق ذلك إلا بالعودة إلى التراث العربي الإسلامي، ونقد مواقفه فهما وتفسيرا، بغية استكشاف المواقف الإيديولوجية الإيجابية لمواجهة الاستعمار من جهة، ومحاربة التخلف من جهة ثانية، وتقويض النزعة المركزية الأوروبية من جهة ثالثة.

 

أولا: مفهوم التراث لغة واصطلاحا

 

من يتأمل الدلالة المعجمية لكلمة التراث، فسيجدها بطبيعة الحال مشتقة من فعل ورث، ومرتبطة دلاليا بالإرث والميراث والتركة والحسب، وما يتركه الرجل الميت، ويخلفه لأولاده. يقول ابن منظور في كتابه" لسان العرب":" ورث الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. أي: يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له. ورثه ماله ومجده، وورثه عنه ورثا ورثة ووراثة وإراثة. ورث فلان أباه يرثه وراثة ومِيراثا ومَيراثا. وأورث الرجل ولده مالا إيراثا حسنا. ويقال: ورثت فلانا مالا أرثه ورثا وورثا إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك. وقال الله تعالى إخبارا عن زكريا ودعائه إياه ( هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ) أي: يبقى بعدي فيصير له ميراثي.

 

والورث والإرث والتراث والميراث: ما ورث؛ وقيل: الورث والميراث في المال؛ والإرث في الحسب. وورثّ في ماله: أدخل فيه من ليس من أهل الوراثة. وتوارثناه: ورثه بعضنا بعضا قدما. ويقال: ورثت فلانا من فلان أي جعلت ميراثه له. وأورث الميت وارثه ماله. أي: تركه له. التراث: ما يخلفه الرجل لورثته، والتاء بدل من الواو. والإرث أصله من الميراث، إنما هو ورث، فقلبت الواو ألفا مكسورة لكسرة الواو.

 

والتراث اصطلاحا بمعناه العام: ما خلَّفه لنا أسلافُنا من عقائد وعلوم ومعارف، وثقافات وعادات وتقاليد، وتجارب وخبرات، وآثار وفنون...، لكن ما يَعنينا في هذا المقام هو التراث الفكري، المتمثِّل في الآثار المكتوبة التي حفظها التاريخ كاملة أو مبتورة، فوصلت إلينا بأشخاصها، وهذا التراث ليس له حدود تاريخيَّة معيَّنة، فكل ما خلَّفه مؤلف من إنتاج فكرى بعد حياته يُعدّ تراثا فكريا، وعليه فهو: كل ما وصل إلينا مكتوبا في أيِّ فرع من فروع العلوم والمعارف.

 

وهذا التراث الفكري يتضمن: العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية، والعلوم الإنسانية تضم العلوم الشرعية الدينية، والعلوم اللغوية، وغيرها كالتاريخ والاجتماع...، وظاهر أهمية النقل والتدوين؛ أي: أهمية المخطوطات، بالنسبة للعلوم الشرعية، فالقرآن الكريم حُفِظ في الكواغد، كما حُفِظ في الصدور، ونُقل إلينا بالتواتر، والسنة النبوية المشرفة حُفظت ودونت في الكتب، كما تناقلتها أفواه الرواة، وأما سائر العلوم الشرعية المبنية على الكتاب والسنة والمفسرة لهما، فهي مؤلفات إبداعية، كسائر إبداعات العرب في العلوم الإنسانية، لا غنى للأمة عن أكثرها، بل لا غِنى للبشرية عن كثير منها.

 

ومن المعلوم أن مصطلح التراث في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة مصطلح عام وغامض وفضفاض ومطاط، ومن الصعب الإحاطة به، وتطويقه بشكل دقيق؛ نظرا لتعدد دلالاته ومعانيه ومفاهيمه، واختلافها من باحث لآخر. والسبب في ذلك التباين اختلاف المرجعيات الفكرية والذهنية، وتنوع المشارب الثقافية، وتعدد المقاربات المرجعية، وتناقض المنظورات الإيديولوجية. ولكن ما يمكن قوله: إن مصطلح التراث لم يطرح في ساحة النقاش الفكري والإبداعي إلا مع صدمة الحداثة، وتغلغل الاستعمار في العالم العربي الإسلامي، وتزايد منطق الاستغلال، وبروز ظاهرة الاستلاب والتغريب، وتفاقم المسخ الثقافي، بله عن ارتباطه بمناقشات المفكرين لجدلية الأصالة والمعاصرة،وطرح مفهوم الهوية والخصوصية الحضارية والثقافية. وعلى أي حال، فهناك ثلاث نظريات عامة حول التراث: نظرية احتفائية بالتراث، وتسمى أيضا بالرؤية السلفية القائمة على إحياء الماضي، وبعثه من جديد تمجيدا وتنويها وإشادة.

 

ونظرة تغريبية ليبرالية مغالية ترفض الرجوع إلى التراث، كما يتضح ذلك جليا عند سلامة موسى الذي قال:"إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا ونعود إلى دعوة: عودوا إلى القدماء".وهناك نظرية توفيقية تجمع بين إيجابيات العودة إلى الماضي وإيجابيات الانفتاح على الغرب. ويمثل هذا الموقف أغلب الأكاديميين المعاصرين.

 

 وللتراث أهمية بالغة في مصائر الأمم، وذلك لاعتبارات قيمية عديدة وهامة من أبرزها :

 

1 ـ أن تراث الأمة يمثل في ضمير أبنائها بوتقة مشعة نحو النهوض والارتقاء للوصول نحو المعالي، على الرغم من أن الاستفادة العملية مع هذا التراث ربما لم تعد موضوعية في كثير من جوانبه، لاختلاف الأزمان، وتواصل الإبداع البشري لكل ما هو جديد. لكن التراث المجيد والسؤدد الحضاري يعطي جرعات مستمرة من القوة المعنوية لأبناء الأمة نحو السبق الحضاري، يخرج به المسلم المعاصر من إحساسه الثقيل بالتخلف والتبعية لأمم كان هو يوما ما يحكمها ويسيرها وتخضع لسلطانه.

 

2 ـ أن تراث الأمة يعتبر المرجع الأساسي في تشكيل هوية الأمة، إذ أنه يمثل المزاج النفسي والفكري للأمة الذي تكون عبر تفاعلاتها الإنسانية ونشاطاتها البشرية مع غيرها من الأمم عبر التاريخ، وهذا المزاج هو الجوهر الحقيقي لهوية الأمة الثقافية والاجتماعية والحضارية، والتجليات والمظاهر المختلفة في إنتاج الأمم ترجع دائما إلى هذه الهوية التي تمثل عصارة ضمير هذه الأمة، وهي مرجعية ثابتة قوية تجعل محاولات تجاوزها أو تغيير صبغتها أو تفريغها من مضامينها بمثابة عبث جوهري في أساسات هوية الأمة، ومن ثم هدم وتخريب لوجود الأمة الإنساني المميز عن غيرها من الأمم، وهو ما يقتضي بالضرورة ذوبان هذه الأمة بأجيالها الحديثة في هويات ثقافية وحضارية أخرى، وربما كانت هويات معادية.

 

3 ـ أن تراث الأمة يحقق معنى التواصل الإنساني في مسيرة الأمة بين الأجيال الماضية والحاضرة، مما يجعل من نهضتها بناء متماسكا، ومتناسقا ومتمازجا. وهذا التناغم والترابط في بناء الأمة يكسبها قوة وصمودا وحصانة أمام شتى محاولات الاختراق الهدام، ويمنحها مناعة ذاتية تحول بينها وبين عمليات التسلل الخارجية التي تبغي تمزيق روابطه وتفسد انسجامه.

 

 4 ـ أن التراث من الناحية الحركية السلوكية هو مستودع تجارب الأمم وذخيرتها البشرية في مواجهة الأزمات الداخلية والخارجية، ودفتر أحوالها صعودا وهبوطا، تقدما وتراجعا، قيادة وتبعية، وكلما تعمق جذر الأمة التاريخي كلما ازدادت خبراتها تنوعا وثراء، وبالتالي تزداد معالم قوتها الشخصية، وتتحدد بصورة أكثر لمعانا أسباب انتصارها وعوامل انكسارها.

 

كما إن لدراسة التراث وتحقيقه فوائد كثيرة للباحثين والدارسين وعموم الأمة منها:

 

1- إثراء المدخل التاريخي في تدريس العلوم، وتنمية الحس النقدي، والثقة بالنفس لدى الناشئة، والوقوف على طبيعة التطور العلمي ومنهجية البحث، والتفكير في العلوم المختلفة.

 

2- كشْف حالات الغش الفكري، والقرصنة العلمية من قِبَل بعض المؤرخين والنقلة، والمستشرقين في حق تراثنا العربي والإسلامي.

 

3- التأصيل الجيد لمختلف فروع العِلم المعاصر.

 

4- الكشف عن المزيد من النظريات والاختراعات المتقدمة في التراث الإسلامي، ونسوق مثالاً على ذلك: قوانين الحركة والجاذبية التي اكتشفها ابن ملكا البغدادي، والحسن الهمداني قبل نيوتن بعدة قرون.

 

5- يمكن توظيف نصوص جيِدة في أغراض التأصيل لمناهج البحث العلمي، ونظريات فلسفة العلم المعاصرة، ومن أمثلة ذلك: مقدمتا ابن الهيثم لكتابيه "المناظر"، و"في الشكوك على بطليموس".

 

6- تتضمن مخطوطات العلوم إفادات مباشرة، وغير مباشرة، تغني مؤرخي الحضارة، مثال ذلك: كتاب اليوزجاني في المنازل السبع، تضمَّن أدقَّ البيانات عن الضرائب، ونظام الخراج، وأعطيات العساكر، وكتاب "التيسير في صناعة التدبير"؛ لابن زَهْر الإشبيليِّ، الذي اشتمل على تفاصيلَ مهمَّة عن الصِّراعات والدسائس في أسرة المرابطين، مع أنَّه كتاب طِبٍّ.

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات