قضايا دعوية معاصرة (4) الإيمان والكفر

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

عدم تكفير أهل القبلة بمطلق الذنوب إلا بالاستحلال أو الجحود، فقد اتفق أهل السنة على أن المعاصي هي بريد الكفر، ومن إرث الجاهلية، إلا إن صاحبها لا يكفر بإتيانها إلا على وجه الاستحلال، وأن أصحاب الكبائر تحت المشيئة الإلهية، إن شاء عفا، وإن شاء عذب، ولا نشهد لهم بكفر في الدنيا، ولا بمنزلة بين المنزلتين، كما لا نحكم عليهم بخلود في النار كما ذهبت المعتزلة والخوارج، والاستحلال تارة..

 

 

 

 

لقد كان الخلاف في حقيقة الإيمان أول خلاف نشأ بين أهل القبلة، وأول نبتة للبدع الغليظة كانت يوم أن خرجت طائفة من المؤمنين متبنية لبدعة التكفير بمطلق المعصية، فاستحلوا دماء مخالفيهم، وقاتلوا الأمة أشد ما يكون القتال، بل كان شعارهم؛ ترويع وقتل أهل القبلة وترك وتأمين أهل الشرك والكفر. ومنذ أن ظهرت بدعة التكفير على يد الخوارج ومسلسل البدع لم يتوقف في الأمة، إذ ظهرت المرجئة ثم القدرية ثم الجهمية ثم الجبرية وهكذا، وهذا الشطط جميعه بدأ مع الانحراف في تعريف حقيقة الإيمان، بين من يجعل الإيمان حقيقة كلية تذهب كلها بذهاب أو نقصان بعضها، فيضم العمل بقسميه من حقيقة الإيمان، وبين يجعل الإيمان قول لا عمل، ويخرج كل الأعمال من مسمى الإيمان، ثم توالت الانشطارات والانشقاقات لوقتنا الحاضر. ومن هنا نقول أننا في أمس الحاجة لتحرير حقيقة الإيمان بأن نميز المحكم من المتشابه، وموضع الإجماع من محال النزاع، حتى لا تختلط الأمور فنترخص في المجمع عليه، وننكر في مجتهد فيه.

 

الثوابت والمحكمات في قضية الإيمان:

 

أولا: نصوص الشرع هي الضابط الوحيد لتحرير المصطلحات، فالإيمان والكفر وغيرهما من الألفاظ والمصطلحات الشرعية يجب أن يرجع في بيانها وضبطها إلى الكتاب والسنة والآثار السلفية، فقد بيّن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - المراد من هذه المصطلحات والألفاظ بصورة كاملة لا يحتاج معها لشواهد أو اشتقاقات من أجل الاستدلال عليها، لذلك عند الاختلاف لابد من الرجوع إلى الكتاب والسنة وبيان الله ورسوله فيهما فهو شاف كاف. قال ابن تيمية - - رحمه الله - -: "وما ينبغي أن يعلم، أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم ".

 

ثانيا: الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل، والمقصود بالقول هنا هو قول القلب: وهو تصديق القلب، وإقراره، ومعرفته. وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين، والإقرار بلوازمهما. والمقصود بالعمل عمل القلب: وهو قبوله، وانقياده، ومحبته، وإخلاصه. وعمل الجوارح: وهو سائر ما افترض الله - عز وجل - على عباده من أعمال الجوارح. قال الإمام البخاري - رحمه الله -: " لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أن أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ". وقد نقل اللالكائي هذا المعنى في اعتقاد أهل السنة عن الأئمة الأعلام مثل الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وغيرهم كثير.

 

ثالثا: أصل الإيمان تصديق الخبر والانقياد للأمر، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر بلا أدنى ريب، ولذلك لم يعتبر يهود المدينة مثل حي بن أخطب وغيره مسلمين باعترافهم بنبوة الرسول- صلى الله عليه وسلم -، لأنه اعتراف بمعنى الاخبار لا بمعنى الاقرار والانقياد، فمجرد العلم والإخبار عن هذا العلم ليس بإيمان، حتى يظهر ما يتضمن الإقرار والانقياد، بالقول والفعل، فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فكانوا في ميزان الشرع كافرين معاندين في الباطن. وأبو طالب عم النبي- صلى الله عليه وسلم - قد استفاض عنه العلم بنبوة ابن أخيه، وأنشد في ذلك أشعارا سائرة، ولكنه امتنع عن الإقرار بالتوحيد، حبا لدين آبائه وأجداده، ومخافة من معايرة قومه له ولولده، فمات كافرا. قال ابن تيمية - رحمه الله-: " ومعلوم أن الإيمان هو الانقياد، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب وهو الانقياد، تصديق الرسول فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار بالله هو الاعتراف به، والعبادة له، والكفر هو عدم الإيمان، وسواء كان معه تكذيب، أو استكبار، أو إباء، أو إعراض، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر ". قال ابن القيم - رحمه الله -: " فإن الإيمان ليس مجرد التصديق، كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد. وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبنيه، بل هو معرفته المستلزمة لإتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمى تصديقا، فليس هو التصديق المستلزم للإيمان. فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته ".

 

رابعا: التولي عن تحكيم الشريعة كالتكذيب بها، وكلاهما كفر أكبر مخرج من الملة، وهذه حقيقة نابعة من أصل أن الإيمان هو الإقرار والانقياد، فمن لم يحصل له من ذلك شيء فهو كافر أصلي، لذلك كان رد الحكم الشرعي والامتناع عن قبوله والالتزام به دينا يعبد الله - عز وجل - به، وحكما واجب الإتباع في موارد النزاع، كان من الكفر الأكبر، قال تعالى: ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) [ البقرة 34]، فلم يكن كفر إبليس عن تكذيب، ولكن عن امتناع واستكبار. قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [ النساء 65 ].

 

قال الإمام الجصاص في تفسير الآية: " وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله – تعالى -، أو أوامر رسوله- صلى الله عليه وسلم - فهو خارج عن الإسلام، وسواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة بارتداد من امتنع من أداء الزكاة، قتلهم وسبي ذراريهم، لأن الله - تعالى - حكم بأن من لم يسلم للنبي- صلى الله عليه وسلم - قضاءه وحكمه، فليس من أهل الإيمان ". لذلك حكم الصحابة على مانعي الزكاة بالارتداد وقاتلوهم عليها. ويعتبر القوانين الوضعية البشرية من أبرز صور التولي عن قبول الحكم الشرعي، ومعظم هذه القوانين تهدر وتبطل الأحكام الشرعية، حتى وإن وجد تشابه بين الحكمين في بعض أجزائه، إلا إن المرجعية في النهاية تكون للقوانين الوضعية، وهو عين الامتناع عن تطبيق شرع الله.

 

خامسا: الإيمان يزيد وينقص ويتفاضل أهله، فالشريعة الإسلامية مليئة إلى حد التواتر بالنصوص من الكتاب والسنة والآثار السلفية الدالة بمنطقوها ومفهومها على هذا الأمر، نذكر منها طرفا بسيطا: قال تعالى: ( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) [ الفتح 4]، ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) [ الأنفال 2 ]، ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) [ التوبة 124]. وفي أحاديث الشفاعة روايات كثيرة بأن الله - عز وجل - سيخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ومثقال برة، ومثقال شعيرة، ومثقال خردة، وهكذا.

 

سادسا: الكفر كفران، ناقل عن الملة، وغير ناقل، فأما الكفر الناقل عن الملة، فضابطه عدم الإقرار بشيء مما أنزل الله، من باب التكذيب والرد. وأما الكفر غير الناقل، ويسمى كفرا أصغر، وهو ما ورد في نصوص الوعيد التي اتفق أهل العلم على أنها لا تخرج من الإيمان إلا بالاستحلال، مثل الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، وقتال المسلمين. ومثل هذا التقسيم ينطبق على سائر ألفاظ الذم: " من النفاق والشرك والظلم والفسق ونحوه ذلك، حتى أن الإمام البخاري عنون في كتابه الصحيح بابا لذلك سماه: باب كفران العشير وكفر دون كفر، وساق فيه قوله- صلى الله عليه وسلم -: " أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن " قيل: " أيكفرن بالله يا رسول الله ؟ قال: " يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط ". قال ابن تيمية: " والنفاق كالكفر، نفاق دون نفاق، ولهذا كثيرا ما يقال: كفر ينقل عن الملة وكفر لا ينقل، ونفاق أكبر ونفاق أصغر، كما يقال: الشرك شركان: أصغر، وأكبر ".

 

سابعا: ثبوت عقد الإسلام لكل من أقر بالشهادتين حتى يتلبس بناقض جلي من نواقض الإسلام، والإقرار المقصود في هذا المقام، هو الإقرار الالتزامي الذي يقصد به الإجابة إلى الإيمان، وليس مجرد الإقرار الخبري الخالي من قول القلب، كما هو حال كثير من علماء الغرب في الفيزياء والكون، عندما يرون إعجاز القرآن الكريم فينطق بعضهم بما يعد إقرارا، مع بقائه على دين قومه. قال النووي - رحمه الله -: " واتفق أهل السنة، من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، ولا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك، ونطق الشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا، إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنية، أو لغير ذلك، فإنه يكون مؤمنا ".

 

والناقض المشار إليه قد يؤدي إلى سقوط ركن التصديق إذا كان تكذيبا وإنكارا، وقد يؤدي إلى سقوط ركن الانقياد إن كان ردا وإباء واستكبارا. ويحتاج تحقيق ذلك في معين إلى التحقق من توافر شروط وانتفاء موانع. وهذا يقتضي أيضا وجوب التحقق إذا حدث لوث في دلالة الشهادتين على الإقرار المجمل بالإسلام، فإن حدث لوث في دلالة الشهادتين على الإجابة إلى الإيمان، وإرادة الدخول في الإسلام، وجب التحقق، ويكفي عن قائلهما ويتثبت من أمره، حتى يستوفي منه ما يدل على إقراره المجمل بالإسلام، براءته من كل دين يخالفه. قال الشافعي - رحمه الله - في كتاب " الأم ": " والإقرار بالإيمان وجهان، فمن كان من أهل الأوثان، ومن لا دين نبوة وكتاب، فإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقد أقر الإيمان، ومتى رجع عنه قتل. ومن كان على دين اليهودية والنصرانية، فهؤلاء يدعون دين موسى وعيسى - صلوات الله وسلامه عليهما -، وقد بدلوا منه، وقد أخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم -، فكفروا بترك الإيمان به وإتباع دينه، مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله. فقد قيل لي: إن فيهم من هو مقيم على دينه، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويقول: لم يبعث إلينا، فإن كان فيهم أحد هكذا لم يكن مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول: وأن دين محمد حق أو فرض، وأبرأ مما خالف دين محمد- صلى الله عليه وسلم - أو خالف دين الإسلام، فإن قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان، فإن رجع عنه استتيب، فإن تاب وإلا قتل "

 

والذي يتدبر مقولة الشافعي يجد أن مناط الإيمان عنده هو القبول المجمل للإسلام والبراءة المجملة مما يخالفه، ومتى نطق الإنسان بالشهادتين ثبت له عقد الإسلام بيقين. قال القاضي عياض - رحمه الله - ، كما نقل عنه النووي في شرحه لصحيح مسلم: " اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلا الله، تعبيرا عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام وقوتل عليه. فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقوله: لا إله إلا الله. إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: " وأني رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ." وكلام عياض متوافق تمام الموافقة مع كلام الشافعي رحمة الله عليهم جميعا. ونقل الحافظ ابن حجر نفس الكلام بمعناه عن البغوي ناصر السنة، وهو قول سائر علماء أهل السنة. مع مراعاة بقاء القاعدة الشرعية: إذا وردت الشبهة على الإقرار المجمل بالإسلام فقد وجب التحقق. كما هو الحال في المجتمعات التي تكثر بها النحل الكفرية مثل القاديانية والبهائية والنصيرية وغير ذلك.

 

ثامنا: التلازم بين الظاهر والباطن في قضية الإيمان، فالقلب إذا كان عامرا بالإيمان، فلابد أن ينطبع ذلك على أعمال الجوارح، بالاستقامة على أمر الله عز وجل، وإذا كان القلب فاسدا كان الظاهر فاسدا، إلا أن يكون منافقا، يبدي ما لا يبطن، ولا يتصور وجود الإيمان في القلب مع انعدام جميع أعمال الجوارح. وفي الحديث :" ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ". فمتى نقصت الأعمال الظاهرة دل ذلك على نقصان الإيمان في القلب، ومتى زادت كان ذلك لزيادته، ولهذا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع آية على ما في الباطن، فإن كان الظاهر فاسدا حكم على الباطن بذلك، وعلى هذه القاعدة تدور كلية التشريع وعمدة التكليف في إقامة حدود الشعائر الإسلامية. قال ابن تيمية: " وإذا قام في القلب التصديق به والمحبة له، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك، من الأقوال والأفعال الظاهرة، ..، كما أنه ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه ". قال ابن رجب في جامعه للعلوم والحكم: " وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإراداته، فإن كانت حركته وإراداته لله وحده، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركات القلب وإرادته لغير الله، فسد وفسدت حركات الجسد، بحسب فساد حركة القلب "

 

وممن هذه الثوابت والمحكمات السالف ذكرها يتضح لنا عدة مسائل هامة في باب الإيمان منها:

 

1 ـ أن من اقتصر في تعريف الإيمان على التصديق، من أهل السنة ومن عامة المرجئة، كان مقصوده التصديق الانقيادي المستلزم لقبول الأحكام والتزام الشرائع، فلم يؤثر إخراج أعمال القلوب من حقيقة الإيمان، وقصره على مجرد التصديق الخبري إلا الجهمية، وقد أجمع العلماء على تكفيرهم بهذه المقولة. قال القسطلاني في تعريف الإيمان: " وهو لغة التصديق. وهو كما قال التفتازاني: إذعان لحكم المخبر وقبوله. فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر، من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم ". قال ابن القيم: " ونحن نقول: الإيمان هو التصديق. ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا، لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح، واليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم، مؤمنين صادقين،. فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما، اعتقاد الصدق. والثاني، محبة القلب وانقياده ". قال الكمال بن الهمام الحنفي: " فلابد في تحقيق الإيمان من المعرفة، أعني إدراك مطابقة دعوى النبي للواقع. ومن أمر آخر: هو الاستسلام الباطن والانقياد لقبول الأوامر والنواهي، المستلزم ذلك الاستسلام والانقياد للإجلال، أي إجلال الإله تعالى، وعدم الاستخفاف بأوامره ونواهيه ". قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه الطحاوية: " والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك، لكان الكفر أعظم، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان، يكون تصديقا وموافقة وموالاة وانقيادا، ولا يكفي مجرد التصديق ".

 

2 ـ بطلان ما ذهب إليه الخوارج والمرجئة من القول بأن الإيمان معنى واحد، لا يتجزأ ولا يتبعض، إذا ذهب بعضه، ذهب كله، وهو الأمر الذي أدى بالخوارج والمرجئة إلى نقيضين، فالخوارج أدخلت جميع الأعمال في أصل الإيمان تعلقا بظواهر نصوص الوعيد، والمرجئة أخرجوها جميعا عن مسمى الإيمان تعلقا بظواهر نصوص الوعد، ولا يستفاد من كلام كل فريق إلا بطلان ما ذهب إليه الفريق الآخر. قال ابن تيمية: " إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله ولم يبق منه شيء، ثم قالت المعتزلة والخوارج: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله. وهو الإيمان المطلق كما قال أهل الحديث. قالوا: فإذا ذهب شيء منه، ولم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار. وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه، لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر. ونصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه، وبقاء بعضه ".

 

3 ـ الإيمان ينتقض بالردة، كما ينتقض الوضوء بالحدث، الردة تكون بمفارقة ملة الإسلام بالكلية إلى ملة أخرى أو الإلحاد البحت، وتكون أيضا بعدم الإقرار بشيء مما أنزله الله، تكذيبا أو ردا، وعقوبة المرتد إذا أصر بعد الاستتابة وإقامة الحجة الرسالية والإمهال ثلاثة أيام هي القتل، وعدم إجراء أحكام الإسلام عليه بعد موته، من الغسل والدفن في مقابر الإسلام، قال- صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه ".

 

4 ـ عدم تكفير أهل القبلة بمطلق الذنوب إلا بالاستحلال أو الجحود، فقد اتفق أهل السنة على أن المعاصي هي بريد الكفر، ومن إرث الجاهلية، إلا إن صاحبها لا يكفر بإتيانها إلا على وجه الاستحلال، وأن أصحاب الكبائر تحت المشيئة الإلهية، إن شاء عفا، وإن شاء عذب، ولا نشهد لهم بكفر في الدنيا، ولا بمنزلة بين المنزلتين، كما لا نحكم عليهم بخلود في النار كما ذهبت المعتزلة والخوارج، والاستحلال تارة يؤول إلى كفر التكذيب، تارة يؤول إلى كفر الرد، وذلك كله يعود على أصل الإيمان بالنقض. والأدلة على ذلك كثيرة، فالشريعة قد فرقت بين الشرك والكفر من ناحية، وبين بقية الذنوب من ناحية أخرى، قال تعالى: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء 48]. وقوله ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) [ الحجرات 7 ]، ففرق الله - تعالى - في الآيات بين الكفر والشرك والفسوق والعصيان. ومنها تفريق الشريعة لعقوبة المرتد المقررة لمن وقع في الكفر والشرك، وبين العقوبات المقررة للمعاصي من جلد ورجم وقطع وقتل، في حين أن عقوبة الردة واحدة وهي القتل، ومنها أحاديث الشفاعة الكثيرة والمتواترة، وفيها أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قد ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته.

 

وآثار الأئمة والعلماء من السلف والخلف على ذلك كثيرة، قال أحمد - رحمه الله -: " ومن مات من أهل القبلة موحدا يصلى عليه، ويستغفر له ولا تترك الصلاة عليه لذنب صغيرا كان أو كبيرا، وأمره إلى الله - عز وجل - ". وقال ابن المديني: " ومن لقيه مصرا، غير تائب من الذنوب التي قد استوجبت بها العقوبة، فأمره إلى الله - عز وجل -، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ". قال أبو زرعة: " ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل ". قال النووي: " واعلم أن مذهب أهل الحق، أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، لا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه، فيّعرف ذلك، فإن استمر حكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل، أو غير ذلك، من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة "

 

قضايا دعوية معاصرة (1) العذر بالجهل

قضايا دعوية معاصرة (2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

سلسلة قضايا دعوية معاصرة (3) الاجتهاد والتقليد

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات